التآخي ـ وكالات
جدل حاد بشأن سبل خروج الاقتصاد الألماني من عنق الزجاجة بعد توقعات بمعدلات نمو على حافة الركود. وفي ظل مزاج سيئ بين رجال الأعمال تظهر حكومة المستشار شولتس غير قادرة على الوفاء بوعودها لا في الاستثمار ولا في دعم الشركات، بحسب متخصصين.
ومؤخرا جرى الإعلان عن تراجع معدلات التضخم في ألمانيا إلى 2.5 بالمئة في شهر شباط الماضي ليكون بذلك أدنى معدل تضخم عرفه منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا؛ لكن برغم هذا الخبر الجيد بعد طول انتظار يستمر الجدل على شتى الأصعدة بشأن المخاوف المتزايدة من شبح الركود الذي يعاني منه الاقتصاد الألماني لسنوات وسبل الخروج منه.
يأتي ذلك بعد إعلان الحكومة الألمانية في النصف الثاني من شهر شباط 2024 أن معدلات النمو المتوقعة للعام الجاري ستكون فقط بحدود 0,2 بدلا من 1,3 بالمئة التي توقعتها في الخريف الفائت. وجاء الإعلان بعد أن سجل الاقتصاد الألماني ركودا اثر جائحة كورونا، فضلا عن ركود بنسبة 0,3 بالمئة في العام الماضي 2023. ويزيد الطين بلة أن نموه يبقى بحدود 0,5 بالمئة أو على عتبة الركود حتى عام 2028 بحسب وكالة الصحافة الألمانية (د ب أ).
المؤشرات على التراجع كثيرة بدءا بارتفاع الأسعار وتراجع الطلب وانتهاء بضعف الاستثمارات مرورا بإعلان مزيد من الشركات الألمانية ومن بينها فولكسفاغن، وبي ام دبليو وسيمنس وأليانس عن عزمها نقل المزيد من أنشطتها إلى الخارج وبخاصة إلى الولايات المتحدة.
كما تعلن المزيد من الشركات المتوسطة والصغيرة الإفلاس أو أنها تواجه الإفلاس. ففي تشرين الثاني الماضي 2023 كشفت كثير من المؤسسات عن الإفلاس ومن بينها أكثر من 1500 شركة.
وزير الاقتصاد الألماني روبيرت هابيك وصف الوضع الحالي بأنه “سيء بشكل دراماتيكي”، وهناك خشية متزايدة من استمرار التدهور، لاسيما أن نمو الاقتصاد الألماني يعتمد من جهة على استقرار أسعار الطاقة والمواد الأولية التي كانت تأتيه من الخارج وبخاصة من روسيا.
ومن جهة أخرى فإن نموه مرتبط بزيادة الصادرات إلى شتى الأسواق ومن أبرزها السوق الصينية التي تشهد تراجعا في الطلبيات؛ أما السوق الأمريكية التي تعد أحد أهم ثلاثة أسواق للصادرات الألمانية فإنها تشهد إجراءات حمائية تؤثر أيضا بشكل سلبي على تدفق السلع الألمانية.
يركز الجدل الدائر بشأن المخاوف من استمرار الركود وتبعاته على عدة جوانب من أبرزها ضعف أداء حكومة المستشار أولاف شولتس في مواجهة تحديات وصعوبات اقتصادية في غاية الخطورة على عدد كبير من الشركات الألمانية. ولم يغير من التركيز على هذا الجانب انشغال حكومة المستشار بمواجهة تحديات أمنية وعسكرية فرضتها الحرب في أوكرانيا ولم تكن في الحسبان.
فعلى شاشة محطة التلفزيون الألمانية الثانية/ ZDF على سبيل المثال قدمت الإعلامية المعروفة مايبرت إلنر حلقة من برنامجها الحواري المعروف الذي يحمل اسمها تحت عنوان “الاقتصاد الألماني على وشك الانهيار- والحكومة بلا مسار”. تقديم البرنامج تحت عنوان كهذا إن دل على شيء فعلى مستوى تراجع الأداء الذي حل بأقوى اقتصاد في أوروبا في الأعوام القليلة الماضية وبشكل خاص منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، بحسب الباحثين الاقتصاديين.
يُظهر الجدل اختلافات كبيرة في التصورات المتعلقة بإيجاد الحلول لأزمة الاقتصاد سواء في داخل الائتلاف الحاكم/ ائتلاف إشارة المرور من جهة، وبينه وبين المعارضة وممثلي النقابات والشركات وعلى رأسها اتحادات غرف الصناعة والتجارة من جهة أخرى.
وزير الاقتصاد الألماني من جهته عزا السبب إلى بطء وتيرة نمو التجارة العالمية؛ غير أن الوزير تجاهل حقيقة أن ارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج الصناعي وبطء حكومته في اتخاذ الإجراءات المطلوبة لمواجهتها أبرز أسباب الركود، على وفق الباحثين.
ومن شأن هذا الارتفاع تقليص القدرة التنافسية لألمانيا في السوق العالمية أمام منتجات دول أخرى كالصين وكوريا الجنوبية وفيتنام وإندونيسيا. هذا وتزداد الصعوبات التي تواجه الصناعة الألمانية في ضوء الدعم الحكومي الذي يتلقاه المنتج الصناعي الأمريكي والصيني في الوقت الذي قامت فيه الحكومة الألمانية بتقليص دعمها وإلغائه على أكثر من صعيد.
