الروح الكركوكية السمحة و الأستاذ ياسين الحديدي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حاوره :د. توفيق رفيق آلتونچي

 

الجزء الثاني والأخير

س:الشعورالقومي السلبي الذي ازداد مع انتشار الحركات القومية مع اواخر سنوات الدولة العثمانية والتي كانت من نتائجها انهيارها بمساعدة قوات التحالف وعلى راسهم الامبراطورية البريطانية وفرنسا وروسيا. تلك الرياح القومية انتعشت في بادئ الامر في لبنان وسوريا والحجاز ثم انتشرت شرقا. كان من نصيب العراق العديد من ذلك الانقلابات العسكرية والحروب الداخلية والخارجية. بقى ان نعلم بان اهل كركوك كانوا دوما ضحية انتشار تلك الأفكار منذ ايام الانتداب البريطاني للعراق واكتشاف النفط في عروقها وتأسيس شركة نفط الشمال ونرى انعكاساته حتى يومنا هذا. حدثنا كذلك عن ذلك الحوار الحضاري السلمي الذي جرى فصوله في مدينة كركوك بين ابنائها من الكورد والعرب والتوركمان والمسيحيين من السريان والارمن الذين تصاهروا وتزاوجو؟

 

-ان مجتمع الحديدين عرب اصلاء وكما هو معروف لدى اهل كركوك جميعا من الكورد والتركمان و المسيحيين هو مجتمع مسالم يحترم الاخرين بشكل كبير ويتمتع افراد العشيرة بخلق عالية وملتزمون بالعادات والمثل العليا كالصدق والوفاء والشجاعة والتواضع ومشاركة الاخرين في سرائهم وضرائهم وبعيدون كل البعد عن النفاق والحسد والنميمة ومن صفاتهم حسن الجوار والعلاقات الطيبة وعدم الاعتداء على الآخرين حيث لم يذكر تاريخ العشيرة  واهالي كركوك جميعا حالة اعتداء واحدة وهو فخرواعتزاز للعشيرة ويشهد على ذلك سكنة الدور المحيطة  لهذه القرية البسيطة المتواضعة بل هم حراس امناء على املاكهم وعلى دورهم  ويعيشون في وسطهم في حالة أمان وراحة نفسية لا يعكرها سوء لأنهم أناس ينهلون من مبادئ الدين الحنيف قيمة السامية وان التقوى  هي زادهم  الوحيد وكانت ابرشية كركوك  والسليمانية واربيل التي تم بنائها عام 1961 بجوار العشيرة من قبل الاخوة المسيحين موضع حماية ورعاية العشيرة خاصة في العنف الطائفي حيث تولوا مسئولية حمايتها من المتشددين  وكان الإبناء يتواجدون ويشاركون افراد العشيرة في المناسبات الدينية والاجتماعية بالحضور والمشاركة في الأحزان والأفراح ولازال تبادل الزيارات عرف اجتماعي بين الطرفين ويشهد على ذلك الكاردينال (لويس ساكوا) حيث كان راعيها وتولى من بعده البطريرك يوسف حاليا و تعمقت في العلاقات الاجتماعية فيما بينهم .  واطلعت عليها عزيزي القارئ لأخذك العجب من التقاليد الأصيلة المتوارثة حيث التعاون والألفة وصلة القربى سيدة المواقف في علاقتهم ولا يمكن التمييز بين الغني والفقيروالكبير والصغيرعائلة متجانسة وأرقى حالات التعاون لديهم تجدها في حالات الوفاة و الزواج حيث يتكفل أبناء العشيرة جميعا لكل متطلبات ومستلزمات مراسيم الفاتحة من الدفن إلى التكفل بأبناء العائلة في حالة عدم وجود مورد معاشي لهم وكذلك في حالات الزواج حيث يقومون بتحضير ما يلزم من مال وأثاث وملابس ومراسم الفرح. بالإضافة إلى تجاور الحديديين مع أهل تسعين الذين كانوا مشهورين في الزراعة والتجارة والتي يعتمد عليها الحديديين لاسيما بعد انتهاء موسم الحصاد  وتوطدت من جراء ذلك العلاقة فيما بينهم ويذكرها الطرفين في مجالسهم ومعرفة هذه العلاقة التي لازالت قائمة بين الأحفاد حيث استقرت عائلتان من عوائل الحديديين وتطبعوا معهم بعد ان تطورت ووصلت إلى حالات الزواج والتصاهر .ومن أبرزها كانت مع عائلة المرحوم حمزة  التصاهر وهو والد المهندس قاسم حمزة مدير عام طرق كركوك وعمر حمزة المربي المعروف والشهيد المرحوم عبدالله حمزه كان مدير كهرباء محلة ملا عبدالله الذي اغتيل علي يد الإرهاب الطائش في فترة فتنة الطائفية.

