تنوع العرض السردي المبهر في رواية شرق المدينة

 

 

 

 

 

 

الكاتب: سالم بخشي

 

 

 

كما هي المفاجآت السعيدة في الحياة، والتي تأتيك بغتة من دون تصور، أو تحضير مسبّق، وتملأ نفسك بالغبطة والحبور؛ كذلك تفعل رواية (شرق المدينة) الصادرة عن دار السرد للطباعة والنشر، مطبوعات العام 2024، حيث يفاجئنا الكاتب المبدع رحيم حسن الربيعي، بسرد شائق وآسر؛ يدفعنا من دون أن نشعر إلى الخوض والاسترسال في تفاصيل روايته المثيرة.

أن تحقق روايتك الأولى، قدر معين من النجاح، فهذا حسن، لكن أن تنطوي على قدر كبير من عوامل النجاح، فذاك يُنبئنا، بقدوم سارد مهم إلى الساحة، يملك قدرًا كبيرًا من الموهبة، ويمكن له أن يقدم الكثير من الأعمال السردية المهمة في قادم الوقت، بشرط الاجتهاد، والمثابرة، والقابلية على التطور.

لقد تمكن رحيم الربيعي من تقديم رواية ناضجة، وقوية على مستوى العناصر، ومتوازنة على مستوى تفعيل، وتعالق هذه العناصر، بالذات الشخصيات الرئيسة، والثانوية، وتوزيعها بشكل منتظم بين طرفي الصراع في الرواية.

طرف المقاومة الشعبية الباسلة، ضد الاحتلال الأمريكي، ومثّلها بشخصيات: أحمد عبد الجبار، محمد أبراهيم، سعاد كامل، الصحفي طارق، وآخرون. وطرف الاحتلال الأمريكي البغيض المتمثلة بشخصيات: (رالف) قائد الفرقة القذرة في الجيش الأمريكي، راغب المساعد الخاص والمقرب من رالف، وهو أمريكي من أصول عربية، سعدون العتاك الذي تسلق منصب أمني رفيع؛ تثمينًا لخياناته وولائه للأمريكان، وآخرون.

أجمل ما يميز رواية شرق المدينة، انها قُدّمت بعرض سردي متنوع، غاية في الروعة، وتبين إمكانية سردية غير تقليدية لكاتبها؛ حيث استخدم الوثيقة تارة، وأستخدم المذكرات تارة أخرى، كذلك استخدم البث الإذاعي الراديوي، وأستخدم الموبايل، والرسائل الألكترونية، ناهيك عن طريقة السرد التقليدية على لسان أحد الأبطال الرئيسين، أحمد عبد الجبار، بطريقة السرد الذاتي المباشر (المنلوج).

وطيًا أمثلة تطبيقية على طرق العرض السردية -غير التقليدية- التي استخدمت في الرواية:

  • العرض باستخدام المذكرات في موضعين:
  • مذكرات الأم (تريزا)، إضافة إلى الحوارات المباشرة التي جرت في سجن أبو غريب، بين المعتقل أحمد عبد الجبار، وبين راغب، المساعد الأيمن لقائد الفرقة القذرة (رالف) لإلقاء الضوء على الطبيعة الشريرة لهذه الشخصية في مطلع الفصل الخامس من الرواية، الصفحة (60) استخدم الروائي، بذكاء، عرض مذكرات السيدة (تريزا) والدة رالف، وما لقيته من عذاب وعنت واعتداءات، خلال تربيتها له؛ ليعرفنا المزيد عن شخصية رالف التي شوهتها المعاناة، والألم، وحولته إلى وحش كاسر، يستلذ بالقتل والتقتيل، ويتبين من خلال سرد المذكرات، أنه طفل غير شرعي أحضره، روبرتو، زوج تريزا، في أحد الليالي، وهم بانتظار هجرتهم غير الشرعية لأمريكا. تم عرض المذكرات من الصفحة (63) لغاية الصفحة (79) يتخللها بعض التوقفات الحوارية بين راغب وأحمد.
  • مذكرات، سعاد كامل، حبيبة، محمد إبراهيم، أحد الأبطال الرئيسين في الرواية، وهي تستذكر قصة حبها الجارف، لحبيبها المغيب في السجن، والأمل الكبير في لقاءه يوما ما، الصفحات (172-175).
  • العرض باستخدام الوثيقة:

