هدية حسين
لا.. لم تمت.. ولن.. أنت فقط ذهبت لتتجول في حدائق النور، وسوف تأتي إليّ وتحكي ما رأيت، وبينما أنا أستعد لانتظارك ومن أجل أن لا يطول غيابك عني سأكتب لك هذه الرسالة، مستعيدة من خلالها بعض ما عشناه وصادفناه في حياتنا المشتركة.
هل تذكر؟ المرارات التي تذوقنا طعمها في الترحال، والمطاردات التي هربنا منها، وأولئك العسس الذين تربصوا بنا قادمين من بغداد إلى عمان فكنا نزوغ منهم في الطرقات الضيقة ونضحك من شدة القلق.. ومشاريعنا التي أنجزناها، وتلك التي لم ننجزها بعد، الشقق الضيقة التي سكنّا فيها وكنا نتعثر ببعضنا حين نتنقل من زاوية الى أخرى، المطارات التي تجولنا في أروقتها حتى يحين ركوب الطائرة، كازينو فندق هيلتون في القاهرة إذ كنت أذهب معك مضطرة لأجنبك المزيد من الخسارات التي لا تكترث لها لأنك تربح الكثير من المتعة، ذكريات الأصدقاء الذين رحلوا عن الدنيا، والأصدقاء الذين ما يزالون على قيدها، والأعداء أيضا. وبغداد التي ما خرجنا من عباءتها والتي صارت أقرب من حبل الوريد بعد أن غادرناها، الأمراض التي داهمت جسدك ومازلت أشم رائحة المستشفيات في أرداني، قصصك التي نقلتْها أصابعي على الكومبيوتر، وأشياء كثيرة لا تعد ولا تحصى لأنها حصيلة سنوات طويلة من الحب والتعب.
لا لم تمت، أنا بانتظار أن تطرق الباب، فقط أطرق الباب وستنفتح لك أبواب كثيرة، وستراني أجمع القصاصات، والذكريات، وسترى الأصدقاء يحكون حكاياتك أيها الحكواتي، ويسألونني متى تعود من حدائق النور، إنهم افتقدوك أكثر مما تحتمله قلوبهم، ربما تناساك البعض لبعض الوقت، اعذرهم فهم منشغلون، ليس بلقمة العيش فقط وإنما بالخوف من المفخخات والعبوات والأحزمة الناسفة لئلا تنسف السنوات المتبقية من أعمارهم وأعمار أولادهم وأحلام زوجاتهم وحبيباتهم، نعم إنهم يتناسون ولا ينسون بأن جلساتهم المسائية ينقصها فارس القصة، الفتى المشاكس والوسيم كما يحلو لهم أن يسموك.
سأقول لك ما حدث بعد غيابك.. لقد أيقظ فيهم خبر النأي الأبدي كل حواسهم فأوقدوا لك الشموع هناك في بغداد القريبة والبعيدة، ساروا بنعش رمزي رافعين صورتك وطافوا بها الشوارع التي تحب، وآثروا أن يكون الوقت الواحدة والنصف ظهيرة آب الذي يشوي الوجوه، محبتهم لك جعلتهم يخرجون في هذا الوقت، معتقدين أنه الوقت ذاته الذي ستُشيّع فيه في هاملتون، غير مدركين فرق التوقيت، حيث ان الواحدة والنصف ظهراً في هاملتون هي الثامنة والنصف مساءاً في بغداد، أخالك ابتسمت حين عرفت بالأمر وأنت في اللازمان، وقلت بينك وبين روحك المرفرفة التي ربما تكون قد حلقت فوق رؤوسهم: آه يا أصدقائي، أعرف أنكم تحبونني لكنني لم أعرف قبل الآن حجم تلك المحبة، وهم بدورهم كانوا يقولون عنك كلاماً بطعم الشهد، والخسارة أيضاً.. خسارة الحلم الذي كانوا يتمنون فيه أن تشد الرحال وتعود إلى بغدادك لكي تحكي لهم ما صنعته الغربة بك وما فعله المنفى.. ما فعلت بك الأمراض… الأمراض؟ كم سخرت منها، وكم أشهدتني أمام من جاءك في تلك الفترات العصيبة لتقول له بأنها لن تنال منك، أنا وحدي من أعرف ماذا فعلت بك تلك الأمراض اللعينة لكنني أمامهم أثني على ما تقول، ثم أعود فيما بعد لأعاتبك: لقد بالغت كثيراً، وأحياناً أقول لك: لقد كذبت، فترد: لولا أملاح الكذب ما أصبحتُ كاتب قصة… القصة التي سبقتني إلى الدموع يوم رحيلك لتتحدى صبري، وأنا لم أبكك بالدموع… ولن… لقد نضبت أنهار دموعي قبل رحيلك، نضبت تماماً من كثرة ما فقدتُ من الأحباب بالموت أو بالفراق، نضبت على أحزان العراق الذي نحب، لذلك صار الصبر مهنتي وتسللت الأحزان إلى خلايا جسدي تعمل بصمت وهذا هو أقسى أنواع الحزن، بينما الدموع التي تتحدى صبري قد تكون عاملاً للتهدئة والسلوان، وأنا لا أريد أن أهدأ.
