بين المصرع الناعوري وال(F16)

 

جاسم محمد شامار

هل أنت مندلاوي؟ رغم انه تفاجأ من سؤالي هذا إلا انه كان كافيا ليجعله مطمئنًا.

وجدته شخصا مألوفا عندي، التعب الذي كان ظاهرا عليه والتراب وبقع الدهن على ملابسه العسكرية ربما اخفت ملامحه عني او ان جو الحرب في الصحراء جعلني لا ادقق في التفاصيل، لكن كلماته، صوته، لكنته المعروفة عندي جعلتني اتذكره. يبدو انه قضى يوما عصيبا في الصحراء.

كنا نختبأ في الملاجئ تحت رحمة قصف الطائرات طوال الليل والنهار هربا من الموت الذي كان يلاحقنا في كل لحظة.

الدقائق القليلة قبل الغروب كان القصف يتوقف نخرج قليلا من الملجأ فقط لنشعر اننا مازلنا احياء. لا شيء غير الحطام والركام وشظايا القنابل على الرمال..

وجدت هذا الجندي قادما نحونا كان أكبر مني سنا ربما اضاع الطريق في الصحراء.

اجاب على سؤالي مستغربا (نعم). مسكت يده مسرعا للملجأ مع صوت اول طائرة قادمة للقصف وانا اسأله: صوت طائرات F١٦ بماذا تذكرك!؟

اندهش من سؤالي. عقبت: تتذكر صوت المصراع الناعوري؟!

ابتسم وعرفني، انه ابن مدينتي مندلي محلة السوق الصغير. كنت قد التقيت به اول مرة قبل عشرين سنة.

الرحلة او المغامرة الاولى لنا مع صبية من محلتنا للذهاب الى النجاجير او كما كنا نسميها (نجارها) في تلك المحلة. كانوا يصنعون المصراع او (المسرح) الخشبي من اغصان اشجار النارنج والرمان. مع بداية عطلة النصف سنة كانت لعبتنا المفضلة في الساحة الترابية خلف بيوت المحلة.

الرهبة في دخول محلة السوق الصغير لوجود مرقد الامام شيخ مندلي او الجامع مع منظر الرجال المسنين وهم يردون السلام للمارة بوقار. وفضولنا الطفولي لاكتشاف ذلك العالم القديم لمدينتنا ازاحها هذا الرجل في حينه.

كان شابا يافعا أكبر منا سنا يقف امام دكان النجار، لم ينقطع عن الضحك طوال حديثه مع النجار الجالس وسط قطع الاشجار بجسمه النحيف وعضلات يديه القويتين واصابع يديه الغليظة يقطع الخشب او يطرق المسامير ورائحة الخشب في المكان.

ما انا طلبنا الشراء من النجار حتى بدأ هذا الشاب الابتسامة من عنده وبدأ يعدد لنا انواع المسرح (البلوطي والشلغمي والناعوري..)

كان صديقا لاحد اقاربي في تلك المحلة، عرفني واختار لي واحدا استغربت من وجود الثقب في جهة المصراع، مع ابتسامته المستمرة أخبرني انه سيصدر صوتا مع الدوران. انه (المسرح الناعوري) صاحب الصوت المشابه لصوت طائرات F16الآن.

لاكتمال عدة اللعب حينها كان علينا الذهاب للحداد لتركيب (النبلة) الحديدية، لربما كان عمل النبلة الحديدية للمسرح عملا ثانويا للحداد يصنعونه مع موسم العطلة لإسعاد الاطفال، ما كانت اللعبة تكتمل الا بالخيط نلفه حوله المصراع ونرميه ليضرب المصرع الاخر او يدور على الارض، ذهبنا الى سوق الگيوات ..

كان الحاج بالغترة الصفراء والنقوش الذهبية من اعطانا الخيوط مجانا مع طلبه منا الانصراف. اشتركوا جميعا ليصنعوا لنا تلك اللعبة الجميلة، النجار والحداد والحاج صاحب محل الگيوات .