في مطلع الفصل رقم (11) نطالع على لسان أحمد عبد الجبار: ((صوت لطائرة هليكوبتر تحلق عند الأفق، استطعنا الاختفاء منها بين طيات الأرض والأحراش، غطت المنطقة بمنشورات، تطايرت بشكل كثيف فوقنا، تلقفت إحداها، وقرأت ما جاء فيها: بيان لشعب العراق، أنا الفريق دايفد ماك كرينان، قائد جميع قوات الائتلاف البرية. أؤكد لكافة المواطنين… وادعوا بصفتي كرئيس السلطة في العراق، للتوقف فورًا عن كل الأعمال الإجرامية…)) إلى نهاية الوثيقة التي تطالب بإنهاء الأعمال المسلحة ضد الأمريكان. الصفحة (178).

  • العرض من خلال البث الراديوي في أربعة مواضع من الرواية:
  • في نهاية الفصل رقم (2) نطالع بصوت البطل أحمد عبد الجبار: ((كان صوت المذياع يعلو شيئًا، فشيئًا، حاملًا أخبار جيوش العالم، وهي تستجمع قواها وتتهيأ للهجوم على البصرة…انقطع صوت الإذاعة فجأة، ودخل الرئيس الأمريكي (بوش) على الخط، شعرت بقشعريرة تنتابني، بعد أن قال في كلمة مقتضبة: لقد عزمنا على تحرك الأسطول الحربي الثاني من البحرين، مع حاملات الطائرات…)). الصفحة (27).
  • في مطلع الفصل رقم (4) نطالع على لسان السارد أحمد عبد الجبار: ((تأكدت بأن هذا الصوت هو فعلًا لوالدي، الذي تركني دون وداع، تفاجأت بالصوت وهو ينبثق من سماعة مذياعه القديم، والذي تركه على سريره، معطلًا. لكني تقهقرت بعد ذلك إلى الخلف، بدأ الصوت يأخذ بالارتفاع. كان يناديني: أين أنت يا أحمد.. أين أنت يا ولدي؟! فكنت أجيبه بصوت عال، انعكس صداه بين جدران البيت…)). يستمر الحوار عبر الصفحات (54،53،52). كان هذا الاتصال غرائبيًا، بين أحمد، ووالده الشهيد عبد الجبار، بعد أن تلاشى عند استشهاده، كغيمة ناعمة في وقت سابق من الأحداث! وهي إضافة سردية نوعية؛ تمكن خلالها الكاتب من استخدام خياله الثر في خلق بعض الأحداث الغرائبية؛ عندما قام باستدعاء أرواح شهداء العراق جميعًا، عبر تأريخه المأزوم بالحروب والكوارث والسلطات الجائرة على شكل أشباح، وقاتل بهم الأمريكان، في إشارة ضامرة وذكية بموقف الشعب العراقي من الاحتلال الأمريكي الغاشم.
  • في منتصف الفصل رقم (6) يخبرنا أحمد عبد الجبار ساردًا: ((كانت الإذاعة الموجهة تبث أخبارها على مدار الساعة، وتدعو المواطنين، بالوقوف مع القوات التي جاءت (لتحريرهم). وعبر أثيرها تبث أخبار رئيس سلطة الائتلاف (برايمر) و(تومي فرانك) قائد التحالف… وكان يتحدث في معرض إجابته، على أسئلة الصحفيين عن سبب تواجدهم داخل المدن الكبيرة، بغداد أو باقي المحافظات، فأجاب: إن هناك مجاميع مسلحة يصعب التعرف عليها، وهي تقوم بالتعرض لقواتنا….)). الصفحتان (103) و(104).
  • في منتصف الفصل رقم (7) نطالع ما دوّنه السارد أحمد عبد الجبار: ((أسرعت على الفور الاتصال بأبي، عبر المذياع؛ لأخبره بما يجري: أبي هل تسمعني.. ألو؟ انبثق الصوت الأجش من الجهاز (نعم يا احمد، أنا اسمعك). الأمريكيون الآن يقومون بالتفتيش داخل الأزقة، بحثًا عن خيوط، ترشدهم لقوات الأشباح. (هذا يعني أن ضرباتنا، قد أثرت وهذا أكبر دليل). انقطعت المكالمة بشكل مفاجئ…)). الصفحتان (118) و(119).
  • العرض من خلال رسائل إلكترونية عبر الهاتف الجوال (الموبايل) في موضعين:
  • في نهاية الفصل رقم (6) نطالع عبر أحمد عبد الجبار: ((رن الهاتف، فتحت الخط متلهفًا، غير أن الصوت انقطع، وبعد برهة قصيرة، رن مرة أخرى لكن برسالة إلكترونية، قرأت محتواها على الفور: (كل من تشاهده من هؤلاء الأشباح، يا ولدي العزيز، هم شهداء قتلوا على يد العبثية، وأنا الآن معهم، أطلب الثأر من كل سارق لأحلامنا، وتطلعاتنا…)). الصفحة رقم (106).
  • في نهاية الفصل رقم (7) نطالع بواسطة السارد: ((في صباح اليوم التالي ومن خلال جهاز الموبايل، تلقيت رسالة إلكترونية من أبي…)). الصفحة رقم (120).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ما يؤخذ على رواية شرق المدينة بعض الكبوات السردية -ولكل جواد كبوة- إن جاز التعبير بسبب الانتقالات السردية المربكة في بعض المواضع، عندما سرد الروائي بطريقة الراوي العليم فجأة، في الوقت الذي كان يسرد الأحداث، بطريقة الراوي المباشر؛ ما تسبب، بسوء الفهم لدى المتلقي.

