اعداد: عدنان رحمن
اصدار: 27- 2- 2024
مع قرب حلول المناسبات التي تخص الحياة الشخصية للبارزاني الخالد بكلّ ما حوته من نضالات وتضحيات من أجل القضية الكوردية وتفاصيلها، التي أكدتها الأحداث التي مرّت بهِ منذ نعومة أظافره حتى وفاته، نورد ما كتبه الرئيس مسعود البارزاني، التي وردت في الملحق الاسبوعي لصحيفة المدى التي يرأسها فخري كريم، بالعدد ( 1748) السنـــة السابعة، الخميس ( 18) في شباط من العام 2010 وتحت عنوان ( عراقيون من زمن التوهج) والعدد هذا كان بعنوان ( في ذكرى البارزاني الخالد).
ورد فيها جزءاً ممّا كتبه الرئيس مسعود البارزاني في كتابه الذي كان بعنوان ( البارزاني والحركة التحررية الكوردية، ج٢) كانت الصحيفة قد أوردتها تحت عنوان ( أبي) وفيها:
– ” شاءت الأقدار ألا يكون حظّي من الوالد مثل حظوظ الأبناء بوالديهم عادة، فقد غادرنا فى رحلة امتدت زهاء اثني عشر عاما وأنا طفل رضيع وحُكِمَ عليَّ ألا أكون كسائر الأبناء، فقد سمعت عنه ولم أسمع منه طوال فترة الحداثة ونصيبي منه أنذاك لم يكن أكثر من صورة شمسية باهتة لهُ، كذلك لم تتح لي الظروف بالكثير منه بعد عودته من منفاه، إذ سرعان ما أرغم على مصارعة أمواج بحر الرابع عشر من تموز المتلاطمة، بدءاً بعلاقة قلقة مع عبد الكريم قاسم ومروراً بمتاعب الحزب الذي كان على رأسه وانتهاءً بقيادته ثورة أيلول وكلّها كانت تستأثر بجُلّ وقته وتُبعدهُ عن المحيط العائلي. لمّا بلغت أشدّي وسُمحَ لي في عام ۱۹٦٢ بالانضمام الى صفوف البيشمركة الى جانبه، ما كان بوسعي في تلك السنّ المُبكرة، ومع ظروف الثورة من حِلٍ وترحال ومعارك واجتماعات أن أعرفهُ معرفة صميمة وبقيَتْ علاقتي به علاقة وظيفية، وندر أن خلوت به إلا لتَلقي التوجيهات والأوامر والتوصيات أو المُشاركة في اجتماعات أو استطلاعات على الجبهة لم تكن رغم غناها- كافية في نظري للمعرفة الوجدانية الصميمة التي كنتُ أطمح إليها دائما، إلا خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة من حياته، وهي أعوام مرضَهُ، وكنت إذ ذاك قد بلغت السِنّ التي تمكنني من الحكم على الأمور والطبائع البشرية بشكل عام. وهكذا خلال هذه الأعوام الثلاثة اكتشفت في الوالد ما عزّ عليَّ اكتشافه طوال السنوات العشر التي رافقته فيها جنديا. وتأكدت من كلمّا سمعت ممّا يُعزى إليه من الجلد والشجاعة وما رُوِيَ لي عن صفاء ذهنه وصبره أمام الخطوب والمآزق ووقوفه إزاءها بحزم وبرودة دم. وقد شاهدتها بعيني في أثناء صُحبتي لهُ لكني ما كنت أتصوّر أنها ستبلغ المبلغ الذي وصلته عندما أدرك طبيعة الداء المُبتلى بهِ إدراكاً تاماً وعَلِمَ بأن أيامه معنا أصبحت معدودة. فقد راح هو نفسه يُخفّف عنّا وقعَ الصدمة ويَشُد من عزمنا ويهيئنا فكريا لاستقبال نهايته كما لو كنّا نحن المُبتلين وهو السليم المُعافى. ظلّ أبداً ذلك الرجل الصلب العود الشديد العزيمة أمام الموت لم يطرأ أي تغيير على طبعهِ الجاد وفكره السليم، ولَم يكُن يقتضي منه ذلك أي جهد أو افتعال بل بقيَ على سجيته المأثورة.