أصدقاؤك الحميمون يا ستار كثر، تواصلوا معي بالساعات وبكوا، وهناك آخرون وهم قلة ادعوا صداقتك بعد غيابك، لكنهم لم يحضروا تشييعك ودفنك وعزاءك الحقيقي والرمزي، اكتفوا بالكتابة التي دبجوها ونثروا في سطورها ذكريات ما كانت لهم، فقط لأنهم جالسوك ذات يوم في مقهى، وأنت لا تعوّل على صداقات المقاهي، من هذا المدعو مؤيد العلي الذي ادعى بأنه طبيب العائلة المقرب وأنني اتصلت به وأخبرته عن وفاتك ولم أضف مزيداً من المعلومات! أعرف يا حبيبي بأنك لا تعرفه أيضاً وأخالك تهمس لي: دعيه يفبرك…. يا الله، حتى بالفواجع يفبركون!
آه يا ستار.. كم فرحنا بإصدار قصصنا ورواياتنا، وكم اختلفنا، وكم.. لم نتوافق على أشياء كثيرة، لكننا لم نفلت الخيوط التي تشدنا.. ولن.. فهي أكثر وأشمل وأعمق وأكبر من جميع اللا توافقات العابرة، من مدينة إلى مدينة نشد الرحال وننسى الهفوات، وكم سافرنا، معاً أو منفردين، إلى مؤتمرات أدبية، لم تكن ثمة مشكلة عندما تسافر أنت، المشكلة حينما أسافر أنا وتبقى وحدك في البيت، ولأنني أعرف بأنك لا تحب وجبات المطاعم فقد كنتُ أعد لك الوجبات على عدد الأيام التي أسافر فيها.
هل تذكر؟ كنتُ قد سافرتُ إلى أدنبرة بدعوة لحضور معرض الكتاب، واتصلتُ بك في اليوم التالي فجاءني صوتك: اسمعي يا هدية، هذه الأغنية يكررونها أينما أدرتُ مؤشر القنوات، واستمعت: (والله واحشني موت.. خاف بعدك أموت)، وقلت لك وقتها: لا تكذب يا ستار أنت لن تموت قبلي.
وعندما عدتُ ذات مساء من مؤتمر للرواية عقد في الجزائر كان قلبك قد شاكسك عند الصباح فنقلتك إلى مستشفى الإسراء في عمان، ثم تعب وأتعبك، فنقلتك ثانية إلى المستشفى نفسه وتقاطر عليك الأصدقاء العراقيون والأردنيون، في المرة الثانية زرعوا في شرايين قلبك “بالونين”، وكنت تضحك وتردد: سأطير إذن محلقاً ثم ثالثة إلى مستشفى الإسراء، وهذه المرة بجلطة الدماغ التي فقدت فيها النطق وتعطلت حركة يدك اليمنى وقدمك، اعذرني يا ستار أعرف بأنك ستعاتبني لأنني نسيت حادث السيارة المروّع الذي هشّم أصابع يدك اليمنى وثلاثة من أضلاعك، وترك أثراً على وجهك الجميل ورقدت عشرة أيام في المستشفى الإسلامي بعمان، وبقيت شهوراً تعالج أصابعك الذهبية لكي تعود للكتابة، أما السكري فقد لعب لعبته الخبيثة معك في كندا، يرتفع إلى أقصاه من حين لآخر حتى يغمى عليك فأهرع لطلب الإسعاف بإنكليزيتي المتضعضعة، أستنجد بهم فيأتون خلال دقائق تبدو لي دهراً .