جاسم عاصي
حقق الفنان منعم فرات على صعيد الفن الفطري، المعادلة الصعبة في العطاء المتضمن مجموعة رؤى كشفت عن نوع الدهشة التي واجهته باعتباره فنانا ووجودا استثنائيا، ذلك بتأثيرات ضاغط الجينات المعرفية، التي هي مجموعة الرؤى، بغض النظر عن التعليم والاكتساب المعرفي، فقد دخل حيّز الأسطورة ومجالها الواسع والحيوي من مكوّنه البيئي والضاغط الاجتماعي والنفسي. فقد خضع للمخزون المعرفي الشعبي، أي أن الرؤى المتحكمة في وعيه هي الحقيقة الشعبية التي أنتجت مقاربات أسطورية عبر استجابتها للضغط الذي يحيطه، سواء في الاستجابة أو الاختلاف مع محيطه ومكوّنه العاكس للمعنى الذاتي والعام. فالرؤى الفطرية لديه تضمر معاني كثيرة، شأنه شأن مجموعة الفنانين الفطريين الذين أعقبوه. لكنه يختلف عنهم في طبيعة تكوينه السيكولوجي وحساسيته الذاتية، ما دفعه إلى أقصى حالات الترحيل في تحقيقاته الفنية. لقد أضفى على أشكاله النحتية نوعا من الدهشة. فهو كفنان كرّس إمكانياته النحتية إلى ما كشفت له دهشته لمجمل ما كان يراه بصريا كمادة ومَشاهِد خام، وبما خلقت لديه حراكا معرفيا منتجا، أسقطها بذات الدهشة أو تفوّق عليها، وهو يمارس عكس ما كان يراه على صور وأشكال ذات خصائص فنية ذاتية أيضا. وهو بذلك واجه الواقع بما حققه من رؤى عكست رؤيته لما حوله. فعنده أن الفن، هو مجموعة الرؤى المتحققة، والعابرة لصورة المرئي كالبنية المضمرة في العمق الذاتي (اللاوعي) والبنية الظاهرة على سطح الواقع.
المؤثرات
خضع الفنان لتأثير المتغيرات في الأزمنة، باعتبارها مؤثرات ذات قيمة معنوية، خالقة لموقف فكري. فالتحوّل في الشيء، يعني خلق البديل الذي يشكّل رمزه، ذلك لأن الأزمنة بتحوّلاتها تخلق صورا متعددة ومختلفة في الطبيعة البنيوية، ما يدفع الإنسان إلى خلق دفاعاته. وكان الفن أول تلك الدفاعات، أي فن النحت والتعامل مع الطين والحجر كوسيلة تعبير قبل ظهور الكتابة والتدوين، إن إشكالية التحوّل تنتجها طبيعة التحوّلات الجارية في الواقع.
وهي بهذا تتبع طبيعة الإنسان في تشكلاته الفطرية والمعرفية المكتسبة. غير أن مبررات العوّدة إلى طبيعة الأشكال تلك في التعبير حاضرا، له دوافعه المعبرة عن الدفاعات الذاتية، وبهذا تكون ظاهرة العودة إلى ما أنتجه الإنسان في الماضي، يعني الخضوع إلى الجينات من جهة، وعكس قدرة الإيمان في كوّن هذه المنتجات النحتية تُعبر عن وجهة النظر. ونرى أن هذا التخريج أكثر واقعية ثقافية وفكرية، فهي محاولة تتضمن التشبيه للأشياء برموز قديمة، وهذا ما حصل في منحوتات فرات المزدوّجة التكوين.
