د. رشيد الخيون
ظل اسم الشيخ عبد الكريم الماشطة (ت 1959) متداولا على شفاه التواقين الى السلم والانسانية من العراقيين، واشراف العالم من الذين عرفوه زميلا لهم في مجلس السلم العالمي، يذكره كل سجين بسبب آرائه الفكرية والسياسية، وكل عدو للحروب، تلك التسمية التي حاولت السلطات المتعاقبة على العراق ربطها بالشأن الحزبي، وبداهة يتهم نصير السلم بالانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي، وهذا لم يسلم منه شيخنا الجليل. كان هدف نصرة السلم، التي مارسها الشيخ الماشطة، وقاية البشرية من حرب ذرية او نووية مرتقبة، بعد ان اخذت الدول الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية بالتعبئة الذرية، وتتنافس على امتلاك رؤوس هذا السلاح المدمر، فكم كان الشيخ عبد الكريم الماشطة واعياً وشاعراً بالخطر على البشرية جمعاء، ابيضها واسودها، ابعد افقاً من حدود بلدته الحلة، ووطنه العراق، وقوميته، وديانته، ومذهبه، عندما قبل بعضوية مجلس السلم العالمي، جنباً الى جنب مع الفنان بيكاسو، وعالمة الفيزياء ارينا كوري، ويعانقه في هذا الشعور والانتماء الشاعر محمد مهدي الجواهري. ومات الشيخ متوشحاً الوسام الذهبي، منحه اياه مجلس السلم العالمي بذكرى تأسيسه العاشرة.
كم كان وعي شيخنا متقدماً، مقاربة مع اوضاع العراق آنذاك، الاربعينيات، ان يأخذ عالم ديني عراقي على عاتقه مسؤولية النضال من اجل السلم، وسط محرمات لا عد ولا حصر لها قد تحرمه من الاتباع ومن المريدين، وربما جعلته قائماً وحيداً في محراب الصلاة، من هنا يقاس تفوق هذا الرجل، وتجاوز للمألوف والمحذور ان يقف بين شباب وشيبة، نساء وعمال وطلبة، يلقي على اسماعهم الكلمات التالية: ((السلام عليكم يا من تحبون الخير للإنسانية عامة، ولبلادكم خاصة. ارجو لكم من الله التوفيق في اعمالكم، وان يمكنكم من خدمة ابناء النوع الانساني عامة، ولابد ان تحبوا الله وتحبوا عباد الله، لأن من يحب الله يحب اثاره، والله تعالى يباهي بكم الملائكة على معاونتكم لإخوانكم واهتمامك بردع الحروب، وتخليص البشرية من ويلات القنابل الذرية والهيدروجينية)).
بهذه الكلمات لخص الشيخ الماشطة رسالة الاسلام، رابطاً اسلامه بالسلام، وبإطلاق حمامة السلام من بين يديه في قاعة المؤتمر اعاد ذاكرة البشرية الى طريق سفينة نوح، والبشارة بيابسة خضراء خالية من الوحش النووي. تحتاج مثل هذه الممارسة الى فكر متنور، وشجاعة يتحمل صاحبها اعباء ما يعنيه إطلاق حمامة، ورفع شعار انساني، والدعاء لحفظ الجنس البشري، قبل التفكير بمحدودية الانتساب لهذا الدين، او ذلك المذهب، او العرق القومي أجد بين عمامة عبد الكريم الماشطة والعمائم التي تصدر فتاوى الموت، وتتقدم للتحريض على الحروب، هو الفارق بين الغرابين السود والحمائم البيض.
مؤلف كتاب «الشيخ عبد الكريم الماشطة..» احمد الناجي مثقف حلي، بلغ الخمسين من العمر وهو يعيش ذكريات ليس فيها ما يفرح غير صدى مشاكسة القسوة، وجد في بلدته الحلة ما يفخر ويسر به، وما يستحق الكتابة والتوثيق. والمدينة بنواحيها سليلة حضارة بابل، استلهم على ارضها حمورابي شريعته، وظلت في ذاكرة الاجيال دار سحر وفن، فاشتهرت بالجنائن المعلقة، من دون ان يراها أحد، واشتهرت ببرج بابل وبلبلة الالسن، وفي عصرها الحلي اشتهرت بثقافتها وادبها وشعرائها.
