قحطان جاسم جواد
ظهيرة يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول 1963 توقفت محطة إذاعة بغداد عن بثها الاعتيادي لتذيع نبأ رحيل المطرب العراقي ناظم الغزالي في سابقة هي الأولى من نوعها، بعدما كانت لا تقطع برامجها إلا في الانقلابات العسكرية. وبذلك انتهت مرحلة ذهبية من تاريخ الغناء العراقي، كان يمثلها الغزالي بصوته المغرد وبثقافته وتمرده على أساليب المقام المعروفة.
ويعود نسب ناظم أحمد ناصر خضير الجبوري إلى مدينة سامراء شمال بغداد، أما لقب الغزالي فلحقه من جده لأمه (جهاد) الذي يلقب بالغزال لرشاقته وطوله وسرعته في الحركة والمشي.
أنهى الغزالي دراسته الابتدائية والمتوسطة في المدرسة المأمونية في بغداد، والتحق بمعهد الفنون الجميلة قسم المسرح، ليحتضنه النجم المسرحي العراقي الشهير حقي الشبلي، فرأى فيه ممثلًا واعدًا يمتلك القدرة على أن يكون نجمًا، لكن الظروف القاسية دفعته ليغادر المعهد، ويعمل مراقبًا في مشروع الطحين بأمانة العاصمة بغداد.
ابتعاده عن المعهد لم يمنعه من التعلم والقراءة المكثفة في الغناء والموسيقى، فكان يقرأ كثيرا ويستمع لقمم الغناء العربي. بعد حين عاود الدراسة وأكمل المعهد؛ وبذلك دخل الوسط الفني متسلحا بثقافة موسيقية عالية أهلته ليكون مطربا ممتازا بشهادة كبار الفنانين.
وانضم عام 1947 إلى فرقة الموشحات بعد اجتيازه اختبار الإذاعة بإشراف الشيخ علي الدرويش. وصوته “يعتبر من الأصوات الرجولية الحادة (التينور) وهو الصوت الرجالي الأول في التصنيفات الغربية” حسب ما قال عنه الناقد الموسيقي عادل الهاشمي في كتابه الأصوات العراقية.
أمَّا مجاله الصوتي فيراوح بين أوكتاف ونصف إلى أوكتافين. وتنحصر حلاوة الأماكن في صوته بين النصف الأول والثاني من الأوكتافين. بهذا الشكل تكون مساحة صوته تزيد على 14 درجة في السلم الموسيقي. ومع انفتاح حنجرته، كانت قدرته غير عادية على إجادة الموال وتوصيل النوتات بوضوح، بجوابه المتين وقراره الجيد في مختلف ألوان المقامات وأنواعها، وساعده في ذلك معرفته وتعمقه في المقامات العراقية وأصولها، فضلا عن انفتاح حنجرته وصفائها.
كما أخذ الغزالي يكتب مقالات فنية ونقدا معمقا في الصحافة منذ عام 1952، منها ما نشره في جريدة النديم، كما كتب مذكراته وصنف طبقة العازفين وشرح أصول الديالوج الغنائي.
وفي الخمسينيات وبجهد شخصي بحت، بدأ رحلاته إلى الوطن العربي، فبدأ صوته ينتشر كثيرا. كما ظهر في السينما بفيلم “يا سلام على الحب” مع المطربة اللبنانية نجاح سلام. أما زواجه من المطربة العراقية المعروفة سليمة مراد عام 1953، فشكل طفرة كبيرة في حياته وفنه؛ إذ تعلم منها أصول الغناء وزادت شعبيته ومكانته وتطورت موهبته.
ويضم تراث ناظم الغزالي كثيرا من الأغاني الشهيرة، من بينها “طالعة من بيت أبوها” و”أحبك” و”ماريده الغلوبي” و”فوق النخل” و”يا أم العيون السود” و”مروا على الحلوين” و”بالحاجب ادعي بخير” و”عيرتني بالشيب” و”وقل للمليحة في الخمار الأسود” و”سمراء من قوم عيسى” و”أي شيء في العيد” و”أقول وقد ناحت بقربي حمامة” وغيرها الكثير.
ويرى الناقد ستار الناصر: إن صوت الغزالي مقتدر وربما هو من الأصوات النادرة التي لا تتكرر، فهو من فصيلة “السوبرانو” الذي تتساوق فيه جواباته وقراراته في تشكيل عجيب لا تغادرهما العُرَب الواضحة الجمالية، فضلا عن تمتعه بالنفس الطويل والإحساس بالإيقاع وتشكيلاته. وأضاف الناصر “أكاد أجزم بأنه أفضل من غنى الإيقاعات البغدادية، إضافة الى تمكنه من الغناء بشكل رائع على إيقاع الجورجينا”
وعلى الرغم من وفاته المبكرة، إلا أنه ترك إرثًا فنيا كبيرًا لا يمكن تجاوزه أبدا، باعتباره فلتة في المقام والغناء والموسيقى.. ما زلنا نردد صدى أغانيه في نفوسنا حتى الآن.