الجواهري وبدايات لجوء العراقيين الى اوربا

د. مؤيد عبد الستار

لم يكن العراقي بشكل عام يطلب الهجرة الى خارج وطنه، بل على العكس كان العراق منذ فجر التاريخ بلد خيرات يقصده الناس للعيش فيه والتنعم بخيراته ، حتى انه تعرض لغزو شعوب و قبائل بدوية جائعة من جميع اطرافه ومن البلدان التي تحيط به ، ومقولة البحث عن الماء والكلأ كانت لازمة لقبائل الصحراء التي غزت العراق قبل وبعد ظهور الاسلام. أما غزو المغول في العصر العباسي فكان أكبر كارثة تحل بالعراق و شعبه.
وفي العهد الملكي أُجبر بعض السياسيين العراقيين على مغادرة العراق واسقاط الجنسية عنهم فكان مايروى عن كامل قزانجي – سياسي عراقي – أنه حمل معه علبة صغيرة من التراب العراقي لكي يشم عطرها كلما هاج به الحنين الى الوطن.
وكذلك ما حدث ليهود العراق الذين اجبروا على تسقيط جنسيتهم العراقية في خمسينات القرن الماضي . ومن أفظع عمليات التهجير ما اقترفته العصابة الصدامية من تهجير للكرد الفيليين في ثمانينات القرن الماضي حيث القت بهم على الحدود العراقية الايرانية بعد سلب ممتلكاتهم وحجز ابنائهم وتغـيـيب الالاف من الشباب، وغير ذلك من ممارسات قسرية بحق المواطنين الذين كانوا يجبرون على ترك وطنهم بشتى السبل القاهرة.حتى أن العصابة الصدامية أسقطت جنسية الجواهري مع مجموعة من المعارضين السياسيين في تسعينات القرن الماضي فظل في دمشق حتى وفاته ودفن في مقبرة السيد زينب في دمشق .ومثله الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي الذي توفي ودفن في دمشق ايضا.
بعد سقوط النظام الملكي ونجاح ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 أصبح الجواهري شاعر الثورة وعلما من أعلامها ، ولكن سرعان ما دب الخلاف بينه وبين زعيم الثورة عبد الكريم قاسم فاضطر الجواهري الى مغادرة العراق عام 1961 والاستقرار في براغ عاصمة جيكسلوفاكيا آنذاك .
في هذه الرسالة المرفقة التي يطلب فيها اللجوء السياسي الى براغ نتعرف على الاسباب والاحداث التي يذكرها بالتفصيل والتي اضطرته الى الخروج من وطنه والعيش في بلد اوربي لا يعرف لغته ولم يتعلمها وهناك نظم قصائده المعروفة التي يحن فيها الى وطنه ونشرها في ديوانه بريد الغربة.من أشهر قصائده في الحنين الى الوطن قصيدته يادجلة الخير التي يقول فيها : حييت سفحك عن بعد فحييني / يادجلة الخير يا أم البساتين.
واذ كانت موجات الهجرة القسرية هي التي أجبرت العراقيين على ترك وطنهم فان مثال الجواهري يدل على اختياره هو الهجرة من الوطن خشية التعرض الى الاعتقال والسجن وما لايحمد عقباه.
نلاحظ في طلبه يقول إنه يطلب اللجوء السياسي الى البلد الصديق العظيم جيكوسلوفاكيا.وهنا نتساءل الصديق العظيم لمن؟ للجواهري أم للعراق ؟ فاذا كان صديقا للعراق فهو صديق لحكومة العراق وبمنح الجواهري اللجوء السياسي يعني أنه ليس صديقا للعراق وحكومته.
لذلك نذهب الى أن الجواهري ربما قصد بذلك الصديق العظيم للاحزاب اليسارية العربية من خلال احتضان براغ لمنظمات الاحزاب الشيوعية العربية ومجلات اليسار التي كانت تصدر من هناك مثل مجلة قضايا السلم والاشتراكية ، وبالتأكيد كان حصول الجواهري على اللجوء في براغ بتسهيلات من الحزب الشيوعي العراقي .
من بين الاسباب التي ذكرها الجواهري في طلبه للجوء السياسي هو تعرضه للمضايقات واطلاق سراحه من الاعتقال بكفالة والاهم هو خشيته من إحالته للمحاكم العسكرية .
والامر الاخر الذي يذكره هو الخوف على عائلته من التعرض الى المضايقات .
كما أدى الحجز على مطابع جريدته الرأي العام سببا في تضييق سبل العيش عليه.
وكان للاعتداء عليه برميه بحجر أصاب جبهته وكاد يذهب بعينه كما يذكر سببا قويا يدعوه للخوف على حياته من اعتداءات رجال الامن .
لاشك لدينا ان الجواهري اضطر الى طلب اللجوء السياسي في جيكوسلوفاكيا بسبب التغيير الذي صاحب سياسة قائد الثورة عبد الكريم قاسم وتخليه عن رفاق الامس الذين ناصروه وساندوه حتى آخر لحظة في حياته رغم تخليه عن المسار التقدمي واعتماده بدلا من ذلك على عناصر يمينية انتهازية لم تكن تضمر الخير للعراق استطاعت عام 1963 الانقضاض على الحكم واعدام الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه في أبشع انقلاب ألحق بالعراق أفدح الخسائر بشريا وعمرانيا وسياسيا .

