مؤيد عبد الستار
يعود الفضل لعالم الاثار بريدوود و زوجته لندا في تحديد المكان الذي تجري فيه البحوث لاكتشاف النقلة الحضارية التي تمت بين عصرين، هما عصر الصيد وعصر الانتقال الى الزراعة ، والتي اكتشفاها في الشرق الاوسط .
اثبت بريدوود في دراساته العلمية واكتشافاته ان الانتقال من طور الصيد الى الزراعة حدث في جنوب تركيا – كوردستان – خلال العصور القديمة، قبل حوالي 8000 – 12000 ( ثمانية الاف عام – الى اثنتي عشر الف عام ) خلت.
ان اولى اكتشافات العصر الحجري القديم الأول في كوردستان شمال العراق بدأت عام 1928 من قبل دوروثي جارود (Garrod Dorothy A.E) التي أتمت حفرياتها التمهيدية الأولى في كهف (زرزي) قرب منابع نهر الزاب الأسفل . في الجبال المقابلة لسورداش يوجد هذا الكهف الصغير (زرزي) ولا يبعد كثيراً عن كهفي قزقبان ، و (كور و كچ ) الصناعيين .
عثر في كهف زرزي على آثار تعود لأواخر العصر الحجري القديم ومعظمها من الآلات الدقيقة التي يرتقي زمنها إلى ما قبل اثنتي عشر ألف سنة.
كانت تجربة دوروثي جارود الثانية في كهف (هزارميرد) قرب السليمانية، اذ كشفت فيه الحفريات التمهيدية عن صناعة صوان أولية ، وذلك لوجود الأسلحة المستدقة النهاية ذات الوجه الواحد والقاشطات ( المميزة لهذه الحضارة) واتضح من دراسة الآثار أن هناك اتجاهاً متزايداً نحو الاعتماد على المنتوجات النباتية ، ومع ذلك فإن أهل الكهف تعلموا فنون الزراعة وتدجين الحيوان، وكذلك وجدت في الكهفين ملتقطات تعود للعصر الحجري القديم.
وقد عثرت البعثة الأمريكية للتنقيبات في كهف (هزار ميرد) على مخلفات تعود للعصر الحجري القديم الأوسط (100000 ق.م) وهي مجموعة آثار حجرية من صنع الإنسان المسمى (نياندرتال)، عثر عليها في أسفل طبقات هذا الكهف.
تشابه صناعة الكورد من اورمية الى ايلام
إأن أول من نقب في كهف هزارميرد بشكل علمي دقيق هو عالم الاثار روبرت بريدود من جامعة شيكاغو، وكان ذلك عام 1928م، فقد عثر فيه على أدوات من الحجر تعود إلى العصر الحجري القديم.
وعثر في كهف بيستون قرب كرمانشاه/ كوردستان الجنوبية ( ايلام / ايران ) وكذلك في كهف تامتاما قرب بحيرة أورمية على أدوات مصنوعة من الصوان ، وهذه الأدوات تماثل ما اكتشفته دوروثي جارود في كهف (هزارميرد) وهذا يدل على أن الذين سكنوا هذه الكهوف كانوا من نفس النوع من البشر ….اي وجود علاقة مشتركة بين الاقوام التي انتجت تلك الاثار الحضارية .
من الجدير بالذكر وجود مواقع وكهوف ومنحوتات أثرية كثيرة في كوردستان ، مثل كهف كور و كچ ( ابن و بنت) وكهف قزقپان في ناحية سورداش في السليمانية، ومنحوتة (دربندي كاور) قرب قره داغ ، ومنحوتة حرير قرب ناحية حرير التابعة لأربيل وكذلك مواقع ومنحوتة في قرية مالطا التابعة لمحافظة دهوك ومنحوتة أنوبانيني في منطقة (سرپل زهاب / ايلام – كوردستان إلجنوبية ) وآثار خورمال ومدونات ملوك الخالديين و غيرهم .
