جماعة كركوك الادبية
د. توفيق رفيق التونچي
كركوك متحف الشعوب والأقوام ومهد انشاء اول المدن المتحضرة التي سكنها البشر وربما كانت الاولى . هنا وعلى رابية بني ابناء الحضارات الاولى اولى القلاع وسكنها أقوام عدده. اليوم نجد بعض اثارهم رغم ان النظام الدكتاتوري السابق هدم معظم احيائها ولم يبقى الا بعض البنايات في القلعة. مع التطور العمراني في المدينة تغيرت بيئتها كذلك ومع اتساع رقعة المدينة تغيرت مواقع احيائها خذ مثلا محلة قورية التراثية كانت في يوم من الايام قرية في ضواحي المدينة كما كانت محلة تسعين غابات ولم تكن هناك اي بيوت حتى في منطقة عرفة الحالية والحي بنيت من قبل شركة نفط الشمال ( أي، بي، سي) والتي تأسست في عام 1927 في منطقة قريبة من ابار النفط في بابا كركر وكيوان وخصصت للعاملين في الشركة. عي هذه المدينة ولد حركة ادبية قادها شباب مع نهايات الحرب العالمية الاولى جماعة كركوك الادبية. هذه دراسة حول الجماعة واعضائها حاولت فيها بكلماتهم، هولاء ممن عرفتهم او قابلتهم سرد وبحث اثارهم. المجموعة اثرت على مجمل الحركة الادبية والعدديد منهم قد توفاهم الرحمن ولم يبقى منهم على قيد الحياة الا بعض الادباء لارواحهم جميعا السكينة والسلام .ولا يزال نبع الابداع يجري في عروق ابناء المدينة وتزين مجمل الحركة الفنية والادبية باجمل الاسماء.
بيئة المدينة ، النصل و المكان:
يرتكز مادتي هذه على بيئة المدينة وانعكاساتها على الادب الابداعي لدن جماعة كركوك الادبية. الهدف من الدراسة استبيان تاثير “البيئة” وانعكاساتها وكل الحوادث التاريخية علي الابداع الادبي بصورة عامة. من ناحية اخرى يجب فهم الواقع والبيئة المحيطة لفهم اتجاهات الادبية والفكرية. ففي ازقة المدينة ومقاهيها وسينماتها التقى الشباب وفي تلك الايام كانت للافكار السياسية اثرا كبيرا في النص الابداعي ويرتبط جدليا بالبيئة المحيطة وتلك الرائحة القديمة. كنت قد افردت جانبا خاصا لهذا الموضوع في كتابي “كركوك نامه” و كتاب “صخرة على اقطاف القلعة” التي صدرت عام 2006 عن دار فيشيون ميديا، السويد.
ان هناك قافلة من المبدعين العراقيين يتجمعون حول بيئة المدينة وتأثيرها عليهم خذ مثلا مبدعي مدينة الناصرية مثالا وقارنه مع مبدعي المدن العراقية الأخرى ستجد حتما نموذجا مرتبطا بالناصرية كمدينة وهكذا بالنسبة للمبدعين من مدينة النجف الاشرف او دهوك او السليمانية واربيل والموصل. المادة تعتمد بالدرجة الأولى على بعض النماذج من الإرث الأدبي الذي تركه هؤلاء المبدعين واستنتاجاتي الشخصية من خلال كوني ابن المدينة من ناحية ومن ناحية اخرى علاقاتي الشخصبة المباشرة والغير مباشرة عن طريق الاستئناس بآرائهم وحديثي معهم عن طريق الهاتف او الانترنت او تبادل الرسائل مع البعض منهم. اخص بالذكر وبالدرجة الاولى المرحوم الأديب زهدي الداوودي واخرون. استفدت كذلك من الكم الهائل من الكتابات حول المجموعة والمنشورة على مواقع الانترنت والجرائد راجع ” الإشارات المرجعية” في خاتمة المادة واعتذر عن ورود الأخطاء الإملائية في الموضوع.