تراه يَنصح ويَقترح ويَشُد من العزائم في أحاديث لا تخلو من مرح وفكاهة أحياناً. إلا أنه كان يستشهد بوقائع وحكايات وأمثال وآيات قرآنية بالمناسبة وكل قصده تبديد وحشتنا وتفريج كربتنا وبث العزيمة فينا. لا مَراء في أن معظم هذه القوى الروحية التي صاحبت حياته إذ ذاك كان يعود الى إيمان راسخ قوي بالمشيئة الإلهية، وهي بالتأكيد ثمرة تربيته الدينية ونشأته على آداب الطريقة النقشبندية، وقد لقنها منذ الحداثة، فضلاً عن تجاربه الجِسام العديدة بحياة تَحُف بها الأخطار والمِحن والأرزاء، فقد ولد بعد وفاة أبيه بشهرين ودخل السجون في حضن أمّه وهو ابن ثلاث سنوات، وكان حدثاً عندما نال مُعلمه وأخوه الأكبر الشيخ عبد السلام الشهادة، وبلغ أشدّه في رعاية أخيه ومَثلُه الأعلى الشيخ أحمد، وحملَ السلاح وعبء القيادة وخاض المعارك وهو في مقتبل الشباب ضد جيوش نظامية ونقلته المنافي وبلاد الغُربة في منطقة واسعة من الكرة الأرضية من ( أرضروم) على الحدود الأرمينية شمالاً والى الناصرية في جنوب العراق ومن الديوانية غرباً الى مهاباد شرقا، فضلاً عمّا كابدهُ من ترحيل قسري داخل الاتحاد السوفيتي على يد حُكام غِلاظ. وفي معظم هذه المنافي إن لم أقُل في كلّها، كان ثُقل العناية بأفراد العشيرة والرفاق الذين شاركوه النفي يقع على عاتقه بشكل طبيعي فلا يتردد مدركاً بطريقةٍ ما أنه صاحب رسالة وأنه خصّ وأختير لحَمِل هذا العبء، وأن عليه تحمل تبعاته بكلما ينجُم عنها من عناء وتضحية وبشجاعته الخارقة أثبت وجوده وهو في مقتبل العُمر. وقد كفلهُ الشيخ احمد وعُني بتربيته وتلقينه المبادئ التي فرضتها الطريقة، ومنه ومن الشيخ عبد السلام ومن خالهُ أحمد بيرسيا في تَفهّم ذلك الطابع الجهادي الذي اتسمت به النقشبندية وهو عدم الفصل بين الأسُس المُثلى لتعاليم الدِين وبين حُبّ الوطن والشعب والدفاع عنه والجهاد في سبيله، ومن أسمى تعاليمها المساواة الاجتماعية والتواضع والتسامح الديني عمليا وبأحلى مظهر، كما بدت له برزان التي بقيت أبداً وطن اليهود والمسيحيين بقدر ما كانت وطن المسلمين، هذه التربية وجدناها تنعكس على القرارات المصيرية التي كانت شؤون ثورة أيلول تضطره الى اتخاذها لتأتي مثلاً يُضرب بالعدالة والحكمة. وفي صفحات التاريخ قدر مطالعتي فيه أمثلة لحُسن القيادة ووقائع تُضرب وتُذكر لزعامات كانت المقارنة معها لابد منها، وأنا لا اعتقد أنني قرأت عن قائد أو زعيم سياسي مَلكَ من التجارب العملية قدرَ ما ملكَهُ الوالد فان أساليبه عملية تستمد قوتها من الواقع ومن تلك المَلكَة التي تَخصّص بها القياديون المُلهمون. رأيته مثلاً لا يمنح ثقته الكاملة لأحد من أعوانه ومساعديه وإن منح ثقة فبعدَ اختبار وبصعوبة تُعادل حجبها عن الغير، مع هذا فالشك ليس من