إن الفن القديم المتمثل في ما تركه الإنسان من منحوتات تمثل نوعا من الدفاعات، سواء في ما يخص الجسد، أو ما هو معني بالمعتقد، كتماثيل الآلهة. بينما نجد فرات معني بكشف البنى الذاتية لموجودات الزمن الذي يعيشه متحمسا تحت ضغط دوافعه الحسية بتشكلات منظومات الواقع الرازح تحت نير الاحتلال وضياع الهوية. إنه يمارس فن النحت باعتباره وسيلة تعبير عن خلجاته، لاسيّما عكس حسه الوطني إزاء ما يعيش ويرى. لذا فعودته لفن الإنسان القديم نوع من التشبه بقوة هذا الفن، وقدرته على تقديم وجهة النظر، لكنه استطاع أن يبلور طبيعة منحوتاته، وفق سياق معاصر، مع إبقاء تصوّراته النقدية للواقع، منطلقا من مهيمنات ذاتية مستقلة، حيث بلورت مجسماته ظواهر الوجود عبر الاندماج بين نماذجه، واعتبار الكتلة التي تمثل الجسد المزدوج (بشري حيواني) وسيلة لتوصيل أفكاره. فهو إنسان معترض، وفنان اختار وسيلته في التعبير وفق وعي جيني ومكتسب، وضعته موّضع الناقد على مستوى جدلية خاصة لا تحابي محيطه وعناصره، وإنما تطرح رؤاها وفق ما يستلزم الأمر التعبير عنه. فمجسماته حاملة لوجهة النظر وصلابة الموّقف.
المعرفة المكتسبة والجينية
إنه وفي حقل المعرفة تعلم القراء والكتاب وله مجموعة كتب منها ( أيها الراقد/ العاجزون في الأرض/ اللؤلؤة والصراع العنيد) على حد ما ذكره الناقد عادل كامل وما ذكرته ابنته. وهي كتب نافت على الثلاثين كتابا، حاملة عناوين تُسفر عن مضامين تنطوي على نوع من المستوى الفكري الحاد بمواجهة الواقع آنذاك. كما نتلمس من عناوينه أنها حاملة لروح تنبؤيه.
فـ(أيها الراقد) فيه حمولات لأسئلة تعني الامتناع عن مقارعة الخطأ بحجة الرقاد الأبدي. أي قبول الحال وعدم المساس به خلال فعاليات الرفض. أما (العاجزون في الأرض) فيقابل (المعذبون في الأرض) لكن بصيغة النقد اللاذع الذي أنتجته ظاهرة الرقاد. فالعجز حالة سلبية ينتجها الموقف مما يجري. ويبقى (اللؤلؤة والصراع العنيد) الذي يرتبط مباشرة بالأطماع الاستعمارية متمثلا في اللؤلؤة.
وبهذا يقف العنوان ضد الاحتلال. ففرات عاش أواخر الاحتلال العثماني، واستقبل بوعي اجتماعي ظروف الاحتلال البريطاني، ثم عاش ظروف ثورة يوليو عام 1958. وبهذا يكون موقفه الاجتماعي والسياسي عابرا بواسطة ما أنتجته موهبته من فن. كذلك اصطف بنشأته المعرفية بما اكتسبه من ثقافة مضافة لوعيه الفطري، واصطف أيضا مع وعي الفنان الفطري بما أنتجه من نماذج تتناص مع نتاج حقب زمنية تذهب في اتجاه العصر الحجري وما تلاه. فالإنسان القديم أنتج نماذجه وفق صور متعددة، لعل سلطة الواقع عليه كانت أهم الضغوطات النفسية. لذا يمكن تصنيف ذلك من جانبين أولا: الوقاية والدفاع عن الوجود خلال الاقتراب من صورة الإله، وثانيا: استجابة لعقل مدرك معرفيا وجود الإله وقدرته في الوجود الإنساني، لذا نرى أنها مواقف ودليل وعي فسلجي عارف بما هو مرمم للحياة.
لذا كانت معظم نتاجاته لا تخرج عن حقل التقرب إلى الآلهة ووظائفها. وهي نتاجات مزجت بين ما يُطلق عليه الحضارة الطينية والأخرى الحجرية. لقد أنتج الإنسان منحوتاته وفق تصوّراته ورؤاه، لاسيّما باستخدامه الحجر مادة للنحت. ومنعم فرات ينتمي مباشرة إلى مجموعة الفنانين الذي أخضعوا مكوّنهم العقلي لما أنتجته الحضارة الحجرية، كالحضارة الآشورية. لكنه بطبيعة الحال أخضع نماذجه لرؤى قارّة لديه، أي أنه استجمع معارفه لتوسيع دائرة منحوتاته، مما خلق لديه التنوّع في الأساليب والرؤى في معالجة ما يراه في الوجود، خاصة بتجسيد ذلك في منحوتاته التي خضعت للازدواج. فهي تخلق كيانات ذات هويات مختلفة، كما في الأجساد البشرية التي تحمل رؤوس حيوانية وبالعكس. هذه السردية لم تفك علاقتها بصيرورة الرؤى الفلسفية الكامنة في ذاته الفطرية. إن الدهشة التي كمنت في تطلعات نماذجه، اعتمدت دهشته في الوجود. كما أنه أنتج فنيا نوعا من الدراما السردية خلال تشابك مجموعة حيوات تُزاوج بين التشكيل البشري والحيواني. ومركبات جسدية مندمجة مع بعضها، حيث ظهرت على وجوهها حالة الدهشة والحذر. وهو أمر قار ضمن فلسفة الوجود وصراعاته. إن تشابك الأجساد يُعبّر عن رؤى الفنان وهو يعيش ضمن زمان ومكان.