 

 

ان هذه العلاقة لم تختصر فقط مع أهل تسعين انما مع جميع العوائل الكوردية والتركمانية حيث كان التجاور مع العوائل التركمانية التي كانت تسكن في منطقة صاري كهيه وسوق القورية مشهود لها بعلاقات طيبة وحميمة وعلاقات واسعة مع العشائر الكوردية في رحيم اوه والاسكان وامام قاسم والشورجة التي تزوج احد افراد العشيرة منهم وهي والدة الشهيد اربا الموجود جداريه له في الشورجة في مكان اغتياله في نهاية الثمانيات وكان من مقاتلي (البيشمركة)  بالإضافة الى العشائر في القرى التابعة لناحية شوان وطقطق وناحية قره هنجير وقضاء جمجمال من خلال تواجد عوائل من العشيرة معهم والتعايش بسلام وامان وحماية من قبل افراد العشائر خاصة في مواسم الربيع الذي تشتهر به مناطق كوردستان حيث يتم تسهيل مهمة رعي اغنامهم في كل مكان وبرعاية وبضيافة كاملة ولابد من ذكر تجاورنا مع الرئيس الراحل (جلال حسام الدين نور الله نوري الطالباني) في عام /1959 في كركوك الذي اختار السكن جوارها قرب بهو البلدية وان هذا الرجل الكبير والوفي يذكر محاسن العشيرة في مجالسه  الذين عايشهم واختلط معهم وتعرف علي الكثير منهم  وكان يذكرها عندما كان يمارس عمله النضالي والقيادي والتربوي في السليمانية واثناء توليه منصب رئاسة الجمهورية وقد استقبل شيخ العشيرة إسماعيل الحديدي ومجموعة من شيوخ العشيرة ومثقفيها وكان دائما يؤكد على وجودهم في كركوك منذ تاريخ طويل ويذكر مقبرتهم الخاصة بامواتهم في المصلى . ان هذا جزء يسير من مجمل علاقات اجتماعية واسعة مع العوائل الكوردية والتركمانية يحتاج ذكرها الى صفحات كثيرة.

 

وهكذا كانت العلاقة الطيبة بينهم وبين الملاكين من أهالي كركوك  والتي تستند الى الاحترام المتبادل وهي علاقات حميمة اخوية خالصة من المصالح و الغايات والأهداف وهذه العلاقة سوف تبقى خالية في النفوس ونحمل شعلتها جميعا من اجل تطويرها وتعزيزها وعود على ذي بدء ان استقرار العشيرة في هذه المنطقة قد أدى ذلك الى ترك مهنتهم السابقة والتحول الى العمل في دوائر الدولة وخاصة شركة نفط الشمال (I   .  P   .  c)    سابقا عام / 1927 م حيث كان الطلب على الايدي العاملة مما سنح لهم الفرصة للعمل بها بالاضافة الى الاشتغال في الدوائر الاخرى مع تحول قسم منهم للعمل في القطاع الخاص وبمهن مختلفة كما قام الآباء بتسجيل ابنائهم في المدارس القريبة من المنطقة منها مدرسة الفيصلية الابتدائية في صاري كهية ومدرسة المحطة قرب محطة القطار ومدرسة الوطن التي تم افتتاحها عام / 1957 من قبل المرحوم سعيد قزاز وزير الداخلية في حينها بجوارالمنطقة والدراسة في المدارس الثانوية في كركوك ( ثانوية كركوك والمصلى وتسعين ) والتحاقهم بعد ذلك الى الجامعات والكليات والتخرج منها والتحاقهم للعمل كل في مجال اختصاصه وخاصة في سلك التعليم .