طبعه وميزان تقديره هو التجربة بعد التجربة وحُسن الأداء، واسترسالاً من هذا اتضح لي السرّ الذي كان يختفي تحت الوصايا والأوامر الباتّة القاطعة السياسية منها والعسكرية والمتعلّق منها بالقرارات المصيرية، فهي نابعة من ثقة في النفس لا حدّ لها وهي الثقة التي تُلازم أصحاب الرسالات المختارين، وهذه الثقة تُفسّر إصراره الشديد على المُضي قُدما فيما اختاره حتى النهاية ومهما كلّفه الأمر دون تراجع. اتضحت لي هذه الجوانب من حياة البارزاني خلال ملازمتي له طوال السنوات الثلاث وقد زادت هذه الجوانب حساسيّة وظهوراً من خلال الاهتمام الكبير الذي كان يخصّني به وزيادة التلطف معي عند إصراري على الالتصاق به والقيام على خدمته فلم يعترض، إلا انه كان يُشفق على تفرغي إليه، وحدث ذات يوم أني تلقيت مكالمة هاتفية من أخي إدريس في إيران حيث قال لي: إن أطفالي هناك يريدون التحدث إليَّ عبر الهاتف وكان سؤالهم ( متى تعود؟)، ردّدوا ذلك مراراً وتكراراً. وأحرجتني الإجابة إذ لم أكُن أرغب أن يفهم الوالد ورحت أتهرب من الإجابة بمحاولات أدرك الوالد معها أني أخفي عنه شيئا يتعلّق به فألّح بعد نهاية المكالمة في معرفة أسباب مناورتي وغموضي في الإجابة على أسئلة الأطفال، ولم يسعني غير قول الحقيقة أنذاك وبدا عليَّ التأثر الشديد حيث قال لي: يا بُني ها أني أظلمك وأنت بهذا تظلم أبناءك فمن أجلي أنا يُحرمون عطف والدهم وهذا كثير، أجبته وفي نفسي ما فيها: يا سيدي ويا والدي كان قصدي الأول والأخير أن أنال شرف خدمتك وهو ما عزّ عليَّ نيله طوال وجودي معك أيام الثورة ورجائي إليك اللا تستكثر عليَّ مثل هذا الشرف ودعني أنعَمْ بهِ، حقاً إنيّ أحُبّ أولادي لكني- وأقول هنا هذا من كل قلبي أطلب أن يجعلني وإياهم فدى لك، أنا الآن أحظى بتكريم ومقام طالما تمنيتهما وهما الحظوة بشرف خدمتك والبقاء الى جانيك ولن أتنازل عن هذا التكريم فرجائي منك ألا تُسمعني شيئاً من هذا القبيل. إن حياة البارزاني الحافلة وأثرها الباقي وإسهامها في النهضة القومية الكوردية بإخراجها من الحيّز المحلي الضيق الى الأفق العالمي بل قُل تدوينها لم تكن بحاجة الى قَلمي فقد جـرى تقويمها ووضعها في مكانها التاريخي قبل عقدي النيّة على الكتابة وقبل أن يوافيه الأجل بزمن بعيد، وأولئك الذين حاولوا النَيل والانتقاص من دَوره الكبير في إحياء أمال الأمّة الكوردية بالحريّة، وحرصوا على تسقُط ما اعتبروه هفوات وأخطاء لهُ في مسـيرته القومية، والنَيل من المكانة التي بوأهُ إياها الشعب الكوردي والتاريخ الحديث. هؤلاء اسقطهم التاريخ من حسابه قدر ما لقيت مجهوداتهم في هذا السبيل من احتقار واهمال ولا عجب أن كان محَط إعجاب كلُ مَن إلتقاه وجالسَهُ هناك وكلّهم مِنْ عَليّة القَوم ورجال السياسة”.