نص : طلب الجواهري اللجوء في جيكوسلفاكيا

الرسالة مؤرخة في 1 /6/ 1961 براغ

أهديكم وافر احتراماتي،متقدما اليكم بكتابي هذا طالبا اللجوء السياسي الى البلد الصديق العظيم جيكوسلوفاكيا ومُـبديا استعدادي لاحترام الانظمة والقوانين المرعية المطلوبة.
إن الاسباب الموجبة لطلبي هذا يمكن تلخيصها لكم بما يلي :
أولاّ : تمشياّ مني على النهج الذي سلكته طيلة حياتي في مجالات السياسة والصحافة والشعر والأدب من أن أكون الى جانب الجماهير في كل ما يمـسُّ مصالحهم فقد تعرضت منذ سنتين وفي خلال الحكم الراهن في العراق لكثير من المضايقات على يد الحاكمين مما يطول شرحه .
ثانيا: إن هذه المضايقات اشتدت في الاونة الاخيرة وقبل عدة شهور بحيث أصبحت ليس فقط مما تجعل استمرار الحياة عليَّ وعلى عائلتي المؤلفة الان من زوجتي وبنتين عسيرة بل انها أضحت تكوّن خطرا على حياتي الشخصية. فقد بلغت قبل شهرين تقريبا خبر اعتقالي وسجني – وأنا اناهز الستين من عمري – باسباب كاذبة مفتعله – وبعد حدوث ضجة كبيرة من الناس في العراق وفي خارجه اضطر الحاكمون لاطلاق سراحي ولكن بكفالة أولا ، ثم باقامة دعاوي سياسية خطيرة عليَّ بموجب القوانين العرفية العسكرية يتحتم علي بموجبها أن أمثل أمام المجالس العسكرية القاسية وأن أتلقى أحكامها الصارمة بحجة انني أخالف سياسة الحاكمين واسعى لاثارة الشعب العراقي .
ثالثا . لقد لجأ الحاكمون في مضايقتي ومضايقة عائلتي الى أساليب غريبة غير مألوفة لدى العالم المتمدن ، مثل تحريض بعض رجال الأمن السريين، في منظمة – الامن العام العراقي، على الاعتداء عليّ كما حدث قبل يوم اعتقالي بيوم واحد حيث رميت بسهم حجري أصاب عيني اليسرى وكاد يتلفها لولا عناية الاطباء وقد شخص الناس الرجل الذي رماني وسموه باسمه وهو موظف في – منظمة الامن العام – كما ذكرت. بل انني قلق الان خوفا على عائلتي من الاساليب الارهابية الفاشية التي قد يتعرضون لها في بغداد.
رابعا : لقد لجأ الحاكمون الى وضع الحجز المالي على مطابع جريدتي ، الرأي العام ، ما أدى الى توقفها وتعدوا ذلك الى حد وضع الحجز المالي حتى على اثاث البيت الذي نسكنه بالايجار.
خامسا : لقد لجأوا الى الايعاز وبصورة مكشوفة الى كل الصحف القذرة ،المأجورة لكل حاكم في العراق الى التهجم علي وعلى عائلتي تهجما قاسيا ومستمرا دون أن أملك حق الدفاع عن نفسي.
إن كل هذه الاضطهادات معروفة ومشهورة ليس للشعب العراقي وحده بل ولكل الشعوب العربية بل ولكثير من الشعوب غير العربية التي تعرفني.
بحكم من هذه الظروف القاسية ومن هذه الاضطهادات المستمرة واعتزازا مني بحماية الشعب الجيكوسلوفاكي العظيم وحكومته المنبثقة من صميم ارادته ، وبانتظار الظروف المساعدة التي يمكنني أن أعود فيها الى وطني العراق فأنني أكون سعيدا وممتنا إذا كتب لي أن أحوز شرف الحق باللجوء السياسي عندكم مع عائلتي وهي زوجتي وبنتاي ، خيال في السابعة عشرة من عمرها وظلال في الرابعة عشرة . وتقبلوا خالص تقديري.
محمد مهدي الجواهري
الشاعر العراقي ، ورئيس اتحاد الادباء العراقيين
وصاحب جريدة الرأي العام وعضو المجلس الاعلى لانصار السلام ببغداد

قد يعجبك ايضا