الجزء الأول
متابعة التآخي
جذور التواجد الكوردي
ارتبط وجود الكورد في فلسطين بشكل لافت للنظر في القرون الوسطى، وخصوصا بأحداث الصراع الإسلامي – الصليبي على بلاد الشام ومصر أيام الدولة النورية، التي أسسها نور الدين زنكي، وبالدولة الصلاحية الأيوبية التي أسسها البطل الكوردي الخالد صلاح الدين الأيوبي، وبعد هذه الفترة ظل الكورد يتوافدون إلى مدن فلسطين وقراها، في العهود اللاحقة منذ أيام الدولة المملوكية والعثمانية والانتداب البريطاني حتى بدايات العصر الحديث، وكانوا يأتون إليها على شكل مجاهدين في الجيوش الإسلامية، التي تشكلت منذ أيام نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، وقد أعطى الأخير الكثير من الأمراء الكورد إقطاعات خاصة بهم في مدن فلسطين الرئيسية، من أجل الدفاع عنها أمام الغزوات الصليبية القادمة، والعمل على صبغ البلاد بالطابع الإسلامي، بعدما كانت فلسطين مملكة صليبية احتلت لأكثر من مائة عام، وأفرغت من سكانها الأصليين.
فكانت سياسة صلاح الدين تقوم على إسكان الجنود الكورد في المدن الفلسطينية، وإعطائهم إقطاعات خاصة بهم. ومع الأيام شكل الكورد الموجودون في هذه المدن أحياء خاصة بهم، في كل من القدس والخليل وعكا ونابلس وغزة، واشتهرت باسمهم ” محلات الأكراد.
فعلى سبيل الذكر أسكن صلاح الدين (الكورد) في مدينة الخليل، ومع الأيام أخذوا ينافسون السكان على زعامة المدينة، فصار بها حلفان، الحلف الأيوبي الكوردي، والحلف العربي التميمي، ودخل الحلفان في صدامات وصراعات عشائرية انتهت بهم إلى (مذبحة السلطان قايتباي) المملوكي سنة 878هـ/ 1473م، وكانت مذبحة فاحشة، نتج عنها تفرق الحلفين إلى جهات مختلفة في فلسطين، فتفرق الكورد إلى نابلس واللد والقدس وخان يونس، وانتهت الأمور بتدخل السلطان المملوكي آنذاك، حتى ضعفت شوكت الأيوبيين في الخليل في القرن التاسع عشر قبيل حملة إبراهيم باشا المصري على بلاد الشام 1830م.
أما مدينة نابلس فقد منحها السلطان صلاح الدين الأيوبي لابن أخته حسام الدين لاجين بعد أن فتحها الأخير وأخرج الصليبيين منها، وأصبحت إقطاعاً له، وبعد وفاته انتقلت إلى الأمراء الكورد أمثال سيف الدين علي بن أحمد الهكاري. كما شكل كورد نابلس أكثرية الجيش المملوكي، وكان من بينهم رجال إدارة وحكم مرموقون.
واستمر مجيء العلماء وعلماء الدين الكورد إلى مدن فلسطين في العصر المملوكي، فقد نزل الشيخ إبراهيم بن الهدمة الكوردي قرية (سعير)، الواقعة ما بين القدس والخليل، وكان صاحب كرامات، وأقام بها حتى توفى سنة 730هـ/1329م. كما نزل العالم بدر الدين الهكاري الصلتي وأبناؤه مدينة القدس قادمين إليها من مدينة السلط في شرقي الأردن، وكوّنوا (حارة السلطية) نسبة إلى بلدة السلط التي قدموا منها، وتولى أحفاده إمامة المسجد الأقصى لعقود طويلة، وعرفوا بعائلة (الإمام)، ولا يزالون يقيمون في القدس إلى اليوم.
وكان عدد الكورد كبيراً في مدينة القدس، إذ شكلوا بها حارة خاصة بهم عرفت باسم “حارة الكورد”، وكانت تقع غربي حارة المغاربة، وتعرف اليوم باسم حارة الشرف.
