حوار بين الشكل والمضمون              

 

د . صباح ايليا القس

 

 

تقوم النظرية النقدية لا سيما في الشعر على الشكل التناسقي بين الشكل والمضمون ومدى نجاح الشاعر في المواءمة بين هذين العنصرين الاساسيين في البناء الشعري اذ لا تكاد تخرج القصيدة على هذين الهرمين اللذين تبنى عليهما القصيدة بغض النظر عن نوعها وصياغتها ..

لا بد من الاعتراف بان صراعا ظهر في البناء الشعري لم يكن له وجود عبر تاريخ القصيدة العمودية إلا ما جاء من مقطعات وما برعت به قريحة شعراء الاندلس في الموشح والدوبيت والمواليا وغير ذلك مما لم يبتعد كثيرا عن البناء الشعري التقليدي الا الذي عرفنا عند الفتح الكبير الذي جاء به السياب واقرانه الذي جرى الاصطلاح عليه ( بالشعر الحر ) وكلمة ( الحر ) تعني الالتزام بالتفعيلة وتكرارها فقط من دون الالتزام بالعدد فضلا عن تجاوز القافية هذا الذي نعرفه بالاوزان الخليلية التي ابتدعها الخليل بن احمد الفراهيدي بعد ان استمد من الشعر العربي كله القياسات النغمية المبنية على الحركات والسكنات فكانت هذه القوالب المعروفة ..

ولم يقف الامر عند هذا الحد بل راح الشعراء يجتهدون للخلاص من الاوزان برمتها فكانت قصيدة النثر وبعدها خرج الامر عن السيطرة وتداخل الشعر مع النثر بحيث خلا احيانا من الايجاز والتكثيف بل تشتت المعنى وصار لاحقا الناقد في واد والشاعر في واد آخر .

لا يمكن ان ننكر ان بين الشكل والمضمون علاقة تبادلية بل هناك ترابط يشترك فيه الطرفان عند خلق نص شعري يوضح العلاقة التناسبية فيكون الاول متشابكا مع الثاني والثاني مترابط مع الاول للارتفاع بالمعنى عند الاشتغال على الذات الحائرة المتوترة لحظة الابداع الفني يخرج علينا العمل بشكل متناسق معبرا عن حالة التوتر التي ترجمها الشاعر شكلا ومضمونا.

فاذا انتهى الشاعر من تجربته شهدنا ولادة قصيدة عبرت عن حالة وجدانية خاصة او عامة لكنها اشتملت على اسلوب الشاعر وهذه خصوصية لا يشترك فيها اثنان فلكل شاعر او اديب اسلوبه الخاص به .

مع العلم ان اللغة واحدة والالفاظ واحدة والبيئة واحدة ولكن الهاجس الخاص وطريقة التفاعل مع الحدث تجعل كل شاعر له خصوصية حتى لو اشتركا في الزمان والمكان والحدث واللغة لكنهما لن يلتقيا ويتوحدا في الاسلوب وطريقة المعالجة ووسيلة الابداع فضلا عن الثقافة والقدرة على النسج الفني ..

كما ان لكل انسان بصمته الخاصة واقعيا بوساطة طبعة اصابعه التي يصعب تشابهها بين اثنين كما هي بصمة العين حاليا ايضا , فان اسلوب الاديب لا يمكن ان يتطابق مطلقا الا على سبيل التقليد الاعمى الذي لا يعد ابداعا بل يمارسه الهواة والمقلدون ولا يعد ذلك ابداعا لان الواقع الانساني وطبيعة الحياة تجعل من الانسان مخلوقا مختلفا عن الآخرين ليس من حيث الشكل والقوام بل من حيث الثقافة والمعاناة والهواجس والتوجهات الفكرية الذي تفرضه الاساليب الاجتماعية والحضارية وحتى طبيعة العيش بين الريف والمدينة .

تتنوع القيم والمثُل والاهداف بين الناس وعبر العصور والمواقع ولذلك لا يمكن للناقد ان يضع قوانين ثابتة عمليا عند النظر في طبيعة النص المعروض امامه فمثلا نحن لا نستطيع الان ان نحاكم نصا جاهليا بحسب المعايير الاندلسية ولا يمكن ان نوازن بين نص شعري اسلامي مع نص شعري عباسي لابي نواس مثلا ولا يمكن ايضا ان نحاكم تلك النصوص مع النصوص الشعرية المعاصرة على تعدد اشكالها وتوجهاتها ومعنى هذا ان كل نص ادبي شعري او غيره لا بد ان تكون مفردات نقده تتناسب مع طبيعة عصره من حيث الشكل والمضمون ..

لكن نستطيع ان نقرر ان الابداع موجود في كل العصور السابقة واللاحقة لا سيما اذا التزم معايير الخير والسلام والمحبة فضلا عن الاسلوب المتميز .

قد يعجبك ايضا