ويزيد الأمر صعوبة على الاقتصاد الألماني أن صناعته التي تواجه تحديات غير مسبوقة هي أهم قطاعاته إذ تسهم لوحدها بنحو 20 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
لا تفوت حكومة المستشار أولاف شولتس فرصة للتأكيد على عزمها مواجهة التراجع الاقتصادي، وفي هذا الإطار تقترح الإسراع بتنفيذ القرارات المتعلقة بتقليص الإجراءات البيروقراطية واعتماد حزمة لتحفيز النمو الاقتصادي في الصناعة بقيمة 3 مليارات يورو؛ وسبق للحكومة أن اقترحت الحزمة بقيمة 7 مليارات قبل أن تقلصها إلى أكثر من النصف في ضوء العجز المتوقع للموازنة المالية هذه السنة.
وتتضمن الحزمة إعفاءات ضريبية للشركات الصغيرة والمتوسطة حتى عام 2028. غير أن المعارضة التي تحتاج الحكومة إلى موافقتها لا تنوي الموافقة عليها قبل تراجع حكومة شولتس عن عزمها إلغاء الدعم المخصص لوقود الديزل الزراعي، وهو الأمر الذي أثار حملة احتجاجات واسعة في صفوف المزارعين لم تهدأ بعد.
وفي الوقت الذي يستمر فيه الجدل من دون نتيجة في الأفق حتى الآن أرسل ممثلون عن 18 من الجمعيات والاتحادات الاقتصادية رسالة إلى رؤساء حكومات الولايات يطالبون فيها بشكل ملح بالسرعة في إقرار الحزمة.
وجاء في الرسالة أن ” الخطر القائم يتطلب الإسراع في إنقاذ الشركات المتوسطة التي تشكل 99 بالمئة من جميع الشركات، وهي بمنزلة العمود الفقري للاقتصاد الألماني”.
وسبق للحكومة الألمانية أن فاجأت الشركات قبل أشهر قليلة بتقليص الدعم وضخ الاستثمارات في أكثر من مجال مثل صناعة السيارات وتحديث شبكة القطارات والاتصالات بعد قرار المحكمة الدستورية بعدم دستورية اعتماد 60 مليار دولار في موازنة 2024 من أموال غير مستغلة كانت مخصصة لمكافحة جائحة كورونا.
ويأتي ذلك في وقت صعب تفقد فيه الصناعة الألمانية كثيرا من ميزاتها التنافسية، ويزداد الضغط عليها بعد قيام واشنطن بتخصيص أكثر من 400 مليار دولار لدعم الصناعة الأمريكية وتشجيع صادراتها وجذب الشركات الأجنبية للعمل والاستثمار في السوق الأمريكية بموجب “قانون خفض التضخم لعام 2022” الذي أقرته حكومة الرئيس جو بايدن.
في ضوء ذلك تتزايد الشكوك ما إذا كانت حكومة المستشار شولتس قادرة على تلبية مطالب ممثلي الشركات الألمانية التي تواجه تحديات غير مسبوقة. ويزيد من هذه الشكوك استمرار الخلافات بشأن السياسة الاقتصادية التي ينبغي اتباعها في داخل التحالف الحاكم بزعامة المستشار أولاف شولتس فضلا عن تزايد أعباء الحرب في أوكرانيا وتبعات تحويل جزء من التجارة العالمية بالسفن إلى رأس الرجاء الصالح بدلا من قناة السويس.
وعلى سبيل المثال يقدر المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية (DIW) أن تكاليف الحرب في أوكرانيا على الاقتصاد الألماني زادت على 200 مليار يورو حتى الآن؛ وقد خصصت الحكومة الألمانية أكثر من 7 مليارات يورو لدعم أوكرانيا هذه السنة في الوقت الذي ما تزال فيه حزمة تحفيز النمو الاقتصادي بقيمة 3 مليارات يورو على قائمة الانتظار.
وتظهر دراسة حديثة ظهور آثار العبء والإجهاد بين العاملين في ألمانيا بعد أربعة أعوام متواصلة من الأزمات. جاء ذلك في الدراسة التي أجراها معهد “بينكتوم” الألماني في هامبورغ وذكرت مجلة “كابيتال” الاقتصادية الألمانية أنباء عنها.
وبحسب الدراسة، تراجعت القوة حاليا لدى 49.4 بالمئة ممن شملتهم الدراسة مقارنة بالقوة والطاقة التي كانت لديهم قبل ثلاث سنوات، ويسري ذلك بشكل عام على جميع الفئات العمرية.
وتظهر الدراسة أيضا أن واحداً من كل ثلاثة عاملين في ألمانيا تنقصه الطاقة للعمل اليومي. كما جاء في الدراسة أن 27.7 بالمئة من السكان الألمان يرون العمل بصفته استنزافا للطاقة، ولكن كثيرين يرون أسبابا أخرى رئيسة لفقدان الطاقة، اذ ذكر 45.8 بالمئة أن السبب في ذلك يكمن في السياسة الألمانية.