وشهدت القدس استقبال عدد لا بأس به من علماء الكورد أيضاً، مثل الشيخ أحمد محمد الكوردي البسطامي- شيخ البسطامية بها- الذي عمل في التدريس بالمدرسة الصلاحية الصوفية، وبقي فيها حتى توفي سنة 881هـ/ 1400م. والشيخ يوسف الكوردي الذي درس بالمدرسة الصلاحية، والشيخ جبريل الكوردي الذي كان من أهل الفضل، ومن أصحاب شيخ الإسلام الكمالي، والشيخ نجم الدين داود الكوردي الذي درس بالمدرسة الصلاحية، والشيخ درباس الكوردي الهكاري المدرس بالمدرسة الجاولية، وكان صالحاً معتقداً.
كما توجد اليوم في ساحة الحرم القدسي الشريف (القبة القيمرية)، نسبة إلى جماعة من المجاهدين الكورد القادمين من(قلعة قيمر) الواقعة في الجبال بين الموصل وخلاط، ونسب إليها جماعة من الأمراء الكورد، ويقال لصاحبها أبو الفوارس، ومن المدفونين في (القبة القيمرية) الشهيد الأمير حسام الدين أبو الحسن بن أبي الفوارس القيمري المتوفى سنة 648هـ/1250م، والأمير ضياء الدين موسى بن أبي الفارس المتوفى سنة 648هـ/1250م، والأمير حسام الدن خضر القيمري المتوفى سنة 665هـ/1262م، والأمير ناصر الدين أبو الحسن القيمري المتوفى سنة 665هـ/1266م. ولا يزال أحفاد هؤلاء الأمراء يعيشون اليوم في القدس، وفي بلدة (دورا) بالخليل، ويعرفون ( بآل القيمري). وقد هاجر قسم منهم بعد حرب حزيران 1967 إلى مدينتي عمان والزرقاء بالأردن.
كما قدم الكورد إلى القدس وجوارها خلال العهد العثماني، بعد أداء فريضة الحج، وأقاموا في زاوية خاصة بهم وهي حي الأزبكية وعمل بعضهم في الجيش وقوات الأمن، إذ كان أحمد محمد الكوردي مستخدماً في قوات الأمن، ومحمد فيروز الكوردي مستخدماً في قوات الأمن، وحسن قواس البرزاني الكوردي مستخدما في الجيش.
كما أشارت سجلات محكمة يافا الشرعية إلى توطن عدد من الكورد في قضاء يافا في العهد العثماني (1864-1914م). حيث عملوا في الجيش وقوات الأمن داخل قضاء يافا وخارجه، وبعضهم آثر البقاء في المنطقة بعد انتهاء خدماتهم العسكرية، كما تظهرُ حجج حصر التركات في محكمة يافا الشرعية. فكان حسن آغا الكوردي القاطن في (سكنة ارشيد) بيافا أحد أفراد الجيش العثماني في قضاء يافا. وكان الحاج بكير آغا الكوردي جاويش في العساكر العثمانية المرابطة في القضاء. وكان الحاج أحمد آغا بن محمد القواس الكوردي القاطن في مدينة الرملة يوزباشي جاندرمة في لواء بني غازي.
وفي العهد العثماني شكل الجنود الكورد حارة خاصة بهم في مدينة غزة – مقر سنجق غزة العثماني- خلال القرن السادس عشر الميلادي.
وعندما زار الرحالة التركي ” أوليا شلبي” مدينة صفد عام 1671 م، ذكر بأن معظم سكانها جند من الكورد، ولهم حارة خاصة باسمهم ” حارة الكورد، وبها 200 دار.
ويلاحظ بأن الكورد استمروا بالقدوم إلى مدن وقرى فلسطين خلال العهد العثماني من حي الكورد بدمشق، ومن الجزيرة، وديار بكر، طلباً للعمل والتجارة، أو العمل كموظفين وإداريين، أو جنوداً في الجيش العثماني.