من أبرز هذه المواضع:

  • في الفصل رقم (1) الصفحتان (8) و(9) حدث هذا الجنوح الخاطئ في المواضع التالية: ((أدار نظره في زوايا المنزل، بعد أن اشتدت همومه مع والدته… وسط ذلك الصمت الحزين، وقع نضره على الهاتف… فتح النافذة المطلة على الحديقة… سمع صوتًا غريبًا وكأنه شيء… هاربًا نحو الشارع)). أنه (أحمد) ينسب أفعال ومشاعر لصديقه محمد ووالدته في الوقت الذي كان غائبًا عنهم في تلك اللحظة (وقت سرد الأحداث) وهذا لا يجوز للسارد المباشر مطلقًا. أن يتمكن من سرد وقائع غير حاضر بها، لحظة سرده للأحداث.
  • حدث الانتقال الخاطئ مجددًا في الصفحتين (14) و(15) من نفس الفصل، في المواضع التالية: ((وقفت والدته في المطبخ تحضر الشاي… تلك الكلمات التي نطق بها أمام والدته، فعلت فعل الصاعقة داخل خلجاتها… اغرورقت عيناها بالدموع، وأجهشت بالبكاء، أمسكها من يديها… التي رافقت ذلك الفقد)).
  • تكرر الأمر، منذ السطر الأول للفصل رقم (3) في الصفحة (31) مبتدًأ بالجملة: ((واقع الخوف يخيم على كل أهل شرق المدينة…)) حتى الصفحة (34) منتهيًا بالجملة: ((حاول الجندي قلع الباب، بكفيه العريضين، فلم يستطع؛ عند ذاك لجأ إلى تحطيم السلسلة بمطرقة كبيرة اقتلعته من مكانه)).

رغم أن الروائي المبدع رحيم حسن الربيعي، قسى على أبطاله المقاومين، وعوائلهم؛ عندما فرقّ عليهم الموت الذريع، خلال فصول الرواية، من دون استثناء، ولم يبق لنا، سوى السارد المقاوم، أحمد عبد الجبار -وكنت خائفًا أن يموت هو أيضًا!- إلا أنه تمكن في النهاية، من تقديم رواية بديعة، تناولت المقاومة الشعبية الباسلة للاحتلال الأمريكي، وما دفعه الثوار من أثمان باهظة في هذا السبيل، وفي جانب آخر ألقى الضوء على الممارسات الاجرامية السرية، في احداث الفتنة الطائفية، وعمليات الخطف والتخريب، والتفجيرات، التي كانت تتم، بعلم وتنسيق الأمريكان؛ لخلط الأوراق، وإطالة أمد الاحتلال المقيت!

 

 

 

قد يعجبك ايضا