 

س:حدثنا كذلك عن تجربتكم الوظيفية وكيف كانت علاقتكم مع المكونات العرقية والعقائدية  من الكورد والعرب والتوركمان والمسيحيين من ابناء كركوك؟

 

-تجربتي مع الوظيفة كان لها الاثر الكبير بعد ان تعينت في ديوان المحافظة عام 1971 ,مديرية البلديات حيث اختلفت العلاقة واصبحت علي المحك وانت تلتقي بموظفين من اعمار مختلفة  واصحاب تجربة يتطلب من المبتدئ ان يكون في مستوي المسؤولية ويتعلم من تجارب الاخرين  وكان المحافظ  شكري صبري الحديثي رحمه الله الذي تعرض الي الاعتقال في عام 1979 في ما يسمي المؤامرة  المختلقة علي نظام الحكم بعد ازاحة وإقالة الرئيس المرحوم احمد حسن البكر. كان نائب المحافظ  المرحوم الرجل الذي كان مثالا للخلق الطيبة والموظف المهني القدير (الشيخ احمد النقشبندي) وكان مدير البلديات المرحوم سعيد عباس يايجي تركماني  وروحي عبدالله  تركماني ونجيب لبيب مسيحي  وعلي غفور  كوردي  واشرف بيك النفطجي ولمعان مصطفي تركمانية وكان العنصر النسوي لا يتجاوز عدد اصابع اليد حيث كان الاتجاه النسوي للتعليم وهذه المجموعة جميعهن من الكورديات والتركمانيات ولم يكن من بينهن من العرب  واستمرت الحالة الي حدود  1980 وكانت نسبة العرب لاتتعدى  20% اما في بلدية كركوك فكانت نسبة الكورد عالية  ويليهم التركمان وقليل من العرب المسيحيين عندما انتقلت الى العمل في بلدية كركوك وكان مديرها المرحوم ناظم نوري عباس الصالحي الذي كان في قمة الحرص والنزاهة وبعيد كل البعد عن التعصب القومي والطائفي وهذا كان سلوك عام للجميع يقوم علي الإخلاص والنزاهة .

من محاسن الصدف ان خلال وجودي في ديوان المحافظة كان رئيس قسمي الاستاذ (فريدون عبد القادر )الذي تقلد منصب وزير الداخلية في السليمانية وكان القائد الاول الذي تولي مسؤولية الدخول الي كركوك عام 2003 وهو بالنسبة لي كان من اقرب المقربين في الوظيفة وتحولنا الي أصدقاء لانفارق البعض وتطورت الي العلاقات العائلية  وكان طيبا متواضعا مثقفا يحب الادب والشعر  وكان يصح لي ان اقول “رب اخ لم تلده امك” وهو مشترك فيما بيننا وكان يبوح لي بكل صغيرة وكبيرة منها انتمائه الحزبي وعلاقته بالتنظيمات الكوردية وكان من العناصر المهمة والمتقدمة في تنظيمات كركوك  وكان يسرني في اسراره ويثق بي جدا رغم معرفته انني من تنظيمات الحزب الحاكم  وكنت امينا عليه واحترم انتمائه  ولم اتعامل معه بالوشاية وكان من المقربين ومن محبي المرحوم جلال الطالباني قبل انشقاقه من الحزب الديمقراطي الكوردستاني  وعندما اشتدت الملاحقة علي الكورد اخبرني بانه سيلتحق بالحركة الكوردية وذلك في عام 1975 وقد طلب مني حماية عائلته التي كانت تسكن في كركوك في تسعين دار مؤجرة تعود الي احد اعمامي  والتزمت بذلك عهدا لصداقتي معه رغم الظرف الصعب والخطورة علي في حالة اكتشاف امري وكان له ما اراد حيث وبعد خمسة عشر يوما من تواجدهم في دار والدي ووالدتي التي احتضنتهم بكل حب اوصلتهم الي السليمانية . لم التقي به الا بعد دخوله الى كركوك وكان اول عمل قام به هو الحضورالي داري  وكان لقاء تأريخيا  ويجسد قمة الوفاء ونموذج للعلاقات الرابطة بين العراقيين الاصلاء هذه  صورة بسيطة للحياة الوظيفية التي كانت سائدة قبل 1980  وقبل بدا الحرب مع الجارة ايران حيث بدات الصراعات السياسية الدامية  وتاثر بها المواطن .