ترتكز مادتي هذه وكما أسلفت على سرد وصفي لبيئة المدينة آنذاك وانعكاساتها على نماذج من الأدب الإبداعي الكركوكي ولذا اعتذر من القارئ الذي لم يشاهد المدينة وعلى علم بأسماء أحيائها ربما سيلقي بعض الصعوبات خاصة عند ذكري لبعض التفاصيل الدقيقة والمسميات. ان مسؤولية توثيق تلك الفترة التاريخية تقع على عاتق الجميع. من الطبيعي سيكون هناك مؤيدون واخرون يقفون بالضد للأفكار الواردة في مادتي هذه واني لاعتبر كل إضافة او تعليق واستذكار اغتناء للحوار الثقافي الحضاري والإنساني. الهدف منها تبيان تأثير وانعكاس “البيئة” وكل الحوادث التاريخية التي جرت خلال فترة تاريخية معينة في حياة المدينة وابنائها وانعكاساتها في الإبداع الأدبي بصورة عامة، فضلا عن وجوب فهم الواقع والبيئة المحيطة خلال كتابة النص او الفترة الزمنية وشخصيات والبيئة التي تجري فيها حوادث العمل الادبي لفهم الاتجاهات الأدبية والفكرية السائدة آنذاك. ففي حارات وازقة المدينة ومقاهيها وسينماتها التقى الشباب وفي تلك الأيام كانت للأفكار السياسية اثر كبيرا في النص الإبداعي ويرتبط جدليا بالبيئة المحيطة والحدث وتلك الرائحة القديمة.
سأصف بيئة المدينة في فترة نشوء تلك الجماعة الأدبية مع نهايات العهد الملكي وبداية العهد الجمهوري وليست بيئة المدينة على حالها اليوم.
أن مدينة كركوك مكان الطقوس الإبداعية كمكان ، وطن، يحتضن هموم الإنسان بين أزقته وطرقاته. الإحساس بالمكان يعمد الكلمات وكل عمل ابداعي مرتبط عضويا بثلاثية عناصر مطلقة مكان الحدث، الزمان والمبدع. ان هذه المغامرة المجهولة في الذاكرة البشرية والعودة بالقهقرى اكثر من سته عقود من الزمن ورؤية المدينة بعيون الطفل لهي مغامرة تستحق الخوض في غمارها. ان الكثير من التفاصيل التي محتها الزمن ربما سيساعدني في تذكره ذاكرة القارئ النبية في استرجاع الذكريات الإنسانية لرسم صورة واقعية للمدينة آنذاك.
لم تتطور المدينة كثيرا منذ تلك الأيام قبل نصف قرن من الآن وبقت على حالها حتى يومنا هذا من الناحية العمرانية لكن الذي حصل تطور في البناء أفقيا لتمتد المدينة الى جهاتها الأربعة والأحرى تطورت على ثلاث محاور اولها محور طريق بغداد وتكريت وثانيها طريق المؤدي الى مدينة السليمانية ومحور ثالث في الطريق المؤدي الى مدينة هولير عاصمة اقليم كوردستان. مكونة احياء مستقيمة على طرفي شارع عام دون وجود تخطيط وبناء تحتي كما هي عليها المدن بصورة عامة. حتى تطورها العمراني كان ضعيف جدا في نهاية الخمسينيات فهناك عمارتين ربما كانت ب اربع طوابق هما مصرف الرافدين عند الجسر الجديد وبناية شكر نجار الذي بناه هذا العصامي الصنايعي الفنان صانع الموبيليات والأثاث المنزلية في شارع الجمهورية. سأسرد واصفا اماكن أساسية في المدينة أثرت بصورة مباشرة او غير مباشرة في أعمالهم الإبداعية حيث نرى انعكاساتها في النماذج الأدبية الإبداعية الذي سأستشهد به لاحقا.
لم تتطور المدينة على غرار مدن العراق الاخرى في سنوات ما قبل الثورة واقصد ثورة تموز1958 طبعا وبقى الكثير من بيئة المدينة تشبه ما كانت علية اثر انهيار الإمبراطورية العثمانية رغم ان اكتشاف النفط كان يجب ان يكون حافزا لتطوير المدينة ولكنه جاء بالماسي عليها.
