عراقي يبتكر الشعر (المتشعب) .. نمط جديد في شكل القصيدة العربية

سالم بخشي

لطالما تصدر الإنسان العراقي المبدع، عبر العصور، المشهد الحضاري والثقافي، من خلال ابتكار كل ما هو جديد ومؤثر في جميع الميادين العلمية، والفكرية، والفنية، وكان عنصرًا فعالًا في تطوير وتجاوز النظم والقواعد السائدة إلى ما هو أرحب وأجمل، ولعل من أبرز هذه الميادين: الأدب، البلاغة، وبالذات الشعر العربي.

فالعرب قبل اختلاطهم بالشعوب الأخرى- قبل الإسلام- كانت أعلى قيمة حضارية يمتلكونها: الشعر الفصيح، وبعض المفاهيم الأخلاقية، كإكرام الضيف، وحماية المستجير، وتحريم القتل والاعتداء في الأشهر الحرم.

كانوا يتحدثون بلغة فصيحة صحيحة بالفطرة والسليقة، ويحترمون شعراءهم، ويجزلون لهم العطاء؛ كونهم الوسيلة الإعلامية الوحيدة حينئذ في استعراض وتوثيق بطولات ومفاخر وإنجازات القبيلة ورجالها المحاربين. إلا أنهم وبعد انخراطهم في الإسلام، وفتحهم لبلدان مترامية الاطراف، واختلاطهم بشعوب هذه البلدان، والاحتكاك الحضاري، معهم ومرور السنين؛ دب اللحن والركاكة في كلامهم وشعرهم، ما استوجب منهم وقفة جادة ومراجعة كبيرة لوقف هذا الخلل؛ فكان أن تصدى العراقيون– كعادتهم- لهذه المسألة وظهرت لديهم المدارس اللغوية الشهيرة: البصرية، والكوفية، والبغدادية. التي رسمت للعرب قواعدهم اللغوية والبلاغية التي ما زالت سائدة حتى يومنا هذا. ولكل مدرسة من هذه المدارس روادها ومتبنوها على سبيل المثال: تصدر المشهد في المدرسة البصرية، الخليل بن احمد الفراهيدي البصري من أبرز الشعراء الذين تصدوا لدراسة الشعر وقواعده اللغوية الصحية، فأسس علم العروض والبحور الشعرية، ووضع أول معجم للعربية وأسماه (العين) وفيما بعد تلميذه سيبويه. ومن أبرز علماء المدرسة البغدادية، ابن كيسان ومن كتبه: (اختلاف البصريين والكوفيين). ابن جنِّي ومن كتبه: (الخصائص، سر صناعة الإعراب). الزمخشري ومن كتبه: (الكشَّاف، أساس البلاغة)، وغيرهم. أما رواد المدرسة الكوفية فهما، الكسائي ومن أبرز كتبه: (مختصر النحو، الحدود في النحو). وفيما بعد تلميذه الفرَّاء ومن أشهر كتبه: (الكتاب الكبير، لغات القرآن)، وأيضًا منهم ثعلب ومن كتبه: (المجالس).

عندما شاخ الشعر العمودي الذي ظل مهيمنًا لقرونًا طويلة، ولم يعد بمقدوره مواكبة التطور الحضاري الهائل الذي شهده العالم بالذات العالم الغربي؛ فكان أن تصدى العراقيون للأمر من جديد رغم أن العراق المعقل الوثيق لكبار شعراء العمودي، أمثال محمد مهدي الجواهري، ومعروف الرصافي، وعبد المحسن الكاظمي وغيرهم.

ظهرت نازك الملائكة بنمط شعري مستحدث وتصدرت ريادة التجديد في شكل وكتابة الشعر الحر، تبعها بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وغيرهم كشعراء مرحلة حتمية من التطور؛ فخرجوا عن الأطر والأنماط المتعارفة للشعر العمودي وشروطه الصارمة الذي يعتمد نظام الشطرين (الصدر والعجز) وعلى الوزن والقافية، ووضوح القصد والصور والخيال إلى أفق الشعر الحر الرحبة، ووضعوا نظامه وشروطه المختلفة عن الشعر العمودي؛ حين تخلوا عن نظام القافية الواحدة، وعدد الكلمات، ولم يبقوا من الشعر السابق سوى التفعيلة الشعرية المتعارفة، وبذلك أسسوا لمرحلة جديدة من الشعر، وخلقوا نمطًا جديدًا ظل ساريًا حتى يومنا هذا. علما أن الشعر العمودي، وبما يحمله من قيمة لغوية وبلاغية؛ لم يختفِ من الميدان تمامًا، وإنما ظل يواكب وله فرسانه الكبار لكن بدرجة أقل هيمنة وانتشارًا من الشعر الحر الذي تجاوز المحلية إلى محيط العربية بل عبر إلى ضفة العالمية، وذهبوا بقصائدهم بعيداً، كسعدي يوسف، وعبد الوهاب البياتي…