 

لازلت اذكر بكل خير واحترام نماذج كردية من الموظفين مثل الشيخ احمد  وروبيتان الجاف  الذي اصبح ايضا نائب محافظ في كركوك الشديد الحريص المخلص النزيه واخي فريدون المتواصلين لحد الان ومن المكون التركماني ناظم الصالحي واشرف النفطجي  ومن العرب عبد الجبار الشبلي وكاظم عبد الرضا معاون محافظ وهو من النجف وناصر علي السعدون كان قائم مقام المركز وهو من الكوت  ولا انسي الاستاذ محمد حسن تقي مدير البلدية من تلعفر الاصيل  والمرحوم المهندس ابراهيم محمد محمود  عندما كانت الوظيفة لها قدسيتها وكان الموظف يحترم التكليف والتشرف به لا يفكر في غير خدمه المجتمع  بكل إخلاص وتفاني لا يفكر بالمنافع والمصالح ولا يبني عليها امال الي الاغتناء مستغلا الوظيفة كان حريصا اولا علي سمعته وسمعة اهله وعشيرته وقوميته كانوا بناة وطن يبنون لا يهدمون.

 

لكن الحمد له بقيت مكونات كركوك ولحد اليوم صامدة امام مأرب السياسيين الذين يعتاشون عليها ولم توثر هذه الفقاعات على العلاقات التاريخية الطيبة المتوارثة بين أبنائها. هذه الكلمات المتواضعة أحببنا ان يطلع عليها الأخوة في كركوك عبر هذه الوسيلة الإعلامية العريقة ” التاخي ” للفائدة وللوثوق والاعتزاز الكبير الذي نحمله في نفوسنا الى أبناء المدينة، مدينة الأحلام وعشق الطفولة مدينة السحر والجمال والذكريات ولواعج الحب والعشق والهوى الذي أشمه في أنسام . صباحاتها الباسمة كركوك انا المثبت في أحيائها وأحشائها وأتغذى من مفاتنها فكوني لنا وللجميع بردا وسلاما ….

 

ختاما ونحن نودع أستاذنا الفاضل ياسين الحديدي نشكره جزيل الشكر على المعلومات القيمة التي أسداها لنا حول المدينة واهلها الكرام متمنين له دوام الصحة والعافية.

الأندلس

2024

أشارات:

*للمزيد حول العشائر العراقية راجع كتاب الأستاذ عباس العزاوي تحت الرابط التالي:

https://shamela.ws/book/498

** هو (السيد علاوي موسي جاسم ال مهنا النعيمي) المولود سنة 1751م في قره تبة ، من فخذ المهنا. كان غنيا وله قطيع كبير من الأغنام استقر بعد نزوحه في ( جريد ميداني ) توفي عام 1811 م ودفن في المنطقة المجاورة لسكنه وتكيته  ارض خالية من السكن  وكان زاهدا وورعا  وكريما وله من الكرامات التي جعلت من اهل كركوك من مختلف القوميات يحيطون به ويترددون عليه للدعاء والبركة والشفاء وأطلق المريدين اسم المقبره باسمه المبارك ولازالت نقطة دلالة في المدينة.

 

  • يارولي، كانت مصدر الماء لمدينة كركوك وكان الناس في مدينة كركوك تشرب الماء من بعض العيون والـكهاريز والسواقي أو من الأبار المحفورة في بيوت العوائل المتمكنة، وعلى الأمطارلإستفاد منها للشرب والسقي المزارع والبساتين. ولسد إحتياجاتهم يومية من المياه. لعدم وجود مشروع إسالة ماء في كركوك لغاية الثلاثينيات من القرن المنصرم وكان منبع السواقي المنتشرة في مدينة كركوك تأتي من منطقة (يارولي) في نهاية (نهر خاصه جاي) مقابل بارودخانة ، وفي زمن ما أنشئت (سدة يارولي)، وكانت فيها مكينة ضغ الماء الى المدينة (أسالة مشروع ماء القديمة) بواسطة السواقي. وقد ظلت السواقي قائمة حتى الستينيات من القرن الماضي. وقسمت المياه الى مجريين.
  1. مجرى يذهب الى جهة القورية (مجرى القورية )
  2. ومجرى الى جهة صوب الكبير(مجرى صوب الكبير) ويسمى (زيوه آرخي)
قد يعجبك ايضا