مشروع تنقيب روبرت بريدوود في اثار قرية جرمو
من أجل الاطلاع على اثار قرية جرمو واثار موقع جيانو لابد من الاطلاع على تراث عالم الاثار الشهير روبرت بريدوود Robert John Braidwood.
ولد روبرت بريدوود في مدينة ديترويت / مشيغان عام 1907 . و شغل منصب استاذ معهد الدراسات الشرقية في شيكاغو . كان رائدا في دراسات اثار ما قبل التاريخ ، توفي عام 2003م .
قاد مشروع التنقيب عن اثار قرية جرمو ودرس الزراعة البدائية في العراق وله دراسات مشابهة في ايران وتركيا .
قدم انجازات متميزة في دراسة المجتمعات الزراعية الاولى التي اسهمت في نشوء الحضارة ، مثل الحضارة السومرية التي ازدهرت منذ 3000 عام قبل الميلاد ( ق . م ).
وهو الذي اكتشف عدة اكتشافات هامة مثل اقدم عينة من دم الانسان ، واقدم نموذج من صناعة يدوية للنحاس الطبيعي ، واقدم قطعة قماش . واجرى فحوصا اولية لمعرفة DNA الدم في قطعة اثرية قديمة .
ساهم بريدوود في تطوير علم الاثار من خلال الاستعانة بعلماء النبات والحيوان والجيولوجيا الذين درسوا معه ما عثر عليه واكتشفه من اثار قديمة، وقدموا وجهات نظر واراء مفيدة بشأنها ، وهو اول من استخدم المسح الاثاري لاستكشاف منطقة كاملة .
خلال حياته العلمية واستكشافاته عملت معه زوجته لندا – تزوجا عام 1937 – واسهمت بقسط وافر كشريك في دراساته.
عام 1930 بعث للعمل في الاثار قرب بغداد ، من قبل جيمس هنري بريستيد الذي يعد اول من وضع مصطلح الهلال الخصيب – Fertile crescent – ليصف الحضارات المتتابعة التي ازدهرت في الشرق الاوسط .
عام 1947 تعلم بريدوود من زميله في جامعة شيكاغو ويللارد ليببي Willard Libby كيفية قياس عمر المواد العضوية من خلال قياس اشعاع الراديوم الكاربوني ، وقدم بضعة نماذج من الاختبارات على الاثار القديمة ، وفيما بعد اصبح قياس اشعاع الراديوم الكاربوني اساسا في علم الاثار من خلال ما قام به بريدوود في دراسة اثار ما قبل التاريخ.
جرمو نواة الحضارة الزراعية
تقع قرية جرمو الاثرية اسفل جبال زاجروس شرقي مدينة كركوك وتسمى ايضا قلعة جرمو ، على ارتفاع 800 متر فوق سطح البحر يحيطها حزام من غابات البلوط والفستق ..
اناطت مديرية الاثار العراقية عملية التنقيب فيها الى بعثة جامعة شيكاغو التي رأسها الاثاري روبرت بريدوود فاستمر التنقيب ثلاث سنوات متقطعة هي الاعوام 1948 و 1950 و 1954 ثم توقف التنقيب الذي كان مقررا فيما بعد بسبب اندلاع ثورة الرابع عشر من تموز1958، ثم انتقل بريدوود مع زوجته الى ايران لاستكمال تنقيبهما، وفي اوائل الستينات من القرن الماضي انتقلا الى جنوب تركيا للتنقيب في مدينة جيا نو .
يذهب الاثاريون الى ان الانسان القديم أسس قرية زراعية مستقرة في جرمو منذ 7000 عام قبل الميلاد او اكثر ، تعد اقدم مدينة من العصر الحجري الحديث ، اكتشفت فيها اثار تدل على استخدام الانسان القديم للادوات الحجرية في الزراعة البدائية مثل المنجل المصنوع من حجر الصوان واحجار طحن ، كما عثر في هذه القرية على ادوات مصنوعة من العضام استخدمت كادوات قطع وتثقيب وملاعق وكذلك جرار من الفخار للخزن، اكتشفت هذه الاثار بعد التنقيب في عدة طبقات من القرية ( 12 طبقة) .