كما أن هذه التشابكات دالّة على اشتباك وجودي، فقد أولى اهتماماَ للرؤوس وترك الأجساد ضعيفة التكوين، أو جينات في أرحام. في نتاجات أُخرى نجده يقدم تلوينات نحتية تبدو منتصبة على قواعد متفرقة، لكنها تُعطي معنى مكملا لبعضها. ثمة جسد صغير ذو رأس كبير، يقترب من الآلهة السومرية كالإله (أدد) مثلا وعدد من نُصب كاملة الهيئة، تبدو كتشكيلات معاصرة، بينما رأس يتطلع من الأعلى وصخور متراكمة. هذا النمط الميلودرامي، يُعطي نوعا من المعنى المندرج في حراك ملَكة الفنان الفكرية. فهو بهذا يُقدم رؤاه لما حوله وفق خط درامي متحرك، مزج فيه صورة الماضي والحاضر. إنه بهذا يُعتبر فنان ذي نظرات فلسفية غير معقدة. إن ما يربط منحوتاته مع ما سبقها في العصور الأولى، هي تشكلات الجسد، ذلك أنه يضع بالاعتبار أن يكون الجسد موازيا للجسد في الواقع، بل يصنع منه كُتلة ذات صلابة، ويذهب بمكوّنات الرأس بمنحه تضخما مع اتساع العينين الدائريتين. لا يهتم بالملبس والديكور، بقدر ما ينحت نماذجه للتعبير عن مكنون فكري بحت. فقد ظهر الاندماج بين نموذجين (ذكوري/ أنثوي) أعطى نوعا من الألفة والتلازم المصيري المنتج للحياة. وهو بهذا أكد فعل تخصيب الحياة، خلال الاتصال الجسدي بين المكوّنين. كما أنه لا يهتم بتفاصيل الجسد وأناقته، وإنما يهتم بكتلته وحراكه التي تمنح معنى معيّنا. ويبقى الاتحاد بين الجسدين يمثل ثنائية الوجود. فالمرأة إن ظهرت لوحدها، فهي تفيض حنانا وعطفا للطفولة، فهي أم منتجة للحياة.
ما نريد أن نتوصل إليه بشأن فرات، أنه أخضع رؤيتين لمستوى من الفحص والتنفيذ هي، رؤاه، ورؤى المتلقي. ففي الأولى: حقق ما تصبو إليه بنيته الفنية الرؤيوية، وفي الثانية: استمال دهشة المتلقي ليعمقها من بعد دهشته هو كفنان ومتلق أول لصورة الواقع. وكلاهما خضع للراسب المعرفي والمعرفي الشعبي ـ البيئي ـ لأن ما حققه مجموعة محمولات منبثقة من مجموعة منظومات أسطورية وحكائية، ومن أمثال وتاريخ على صعيديه الشعبي والعام.
إن تكويناته النحتية تمتلك حركة ذات بنية سردية، وليست ساكنة، فالسرد يُضفي حركة مضافة. وهذا ما يميّزها في كوّنها تحكي وتروي خلال حركتها الجاذبة للرائي، الذاهب إليها وبها إلى آفاق بعيدة، تتكامل بها رؤية الرائي، لأنها تمتلك عنصر الدهشة المستجيبة للأسئلة والحوار. فهي لا تقارَن مع منحوتات أخرى لفنانين كبار، فهي تحوز ممكناتها في الخلق والإبداع الفني. ففرات يبقى خالدا بمنحوتاته الحاملة لرؤيته ووجهات نظره إزاء ما عاش ورأى، فهو فنان وطني بطريقته المتمثلة والمستعينة بالنحت على الحجر.