أوراق الفجر

 

جاسم محمد شامار

يمضي ليل مندلي بسحره وجماله وسمره، ومع الفجر الهدوء في كل مكان، غير ان للعصافير سطوتها على النخيل والأشجار. كأن بزقزقتها تريد ان تنزع وشاح الليل الاسود عن سعف النخيل وتستعجل النهار.

في باحات الدور وفي البساتين التي تحيط المدينة وعلى الانهار وللنهر مع الفجر في مندلي حكاية. بقايا نسيم الليل على البساتين، ازهار الرمان المتساقطة على النهر تطفو على الماء، وتنساب، رسائل عشق من اقصى المدينة لأقصاها اوهي تحية الصباح، من سوق الصغير لقلعة بالي للسوق الكبير للنقيب او لقلم حاج، الخان القديم مازال خاليا.

القرويون الذين يرتادونه مازال ركبهم على مشارف المدينة، كانوا لطفاء وظرفاء، يبكرون المجيء الى المدينة عبر تلك المنافذ بين البساتين وفي الطريق.

لهم أحاديث ومزاح في الفجر كان أحد رجال المدينة برفقة احدى قريباته يصطحبان معهما (الجدّة)، ثمة سيدة مندلاوية ستلد طفلا يحمل لقب المندلاوي.

انه فتى الفجر او نوري او صباح، او بقية الأسماء.

في طفولته يتلقى القبلات من كل نساء المدينة. كلهن خالات او عمات، او قريبات الجدة او الجد، وكل رجال المدينة اخوال او اعمام، او اقرباء الجد والجدة اوهم أصدقاء.

مدينة العائلة الواحدة تفيض على جميع ابناءها بالعطاء في صباه. كم تورمت اصابع قدميه من اللعب في تلك الساحات الترابية او كم احمرت يداه من ضرب عصا المعلم لو ضحك في الدرس مع الزملاء.

كانوا ينسون ذلك في الاستراحة. يثقبون ثمار الليمون ويرتشفون عصيره خلف الجدار، كم فرش كراساته المدرسية على العشب تحت ظلال النخيل، كم تسلل في ظهيرة الصيف من البيت لتسلق اشجار التوت، او يسبح في الأنهار، وهي الحياة السعيدة في مندلي.

اشياء بسيطة او تفاصيل صغيرة لكنها تمنح السعادة من الاعمار، وهو العمر، ايام وايام، عاما بعد عام. في تلك الازقة بين الجدران الطينية، ذهابا واياب.

وكان لفتى الفجر موعدا مع الفجر الأخير، الفجر الاخير كان عند تلك التلة خارج المدينة (تلة رميم) على الطريق.

خرج من مندلي ولم يكن معه سوى كتبه المدرسية وساعته اليدوية، بعينين حزينتين ينظر متألما لمندلي، مدينة الطفولة والحب الأول، وينظر الى الساعة، يترقب الساعة الثامنة موعد الدرس الأول. لم يجد احدا يقنعه بقوانين الحرب انها لا تستثني الدرس ولا العشق، ستخضع مندلي بكل مدارسها واسواقها وبساتينها وشوارعها لقوانين الحرب، انه الرحيل قبل الأوان، كطفل انتزع الموت امه امام عينيه، كتب ورقته الاخيرة وارتحل.

 

قد يعجبك ايضا