تقدر مساحة القرية بين ( 12000- 16000) متر مربع وفيها 20 بيتا مصنوعا من الطين والطين المفخور، شيدت اسسها من الحجر وعاش فيها مايقرب من 100 – 150 شخص .
ووجدت فيها اثار تدل على تدجين بعض الحيوانات مثل الماعز والخراف والكلاب . زرعوا الحنطة والشعير والبازلاء طعاما لهم ولحيواناتهم .
جيا نو Cayonu قماش ونحاس
تقع جيا نو في كوردستان الشمالية – وتلفظ تشيا نو Chiya Nooاي الجبل الجديد – على مسافة 40 كيلومترا شمال غرب مدينة آمد ( ديار بكر/ تركيا ) ، اكتشفت فيها اثار تعود الى اكثر من 7000 سبعة الاف عام قبل الميلاد ، ومن بين تلك الاثار احجار مستطيلة الشكل ، و مبان مشيدة لها ارضية من البلاط ، وجدران استخدم في بنائها حجر الكلس ( الجص ) ولها اسس ، وغرف على شكل وحدات سكنية مستطيلة ، يتراوح عدد المساكن بين 25 الى 50 بناية ، وعثر فيها على مخزن لحفظ المواد .
عثر في هذا الموقع ايضا على اقدم قطعة قماش حيكت قبل حوالي 9000عام .
قام العالم الاثاري روبرت بريدوود مع فريقه التنقيب في جيانو وعثر عام 1988 على بقية قطعة قماش صغيرة حوالي 3 نج × 1.5 نج ، وبواسطة التحليلي المكرسكوبي ادرك العلماء انها اقدم قطعة قماش حيكت في العالم .
تقول الخبيرة الالمانية جيليان ايستوود Gillian Vogelsang-Eastwood وهي من الخبراء القلائل في دراسات الاقمشة القديمة ، تعمل في المتحف الوطني في ليدن : يصعب معرفة كيفية صنع سكان مدينة جيانو القماش .
وتعتقد انهم حاكوا القماش بواسطة اطار خشبي له اربعة اضلاع ، وان الحائك شبك خيطين مزدوجين اققيا حول خيط مفرد مثبت في الاطار، وهذه الطريقة مشابهة للطريقة البدائية القديمة لصنع السلال ، التي عرفت في مناطق مختلفة .
كما تعد جيانو مهد تصنيع النحاس ، اكتشف فيها بعض الادوات النحاسية يعود تاريخها الى 7200 عام قبل الميلاد منها دبوسان واداة من النحاس معكوفة على شكل صنارة سمك ، وحلي مصنوعة من الخرز على شكل بيضوي ، مما يدل على ان سكان جيا نو كانوا على معرفة جيدة بصناعة وتعدين النحاس منذ وقت مبكر .
ومن المفيد ان نقتبس شيئا من مشاهدات الرحالة البريطاني جاكسون في رحلته من الهند الى انجلترا عام 1797 عن طريق البصرة ، عند مروره بالموصل و تركيا يقول حول تعدين النحاس وانتاجه في الموصل والمناطق الجبلية – كوردستان – :
( وقد بدا على السكان انهم اكثر اهتماما بالصناعة من اي قوم اخرين رايتهم منذ غادرت الهند ، فهناك عدة مصانع يجري تشغيلها …. ولديهم العديد من مصانع النحاس والحديد وهناك كميات كبيرة من مختلف المواد
التي تصنع من هذه المعادن يتم ارسالها عبر نهر دجلة نحو الجنوب حتى البصرة بالاضافة الى كميات هائلة من النحاس غير المشغول التي يبعث بها من المناطق الجبلية الى الجنوب .)
نستنتج من ذلك ان استخراج النحاس وانتاجه وتصنيعه استمر منذ العصور القديمة حتى العصر الحديث وان كميات كبيرة منه كانت تصدر الى بغداد وجنوب العراق ومن البصرة تصدر الى الهند التي كانت بحاجة الى النحاس والحديد في صناعتها . (1)