توفيق العطار الذاكرة العراقية الحية و شؤون كوردستانية

حاوره- د. توفيق رفيق آلتونجي

المجتمع الكركوكي وهنا اقصد كركوك بمعناه الجغرافي الواسع للأراضي الواقعة بين نهر سيروان جنوبا ونهر الزاب شمالا. حيث تكون المنطقة برمتها خارطة ثقافية تعددية اثنيا وعقائديا وقوميا. اختلطت الأديان والقوميات بلغاتها ولهجاتها وارثها الثقافي مكونة مجتمعا بمواصفات غنية وتعددية ثقافية قلما نجد مثيلها في المجتمعات الإنسانية. كل هذا الثروة الثقافية تنعكس في لغة ثقافية حية تتداولها الناس بمفردات قد لا يفهمها ابناء العراق القادمين من المدن العراقية الأخرى. تلك هي لغة لا تحتوي على مفردات تكتب بحروف الهجاء بل لغة يفهمها فقط من عاش بين ابناء هذه المنطقة البديعة من الثرى.

الأستاذ توفيق العطار غني عن التعريف على الأقل لمحبيه في مدينة كركوك وبين الأجيال من طلابه أللذين نهلوا من علمه واخلاقه العالية تربية وعلما يبجه الجميع و عبر الزمان.  التقيت به خلسة منذ سنين عبر الانترنت ومن خلال مداخلاته الحكيمة و الطيبة على كتاباتي. التقي به اليوم لتوثيق فكره الإنساني الجميل وتجاربه الإنسانية مع مكونات النسيج السكاني التعددي للعراق عامة وفي مدينة كركوك بصورة خاصة حيث يعيش الكورد، العرب، التوركمان والمسيحيين من السريان جنبا الى جنب في حوار حضاري منذ دهور.

ذاكرة استاذنا الجليل وثق مجمل الحركة الأدبية العراقية منذ تاسيس الدولة العراقية الحديثة . تلك الذاكرة المليئة بالأحداث والشخصيات التي رفدت الثقافة التعددية العراقية باسماء عديدة شاركوا في بناء صرح الثقافة العراقية المعاصرة. سألته عن هؤلاء ممن التقى بهم في سفره الطويل، كيف كانت اجواء الحوار السلمي عبر كل تلك الثقافات ولغاتها المتباينة؟

-ولدت في مدينة  كربلاء المقدسة وكما تعرفون فان  بيئة  المدينة دينية واجتماعية فريدة من ناحية المكونات التي تنطوي في مجتمع يكون فيه العربي والكوردي الفيلي والتركماني والهندي والايراني والباكستاني فكنت قريبا من الكورد الفيليين في عملهم الدؤوب من اجل لقمة العيش وكانوا متكاتفين مع بعض بود وتعاون كنت اود ان اتعلم لغتهم لكن القدر كتب لهم التهجير القسري في عام 1970 .

ثم اتجهت الى تعلم الأدب الفارسي وقرأت لعمر الخيام واشعاره الجميلة وكانت تراجم شعره تتوالى فمنهم الشاعر المصري احمد رامي والشاعر العراقي الاستاذ احمد الصافي النجفي والاديب الكبير الاستاذ جعفر الخليلي في ديوان جميل سماه نفحات من خمائل الادب الفارسي وقد اهداني نسخة منه ومن الادباء الكورد الذين تعاملت معهم الاستاذ حلمي علي شريف رئيس تحرير جريدة النور وقد كتبت فيها مقالات عديدة وكان معنا في النشر الاديب الكوردي الرائد الاستاذ عبد الله سراج والشاعر الاستاذ عباس البدري والباحث الاستاذ محمد توفيق وردي وكان الأخير يكتب في التراث الشعبي الكوردي.