ان التطور الوحيد الذي نراه في المدينة مرتبط بشركة النفط العراقية حيث مصافي النفط وتكرريها انتشرت على أطراف المدينة في منطقة باباكركر وبني مقر للشركة على الطابع الانكليزي وتم كذلك بناء منطقة سكنية لعاملين والموظفين في الشركة ومحطة قطار. سمي الحي ب “عرفة” تيمنا باسم المدينة الأشوري القديم “ارباخا” الشق الاول من الكلمة تاتي من الآرامية القديمة وتعني أربعة كما هي في اسم مدينة اربيل عاصمة اقليم كوردستان العراق “اربا ايلو” أي مدينة الآلهة الأربعة والشق الثاني ايلوتعني الهة فيما تعني خا واحد . كان طابع الحي العصري آنذاك مدعاة للفخر لأبناء المدينة. الطابع الانكليزي للبناء كدور مستقلة وبحديقة أمامية وبوجود دواليب ملابس في غرفها والكثير من المرافق التي كانت مفقودة في بيوت كركوك التقليدية خاصة في أحيائها الشعبية كما هي بيوت حي القلعة ومنطقة قورية وبلاغ ومصلى وبريادي” طوقات محلسي” و بكلر وصاري كهية وجرت ميداني المحاذية لمطار كركوك العسكري عند غابات أشجار الزيتون الشهيرة بمجزرتها ، كاور باغي، 12 تموز عام 1946 وكنا قد سكنا في تلك المحلة ثلاث سنوات قبل رحيلنا الى بغداد وحمام كلي علي بك وأماكن أخرى.
الحي الجديد أي عرفة جهز بمحلات لتبضع “كانتين” وكنت تجد كل احتياجاتك دون الحاجة للذهاب الى مركز المدينة للتسوق. هذا الحي سكنه بالدرجة الأولى عمال شركة النفط وكان جلهم من مسيحيي كركوك والعرب وبعض التوركمان وقلة من الكورد. لكنها بقت منطقة سكنية ليس الا ومكان يتجول فيه الشبان علهم يلتقون بمحبوبتهم السمراء من قوم عيسى “أغنية لمطرب العراق الكبير ناظم الغزالي” وهناك العيد من الزيجات التي حصلت نتيجة ظهور هذا الحي العصري في المدينة. هناك انعكاس لهذه البيئة العقائدية في المدينة على أصول مجموعة كركوك الأدبية حيث نجد في تكوين عوائلهم تركيبا تعدديا رائعا في اختلاط بين التوركمان والعرب والكورد والسريان والارمن وعقائد كالايزيدية والكاكائية وحتى بين طائفتي السنة والشيعة. اعتقد جازما ان ذلك كان مصدرا أساسيا في إنتاجهم الإبداعي وخاصة في انتمائاتهم وميولهم السياسية بعيدا عن الافكار القومية السلبية. السمراء من قوم عيسى “اغنية لمطرب العراق الكبير ناظم الغزالي” وهناك العيد من الزيجات التي حصلت نتيجة ظهور هذا الحي العصري في المدينة. هناك انعكاس لهذه البيئة العقائدية في المدينة على اصول مجموعة كركوك الادبية حيث نجد في تكوين عوائلهم تركيبا تعدديا رائعا في اختلاط بين التوركمان والعرب والكورد والسريان والارمن وعقائد كالايزيدية والكائية وحتى بين طائفتي السنة والشيعة. اعتقد جازما ان ذلك كان مصدرا اساسيا في انتاجهم الابداعي وخاصة في انتمائاتهم وميولهم السياسية بعيدا عن الافكار القومية السلبية.
حدثني صديقي الشاعر بدل رفو وبسعادة عند اكتشافه لهذا الاديب الرائع الكاتب المرحوم د. زهدي الداوودي قائلا:
بان اول كتاب اشتراه في حياته كان المجموعة القصصية والصادرة عن جامعة الموصل تحت عنوان “الزنابق التي لا تموت” في السبعينيات ولا لايزال يحتفظ بها. و الداوودي احد ابرز اعضاء المجموعة بل من اوئل مجموعة “الاشقياء” حيث يقول فيها الكاتب:
ان احتفالات السنوية والمظاهرات في يوم الثورة أي 14 من تموز كانت تشهد عرسا احتفاليا استثنائيا في المدينة اذ كانت الشوارع تزين بسعف النخيل بينما تقوم الدوائر الرسمية ببناء طاق خشبي يكتب عليها شعارات وطنية بذكرى هذا اليوم وصور الزعيم وكانت إحدى أجمل تلك البوابات الخشبية تبنى عند مقر شركة النفط العراقية ” أي بي سي” في مدخل هذا الحي وبالقرب من محطة القطار ذو المقطورات الرصاصية ذو اللون المعدني. هذه الاحتفالات شهدت خفوتا واضحا بعد حوادث تموز1959 التي سآتي الى بعض تفاصيلها لاحقا.