مات الشيخ الماشطة وعمر كاتب سيرته، احمد الناجي، أربع سنوات لا غيرها، لم يحضر مجالسه، ولم يسمع خطبه، هذا ما فكرت به عندما طلب مني قراءة الكتاب وتسجيل خاطرة بما يشبه المقدمة لكتابه، فاتاني الجواب ان ما نقب الشيخ وصلته عن والده، وعن محيطه. أجد الوفاء طافحا على عمل احمد الناجي، وواضح من نصوص الكتاب وهوامشه ان المؤلف قام ببحث معلوماتي ميداني، معلومة من قريب للشيخ، واخرى من زميل له في مجلس السلم، ولم يترك شاردة وواردة استطاع الوصول اليها.
اقول ان ما قام به احمد الناجي كان عملا تأسيسياً حول شخصية قد يتحرج الكثيرون من الكتابة عنها، فالشيخ لطبيعة تجاوزه على المألوف والسائد لم تحتضن ذكراه مؤسسة دينية، ولا سلطة، في حين غاب محبوه في السجون والمعتقلات، وتاهوا في المنافي وديار الهجرة. ولم يسمح إلا للأكاذيب تأخذ طريقها الى الصحافة والتأليف. كنت أحد التواقين للكشف عن اسرار تلك الشخصية، التي بهرتني لكثرة ما تناقلته الشفاه من مأثره وجرأته، فكان بين نارين، نار اترابه من علماء الدين ونار السلطة، فكيف اخترق تلك المحاذر ونادى بالإنسانية، ولم يتحرج من تهمة الشيوعية، ومن مصاحبة الشيوعيين ما داموا من أنصار السلام.
بطبيعة حال النفوس ينسى للشيخ ان يدا له في بناء مسجد وتعمير آخر، ويد اخرى تعين السلام، كونه الجامع بين البشر، ومن اول مهام المسجد. وهنا لم يترك الشيخ قرآنه، فمن آياته: «لا إكراه في الدين»، ومن آياته: «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم». فهل تعترض نصرة السلم للإكراه، او ليست هي منال التعارف بين شعوب الارض؟ كذلك للشيخ في «نهج البلاغة» كتاب امامه علي بن ابي طالب مرجعية كبرى في تراحم وتلاحم البشر ضد القسوة والجور والحروب. قال: الناس «صنفان: إما اخر لك في الدين او نظير لك في الخلق (الانسانية)» (نهج البلاغة، من كتاب الى مالك بن الاشتر، لما ولاه على مصر). وان كان للعلم والفقه اجداد واحفاد فالشيخ عبد الكريم الماشطة في نصرة السلم، والعدالة الانسانية هو حفيد امين لشيخه الحلي الاعلى رضي الدين علي بن طاووس (664 هـ) عندما وقف وسط المدرسة المستنصرية ببغداد مفتياً بالقول: «تفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر».
عموما يعد الشيخ الماشطة ظاهرة تنويرية، لا تقل عن ظاهرة ثلاثي التنوير: عبده، والكواكبي، والطهطاوي. ولم تكون آراؤه وممارسته بأقل جرأة من الشيخ الازهري علي عبد الرازق في كتابه «اصول الحكم في الاسلام» (1925). وهو لم يتجاوز بتضامنه الانساني، ودعوته للحرية والقانون احد اعلام المرجعية النجفية، الشيخ محمد حسين النائيني في «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» (النجف 1909)، وقد يأخذنا العجب العجاب اذا قلبنا النظر في احوال المنطقة، وما كانت عليه في مطلع القرن العشرين، وان تصدر فيها مثل تلك الرسالة، التي لم يبق صاحبها اميناً لها، فقد تراجع عنها تحت ضغط التدهور الفكري، العجب من إباحة التأثر بما لدى الشعوب بغض النظر عن الدين والملة في واقع كانت تسوده العشائرية، ولم يسمع اهلوه بمفردة ديمقراطية، او دستور، بل ان اوروبا نفسها كانت تحبو نحوهما، ومازالت تمنع النساء من ممارسة حق الانتخاب اسوة بالرجال.