اللغة الثقافية في المدينة كانت سلمية ولم يكن هناك اي صراع ثقافي في مجتمع كركوك على الأقل الى الفترة قبل تاسيس الدولة العراقية ولكن الحرب العالمية الاولى جاءت معها بافكار قومية سلبية ادت في النهاية الى انتصار الحلفاء في الحرب وانقسام المجتمع بين تلك الافكار الاشتراكية القادمة من الاتحاد السوفياتي السابق والغرب الأوربي. هذا الصراع وجد فصوله كذلك في المجتمع الكركوكي فكانت من نتائجها احداث المؤسفة عام 1959 وما جرى من تغير في تركيبة مجتمع كركوك الاثني والقومي وصولا الى تجزئة  اللواء وتصغير مساحته الى ما أصبح على ما عليه اليوم. هذا الإرث نتيجة مباشرة  لسواد الفكر القومي السلبي الذي يطوف بين الحين والاخر ويهز اسس الحوار الحضاري في المدينة والوئام الاجتماعي فيه، كيف ترون انعكاس كل تلك الحوادث على الإنتاج الأدبي والثقافي لابناء المدينة؟

-نعم الى اليوم القت تلك الأحداث اثرها وخصوصا عند التركمان في المدينة هناك حساسية من بعضهم تجاه بعض تصرفات الأقليات الاخرى.

سألته عن الكورد وهل وجد بينهم قاسما مشتركا موحدا بين افكارهم وحتى في انتاجهم الادبي خاصة هؤلاء الأدباء ممن كانوا قد تركوا كوردستان وعاشوا في مدن الجنوب العراقي والعاصمة بغداد والأماكن المقدسة؟

-أن ألخاصية التي وجدتها عند المثقفين الكورد، انهم رغم تباعدهم قسرا عن كوردستان، كانوا شغافا لأرضهم وتراثهم وموروثاتهم لقد كان الأدباء الكورد في بغداد شعلة وقاده من التميز الأدبي الخلاق.

س:لكم تجربة جميلة في لقائكم مع المكون الفيلي الكوردي وكما تعلمون بانهم يمثلون جزء مهما من مجتمع كركوك خاصة في منطقة تعليم تبه، حمزلي، تسعين، بشير  ومناطق اخرى في القرى التابعة للمدينة وصولا الى مدن خانقين ،مندلي، بدره وجصان  حدثنا عن تلك التجربة.

-كنت احاول جاهدا ان احضرجميع نشاطات الكورد الفيليين وبالأحرى المشاركة فيه لأن قريحتي تتفتح لهم يذكروني بطفولتي مع ابائهم واعمامهم واخوالهم.

سالته عن اصدقائنا من جماعة كركوك الأدبية هؤلاء ممن ودعونا الى دنيا الحق والبعض ممن لا يزالون يفترشون مدن المنافي في اوربا. كيف كانت علاقته معهم ومن التقى منهم.؟

-في منتصف السبعينات كان الشاعر المرحوم جان دمو يقضي ثلاث ساعات يوميا في غرفتي في دائرة الثقافة الجماهيرية حتى يقيض له قدوم الأديب المرحوم حمزة حمامچي لكي يغدق عليه بدراهم يشتري بها مجلة وصمونة وقدح خمر يركن بعدها ليكمل مشواره التسكعي في يوم حالم اصطحبت الأديب المرحوم الأستاذ جليل القيسي الى نادي أدباء اربيل وقدمته اليهم في جلسة نقدية بعد الغروب انتهت عند الساعة الحادية عشره مساءا والجمهور كان قد ملأ الحديقة حتى الباب الرئيسي.

كركوك متحف الشعوب والثقافات كما كان يقول صديقي المرحوم د. زهدي الداوودي، هنا تلاقي الأقوام والثقافات واللغات هلا حدثتنا استاذنا عن تلك البوتقة الثقافية التعددية وكيف اثرت افكارهم وبيئة مدينة كركوك على إنتاجك الادبي؟

-اليوم انا احضر جميع الندوات الشعرية والأدبية لكل أطياف أبناء مدينة كركوك و بثلاثة لغات والحمد لله.

في ختام لقائنا،نشكر استأذنا الجليل متمنين له الصحة والعافية والنشاط الدائم لخدمة الأدب والثقافة.

الاندلس -2024

قد يعجبك ايضا