الإعلام القديم

 

كرم نعمة

جربت شركة صناعة التسجيلات الأميركية المسؤولة عن ملصقات الألبومات وتعداد التسجيلات الذهبية والبلاتينية في عام 2016 أن تعيد شريط الكاسيت، وبالفعل صنعت كمية منه وبعد عقدين من انقراض الكاسيت نفسه وأجهزة استخدامه لحساب الأقراص المدمجة

لم تكن في كل الأحوال المبادرة تجارية وناجحة، لأن لا أحد بإمكانه إعادة العالم إلى الوراء لمجرد الحنين إلى تسجيلات الماضي، لكن مبادرة الشركة الأميركية بقيت خبرا مثيرا في وسائل الإعلام الغربية نشر باهتمام وكأنه فعلا ستعود أجهزة الكاسيت القديمة إلى المنازل، بينما لا أحد في الولايات المتحدة أو أوروبا شاهد في المتاجر من يسوق لأشرطة الكاسيت .

مثل هذا الأمر عاد له الكاتب ديفيد ساكس في مقال ملفت بصحيفة نيويورك تايمز مستثمرا تسمية “الأنالوج” التكنولوجيا التماثلية التي يمكن أن تضم وسائل الإعلام التقليدية القديمة، وجعلها معادلا للرقمية، ليعيد الأمل بالإعلام التقليدي وأنه لم يفقد بعد مكانته، بل إنه مقبل على استعادتها يوما بعد آخر .

ومع ذلك يرى ساكس في مقاله “التكنولوجيا الرقمية وتأثيراتها المدمرة” لا يعني ذلك أننا نواجه ضرورة الاختيار بين الرقمي والأنالوج

لم يذكر ديفيد ساكس مستقبل الصحف الورقية التي تعيش في السوق المريضة واختار الكتاب المطبوع مثالا على فكرته التي تشمل في مجملها كل وسائل الإعلام التقليدية التي باتت أكثر صعوبة وكلفة من نظيرتها الرقمية، إلا أنها تبقى تمثل تجربة ثرية لا يضاهيها أي شيء تقدمه الشاشة .

لم يكن ديفيد ساكس أول من يدفع باتجاه العودة إلى الأصول بوصفها مصدرا قويا للمعرفة الكيسة، من دون التخلي عن التجربة الحية التي يوفرها الإنترنت للبشرية، فسبق أن وضع الكاتب البريطاني سايمون جنكينز “تصورا” لمرحلة ما بعد الرقمية من دون أن يلغي قيم القراءة التقليدية وطقوس زيارة المتاحف ودور العرض والمكتبات .

مقاومة التغيير موضوع مستمر، وهذا ما يعزوه مارتن بوشنر أستاذ الأدب في جامعة هارفارد إلى اعتراض مبكر على تكنولوجيا الكتابة من سقراط، الذي جادل بأنها “ستخلق النسيان في نفوس المتعلمين، لأنهم لن يستخدموا ذكرياتهم”

وأشار في مقال تحليلي في صحيفة الغارديان إلى أن العصر ما بعد الرقمي سيكون بمثابة معادل تاريخي لأزمنة الراديو والتلفزيون والفاكس والصحيفة الورقية وبعدها الإلكترونية، من دون أن يقلل من مستقبل قيم القراءة الشائعة والاستماع والمشاهدة الحية للحفلات الموسيقية والغنائية .

هناك أيضا الكاتب روبرت ليفين المتخصص بالثقافة الرقمية عندما كال التهم للإنترنت وحمّله مسؤولية تدمير صناعة الثقافة عبر القرصنة الرقمية وتفاقم جشع الشركات الإلكترونية وسحق النتاج الموسيقي والسينمائي والصحافي .

وقال في مقال بصحيفة الغارديان بعنوان “كيف دمر الإنترنت سوق الأفلام والموسيقى والصحافة” إن كبرى الشركات الأميركية لإنتاج المحتوى الموسيقي والسينمائي فقدت مواردها لحساب القرصنة المتصاعدة على الإنترنت .

لكن مع ذلك، فحتى المتطرفون باتجاه تحميل الإنترنت مسؤولية تدمير وسائل الإعلام التقليدية، يتراجعون خطوة إلى الوراء عندما يصبح الكلام عن التجربة الحية التي يمثلها هذا الإنجاز للبشرية. لأنهم لا يتنازلون عن الكتابة وصناعتها بوصفها حسا يمتلك صوتا وروحا تضاف لها الرائحة والملمس عندما تكون كائنا ماديا محسوسا كالصحيفة والكتاب وليس رقميا افتراضيا أشبه بالابتسامات المفتعلة على فيسبوك .

قد يعجبك ايضا