كانت لعبة طفولية جميلة نلعبها في الساحة الترابية خلف البيوت، الارض المستوية واشعة الشمس الذهبية وصوت البلابل من البستان القريب.

استراحتنا كانت تبدأ مع رائحة شواء خبز الذرة في البيت المجاور للساحة كانت المرأة في ذلك البيت تصنع خبز الذرة كل يوم عصرا طيلة الشتاء. الجلوس خلف جدار البيت للاستمتاع بدفء الشمس، وأكل خبز الذرة وصوت قرقرة النارگيلة للرجل صاحب البيت الذي يطل بابه على الساحة وهو جالس يتدفأ بأشعة الشمس، هكذا كانت عطلتنا في مندلي ايام شباط.

آخرون اشتركوا لصنع صواريخ كروز وطائرات F16 والتورنادو والميراج

لعبة الموت، لعبوها معنا بلعبة سموها عاصفة الصحراء!

قد تكون ملامحي تغيرت منذ ان التقيته اول مرة قبل عشرين سنة في محلة نجارها. لم يعرفني اول الامر. تقدم به العمر خدم في الجيش طيلة الحرب السابقة، لم يمضي على تسريحه من الجيش سوى أشهر معدودة اعادوه للخدمة، بسبب حرب الكويت.

سيارة الإيفاء العسكرية التي كان يقودها للذهاب لوحدته العسكرية في عمق الصحراء تعطلت كان قادما الينا لطلب المساعدة او يجد مكانا للاختباء، وانا وجدت فيه كنزا وسط رمال الصحراء …

نسيت تلك الليلة انتظار دقات ساعة (بيغ بن) من اذاعة لندن او موسيقى نشرة اخبار مونتي كارلو لأسمع اخبار الحرب، كنت استمتع بالإصغاء لحديثه، انه العم والخال والاخ الكبير القادم من الزمن الاخر، مندلي السوق الصغير ايام اللعب والمرح، المسرح الخشبي والرجل المرح في تلك المحلة بائع الفرارات.

طلب مني فتح الراديو لنسمع الاخبار. كان قلقا على سيارته العاطلة ستكون هدفا سهلا للطائرات. لا جديد في الاخبار، لم يبدأ الهجوم البري بعد، الجميع سيصبحون اهداف، السيارات والدبابات والجنود المختبئون في الملاجئ، لا أحد سينجو من الهلاك.

كانت الارض مستوية لكنها لا تصلح للعب المصراع. لا مكان للطفولة هناك.

كانت مقبرة لنا ونحن احياء. لا أدري اختيار موعد الحرب مع وقت عطلة نصف السنة وقتنا المفضل للعب المصراع مصادفة ام انهم تظافروا مع القدر واختاروه ليلعبوا معنا تلك اللعبة في الصحراء ولكن بالصواريخ والطائرات.

اقفلت المذياع لأوفر البطارية لقادم الوقت. ضيفي يبدو حزينا وقلقا، قد نجا من الحرب الأولى بأعجوبة سألني: ((كيف سننجو الان؟!)).

بعد ان حدثته عن ذكريات لعب (المسرح) بدأت احدثه عن السوق الصغير والرجل المرح بائع الفرارات ومقهى الحاج وصديقه النجار، حدثته عن (المسرح الناعوري) وصوته المشابه لصوت الطائرات.

بدأ يبتسم ويلعن الحرب. لم أجد أحدا يضحك او يبتسم هناك منذ ان بدأت الحرب الجديدة. بدأت اضحك وانا احدثه كأني نسيت الحرب.

رغم ان دوي القصف بدأ يقترب والملجأ الذي كنا فيه بدأ يهتز، الا أنى كنت اشعر ان الطفل الذي كان يلعب في ساحات وازقة مندلي مازال في داخلي على قيد الحياة..

 

قد يعجبك ايضا