 

 

 

ولعلنا نشهد اليوم وعلى يد مبدع عراقي آخر، نمطًا جديدًا لكتابة الشعر العربي ربما يهيمن على المشهد الشعري في قادم السنين والأيام؛ إذا أعطي حقه في الدراسة والتعريف. بعد أن وصل الشعر الحر لمداه البعيد، وتشتت أحيانًا تحت مسميات عديدة منضوية تحت لواء ما يعرف بقصيدة النثر، وهو نمط سردي باهت، يتخلى عن كل الضوابط الشعرية، بما فيها التفعيلة التي أبقى عليها الشعر الحر، ويغوص في الغموض؛ ما جعل الكثير من المتشاعرين، يركبون الموجة، ويستسهلون الكتابة بهذه الطريقة، فراحوا يكتبون قصيدة النثر لكنها خالية من الطعم، واللون، والرائحة، باستثناء بعض النماذج القليلة التي تمكنت من إبراز ما تحمله اللغة السردية أحيانًا من شاعرية متدفقة.

يطل علينا الدكتور هادي عميرة من خلال ديوانه الشعري الجديد (الشعر المتشعب) الصادر عن دار القلم للعام 2020، وهي باكورة إصدارات اتحاد الأدباء الدولي، ليقدم لنا نفسه كمبتكر لنمط جديد من الشعر العربي، ويعرّف الشعر المتشعب: ((أسلوب شعري مستحدث يبنى على أساس قصيدة رئيسية تتفرع منها قراءات متعددة وكل قراءة من هذه القراءات تمثل قصيدة مستقلة ومجموع القراءات للقصيدة الواحدة يصبح خمس قراءات لخمس قصائد بعد أن يتم التشعب في استخدام الجمل والعبارات حسب الترتيب البنائي المبتكر في طريقه النظم والقراءة)).

عبر تبحرنا في قصائده الخمس عشرة، نكتشف أننا إزاء نمط جديد ومبتكر وغير مألوف من النظم الشعري؛ ما يجعلنا نطلق على الدكتور هادي عميرة مبتكر الشعر المتشعب بلا منازع.

ما يميز الكتابة بهذه الطريقة الحديثة، أنه غني بتشعباته التعبيرية، ودلالاته اللغوية، وبأقل عدد من الكلمات؛ لأن هذه الكلمات ذاتها مختارة بعناية من القاموس العربي الحافل، وللكثير منها معاني ودلالات مزدوجة، استعان بها الشاعر بذكاء، ليعبر من خلالها عن كم هال من المشاعر، والأحاسيس، والقيم التي تحملها هذه القصائد، وفق إيقاع شعري منتظم.

يعتمد الشعر المتشعب كما سنوضح في نموج تطبيقي آتٍ على تفاعيل متنوعة من البحور في القصيدة الواحدة، لأنها تتفرع في قراءات لاحقة لنفس القصيدة إلى عدة قصائد أخرى؛ ما يجعل التفعيلة فيها نسبية ومتغيرة، بتغيير القراءات الخمس لها التي ابتكرها الشاعر.

هذا الأسلوب الشعري الحديث مقيد بنظام ونسق الشعر العمودي، ويتماشى مع نظام الشعر الحر في أحيانًا أخرى؛ وذلك لأنه يشترك معهما بالصفات والسمات نفسها من حيث العروض، ونظام الشطر والعجز والقافية مع اختلاف في عدد التفعيلات في الشطر الواحد، ويكون عددها وفق ما يقتضي المقام. ويمكن قراءتها من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين، ومن الأعلى إلى الأسفل، ومن الأسفل إلى الأعلى؛ لكي تلبي الغرض المطلوب من القصيدة المتشعبة، وطريقة نظمها وبناها، لتحقيق القراءات الخمس المختلفة.

مثال تطبيقي لكيفية قراءة الشعر المتشعب

القراءة رقم (1)

نبدأ من القصيدة الرئيسة التي تمثل الحلقة الكبيرة وتضم في جوفها جميع القراءات الخمس، كما في القصيدة التالية:

