التآخي ـ وكالات
برغم انقضاء أكثر من 10 سنوات على اغتيال السياسي اليساري شكري بلعيد في تونس، ومنذ سيطرة الرئيس قيس سعيد على السلطة في 2021، إلا أن الصراع بين الإسلاميين وتيار اليسار لم يغب نهائيا عن الساحة، ليطل برأسه من جديد بعد صدور الحكم.
وشملت الأحكام التي أصدرتها المحكمة الابتدائية في تونس 23 متهما من بينهم 14 موقوفا في السجن وتسعة غيابيا، ونصت على عقوبة الاعدام ضد اربعة متهمين والسجن مدى الحياة ضد متهمين اثنين فيما تراوحت بقية الأحكام بالسجن لمدة تتراوح بين العامين و120 عاما. وسيخضع متهمون آخرون إلى العقوبة الإدارية بين ثلاثة وخمسة أعوام. كما أخلت المحكمة سبيل خمسة متهمين.
يُنظر إلى قضية شكري بلعيد القيادي اليساري التونسي، على مدى سنوات ومنذ بداية تحريكها في 2013، كساحة معركة سياسية بامتياز مرسخة لحالة الانقسام المتجددة بين الإسلاميين من جهة وتيار اليسار والمتضامنين معهم من جهة أخرى.
ويقول رشيد خشانة الكاتب والمحلل المتخصص في الشؤون المغاربية ونائب رئيس “الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية” في تونس، إن كل طرف سياسي، بما في ذلك هيئة الدفاع والحقوقيين أيضا، يحاولون أن يجعلوا من الأحكام الصادرة عن القضاء مكاسب لهم.
واغتيل شكري بلعيد وهو محام وسياسي معارض محسوب على تيار اليسار، بالرصاص على أيدي متشددين من أمام مقر سكنه قرب العاصمة وعد حتى ذلك الوقت المعارض الرئيس لحكومة التحالف التي قادها إسلاميو حزب النهضة.
ولطالما كال حزبه “الوطنيين الديمقراطيين الموحد” (الوطد) الذي كان بلعيد يتزعمه، الاتهامات المباشرة والصريحة لحركة النهضة الإسلامية بالتحريض على اغتياله، وفي الحد الأدنى بـ “المسؤولية السياسية” وراء ذلك، وهو ما ظلت الحركة تنفيه بشدة.
كانت وفاة بلعيد قد تسببت في اضطرابات خطيرة في البلاد واحتجاجات في الشوارع تزامنت مع تشييع جثمانه في جنازة مشهودة. قابلتها مسيرات مضادة داعمة للحكومة. لكن مع حادثة الاغتيال الثانية في العام نفسه التي ذهب ضحيتها السياسي والنائب في البرلمان محمد البراهمي عن “التيار الشعبي”، اضطر الاسلاميون في نهاية المطاف إلى التنحي عن الحكم تحت ضغوط كبيرة.
وجنب الحوار الوطني بين الفرقاء السياسيين، الذي قاده الاتحاد العام التونسي للشغل بمعية منظمات مجتمع مدني أخرى، البلاد حربا أهلية ليجري الاتفاق بتشكيل حكومة انتقالية حتى انتخابات 2014 التي صعدت بحزب “حركة نداء تونس” بقيادة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي إلى السلطة.
وفي حين يرى حزب حركة النهضة، المعني أكثر بالاتهامات بالمسؤولية السياسية عن الاغتيال، أن الاحكام القضائية تمثل بالنسبة إليه صك براءة لا غبار عليه فإن هيئة الدفاع عن بلعيد وحزبه “الوطنيين الديمقراطيين الموحد” يعدون هذه الأحكام بمنزلة البداية ليس إلا.
وتلقت عائلة السياسي الراحل شكري بلعيد بارتياح صدور الأحكام، وهو الانطباع الذي بدر عن شقيقه عبد المجيد بلعيد الذي صرح لوسائل الإعلام المحلية بأن صدور العقوبات يعد أول خطوة ملموسة بعد 11 عاما من التقاضي واول تعامل جدي مع القضية، ما يعطي وفق رأيه أملا وثقة في استكمال بقية المسار القضائي.
لكن عبد المجيد بلعيد يأمل الذهاب إلى أبعد من الإدانات المعلنة، لتشمل الخصوم المباشرين للسياسي الراحل، وفي مقدمتهم قياديين من حركة النهضة الاسلامية، على رأسهم زعيم الحركة راشد الغنوشي، الذي يقبع في السجن منذ نحو سنة على خلفية اتهامه في قضايا أخرى.
ويوضح المحامي والأمين العام لـ “حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد” المنجي الرحوي ، بأن الأحكام تخص فقط المجموعة التي نفذت الاغتيال في حين لا زالت التحقيقات مفتوحة بشأن المجموعة التي قامت بالتغطية والمجموعة التي خططت، أي الجهة السياسية التي حرضت ودفعت إلى اغتيال بلعيد؛ ويقول السياسي بحماس “ننتظر اكتمال المسؤولية الجزائية بالجهة السياسية التي حرضت”.
وتستند المسؤولية السياسية وفق الأمين العام وهيئة الدفاع، الى المناخ العام الذي سبق عملية الاغتيال الذي وجهت بوساطته اتهامات لحركة النهضة الحاكمة آنذاك، بالسماح بانتشار الفكر السلفي المتشدد مع جماعة “أنصار الشريعة” وتفشي موجة التكفير إلى جانب السماح بتوافد الدعاة المتشددين من الشرق العربي على البلاد وظهور قياديين من حركة النهضة من بينهم زعيم الحركة راشد الغنوشي، في لقاءات مع البعض من أنصار الشريعة.