نِدَاء

وَطَنْنا   الجَرِيحْ

كَثِيرُ الْمِحَنْ   صَوْتٌ يَصِيّحْ

جَائعْ قَلِيلُ الْمُؤَنْ   مُحْتَاجٌ فِعْلٍ صَرِيحْ

خَزَائنٌ كَثِيرَةٌ عَلَيْهَا مُؤْتَمَنٌ   تَحْتَ تُرَابِ كَنْزٌ صَحِيح

نَادَى الْمُنَادي مَا مِنْ قَرَارٍ مُعْلَنْ   كَشْفُ السِّرِ الْخَفِي في ضَرِيحٍ

دَاخِلْ وَخَارِجُ الصَّحنِ مُنَنْ   قَصْدِ الزَّائِرْ مَكَانٍ مُرِيحٍ

نَعْمَلْ بِهَا كَسننٍ   بَعَّدَهَا تَهُبُّ ريحٌ

حَالٌ وَجِنْ   عِلَّةْ طَرِيحٌ

شَجن   قَرِيحٌ

لاحظ أننا بدأنا بعنوان وأحد كأي قصيدة أخرى، ويتبع عنوان القصيدة، ببيت يتكون من كلمتين، وكل كلمة من هاتين الكلمتين، تأخذ معنىً منفصلًا، لتصبح قراءة لقصيدة أخرى متداخلة مع القصيدة الرئيسة، مثل قصيدة (نِدَاء) وبيتها الأول هو (وَطَنْنا الجَرِيحْ)، حيث إن (نِدَاء) هو عنوان القصيدة الرئيسة التي تمثل القراءة الأولى.

القراءة رقم (2)

(وَطَنْنا) هو عنوان للقراءة الثانية، وهذه القراءة تمثل القصيدة الثانية المشتقة من القصيدة الرئيسة الأولى. مشتقة بمعنى أننا نأخذ ذات الكلمات التي أسهمت بتشكل القصيدة الرئيسة، وهذا الجزء المستقطع يمثل صدر القصيدة، وتكون قراءتها بهذه الطريقة:

وَطَنْنا

كَثِيرُ الْمِحَنْ

جَائعْ قَلِيلُ الْمُؤَنْ

خَزَائنٌ كَثِيرَةٌ عَلَيْهَا مُؤْتَمَنٌ

نَادَى الْمُنَادي مَا مِنْ قَرَارٍ مُعْلَنْ

دَاخِلْ وَخَارِجُ الصَّحنِ مُنَنْ

نَعْمَلْ بِهَا كَسننٍ

حَالٌ وَجِنْ

شَجن

القراءة رقم (3)

(الجَريحْ) هو عنوان للقراءة الثالثة، وهذه القراءة تمثل جزء العجز من القصيدة وتقرأ هكذا:

الجَرِيحْ

صَوْتٌ يَصِيّحْ

مُحْتَاجٌ فِعْلٍ صَرِيحْ

تَحْتَ تُرَابِ كَنْزٌ صَحِيح

كَشْفُ السِّرِ الْخَفِي في ضَرِيحٍ

قَصْدِ الزَّائِرْ مَكَانٍ مُرِيحٍ

بَعَّدَهَا تَهُبُّ ريحٌ

عِلَّةْ طَرِيحٌ

قَرِيحٌ

القراءة رقم (4)

ننتقل إلى القصيدة الرابعة (شَجن)، وهنا تكمن المتعة في التلاعب بمكان الكلمات، حيث إننا سنقوم بقراءة كلمات القصيدة الثانية (وَطَنْنا) بالمقلوب، أي من الأسفل إلى الأعلى، وتكون القراءة هكذا:

شَجن

حَالٌ وَجِنْ

نَعْمَلْ بِهَا كَسننٍ

دَاخِلْ وَخَارِجُ الصَّحنِ مُنَنْ

نَادَى الْمُنَادي مَا مِنْ قَرَارٍ مُعْلَنْ

خَزَائنٌ كَثِيرَةٌ عَلَيْهَا مُؤْتَمَنٌ

جَائعْ قَلِيلُ الْمُؤَنْ

كَثِيرُ الْمِحَنْ

وَطَنْنا

القراءة رقم (5)

في القصيدة الخامسة (قَريِح) التي تمثل القراءة الخامسة والأخيرة للقصيدة الأصلية المتشعب (نِدَاء)، وهي قراءة مقلوبة للقصيدة رقم ثلاثة (الجَرِيحْ) وتكون هكذا:

قَرِيحٌ

عِلَّةْ طَرِيحٌ

بَعَّدَهَا تَهُبُّ ريحٌ

قَصْدِ الزَّائِرْ مَكَانٍ مُرِيحٍ

كَشْفُ السِّرِ الْخَفِي في ضَرِيحٍ

تَحْتَ تُرَابِ كَنْزٌ صَحِيح

مُحْتَاجٌ فِعْلٍ صَرِيحْ

صَوْتٌ يَصِيّحْ

الجَرِيحْ

وبذلك ننتهي من قراءة القصيدة الرئيسة، وقراءاتها المتشعبة، فتكون لدينا خمس قراءات، لخمس قصاد متتالية متكونة من الكلمات نفسها، وهنا يكمن الجمال ومتعة الكتابة، والتعامل مع الكلمات في أكثر من معنى، وأكثر من مكان، وهو ما يميز الشعر المتشعب عن بقية أنماط وأساليب الشعر العربي التي ظهرت قبله.

 

قد يعجبك ايضا