وعلى النقيض من ذلك تعد حركة النهضة اتهامات خصومها “مجانية ومضللة” ولا تستند إلى حقائق، بحسب قولها؛ وفي خطابات كثيرة لقيادييها، قدمت الحركة نفسها كأحد المكافحين للإرهاب والتكفير، لجهة أن أنصار الشريعة كان يهدد في ذروة نشاطه والعمليات الارهابية التي نفذها لاحقا، بنسف مسار الانتقال الديمقراطي برمته وإشاعة الفوضى في البلاد.
وحظرت الحركة عندما كانت تقود السلطة بين 2011 و2013، بالفعل أنشطة تنظيم “أنصار الشريعة” الذي برز على الساحة بعد ثورة 2011 مستفيدا من مناخ الحرية، وصنفته تنظيما إرهابيا في آب عام 2013، أي بعد نحو شهر من حادثة الاغتيال الثاني التي راح ضحيتها السياسي والنائب في البرلمان محمد البراهمي بالطريقة نفسها على أيدي متشددين.
وفي تعليقه على الأحكام التي صدرت عن المحكمة يقول المتحدث باسم حركة النهضة والنائب السابق في البرلمان عماد الخميري، إن “الاحكام ركن مادي وموضوعي وهي تنهي سنوات من الاتهامات المجانية من قبل أطراف سياسية لم تدر الصراع السياسي بديمقراطية واختارت الزج بالحركة في اتهامات خطيرة”، واستدل الخميري في القول ببراءة حزبه، بأن المتهمين كانوا “صرحوا في كامل مراحل التحقيق أنهم الضالعون وأنهم هم من نفذوا وخططوا وهم الجهة المسؤولة”.
ويعتقد الخميري أنه برغم صدور الأحكام، فإن الادعاءات لن تتوقف لدوافع ايديولوجية لكنه يرى إلى ان الحركة لن تبقى مكتوفة الأيدي وستثير دعاوي قضائية ضد كل يرميها بالادعاءات ذاتها، على حد وصفه.
ولا تنظر حركة النهضة إلى الأحكام كواجهة قانونية وشرعية، لبراءتها من الاتهامات فحسب، ولكن أيضا دافعا قويا للمطالبة برد الاعتبار، وهو ما تضمنه بيان رسمي صدر عن حركة النهضة يدعو فيه ايضا إلى الافراج عن زعيم الحركة راشد الغنوشي، الموقوف منذ نحو عام في السجن في قضايا تتعلق بـ “الارهاب” و”فساد مالي” و”التحريض ضد السلطة”، وهي اتهامات نفتها الحركة وعدتها مفتعلة.
وفي جميع الأحوال فإن الاحكام والعقوبات المعلنة وان كانت قد قطعت شوطا في كشف الحقائق الغامضة خلف واحدة من أهم قضايا الاغتيالات السياسية في البلاد، فإنها اسهمت كذلك في تحريك مياه راكدة وفي إعادة الجدل القديم بين الاسلاميين وخصومهم. وتظهر معها قضية بلعيد أبعد من حسمها في هذه المرحلة.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي رشيد خشانة “من السابق لأوانه الحديث عن احكام نهائية ذلك أن ما صدر عن القضاء ستكون له استتباعات قانونية وتداعيات ليس على المستوى الوطني فقط ولكن أيضا على المستوى الدولي، لجهة أن القضية تتعلق بالإرهاب العابر للدول”.
ومن وجهة نظر خشانة، فإن صدور الأحكام كان ضروريا بعد طول انتظار؛ وكان من المهم ان تحسم الجدل سواء بتبرئة حركة النهضة أو بتوريطها، غير ان هذا لم يحسم بعد والحقائق لا تزال منقوصة، على حد قوله، فيما كان الرئيس قيس سعيد قد عد قضية اغتيال شكري بلعيد قضية وطنية.
ويعتقد خشانة أن القضية ستستمر في تأجيج الصراع طالما ان التحقيق مستمر، لا سيما مع تلقي المسار القضائي زخما ودفعة بعد التصريح بأولى العقوبات بحق المتورطين في الاغتيال.
ويجعل هذا الواقع من “المصالحة” المعطلة منذ سنوات أمرا بعيد المنال، إذ تقف الأطراف السياسية المعنية بالصراع على طرفي نقيض حتى مع صدور العقوبات الأولى في قضية بلعيد.
فمن جهة يدرج المتحدث باسم حركة النهضة عماد الخميري، مسألة المصالحة ضمن أدبيات الحزب وفكره السياسي، وهو الخيار الوحيد على وفق تقديره، للتعايش السياسي ونبذ “الاستئصال والاستبداد”؛ ومن جهة أخرى، يقر الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين المنجي الرحوي بأن المصالحة ليست في وارد الحزب تماما، وان هذا الموقف لا يتوقف على حادثة الاغتيال فقط وإنما يتعداه إلى “الهوة” الكبيرة بين المدرستين. ويوضح الرحوي ذلك “نحن نختلف معهم جوهريا. نحن النقيض لهم في الخط الوطني وفي بناء الدولة المدنية”.
وبرغم أن طبيعة الصراع السياسي اليوم في ظل سيطرة الرئيس قيس سعيد على السلطة، يأتي في سياق مغاير لما كان عليه الوضع من استقطاب حاد، بين الاسلاميين المتصدرين للحكم وخصومهم في مدة اغتيال بلعيد والبراهمي، فإنه لا أفق واضح للمصالحة التي باتت أكثر تعقيدا، بحسب المراقبين.
ويعتقد رشيد خشانة أن ملف المصالحة كان يفترض أن يحسم في مرحلة تقصي “هيئة الحقيقة والكرامة” بشأن انتهاكات الماضي التي أنهت أعمالها في 2018.