د. توفيق رفيق آلتونچي
الكثير من المدن أنشئت لأول مرة، كملتقى للتجارة، وكسوق لبيع وشراء وتبادل البضائع. قد تكون مدينة مكة المكرمة وسوقها الشهير عكاظ، إضافة إلى كونها ملتقى تجاريا، حاضرة دينية قبل الإسلام، وبعد نزول الرسالة المحمدية الخالدة. كما كانت مكة، ملتقى يربط بين الخط التجاري القادم على طول درب الحرير من الصين إلى دمشق والحبشة في أفريقيا. كما كان رافدا للتبادل التجاري والثقافي وكذا هو الحال للعديد من المدن في كافة أرجاء المعمورة.
تعتبر الأسواق الشعبية وأسواق المزادات من الأماكن القريبة، إلى قلب المهاجر حتى لو كانت تلك الأسواق، في قلب أوربا في فينا ولندن وباريس واستوكهلم و بوخارست. فإذا كان السوق الشعبي سوقا في الهواء الطلق، يكون البائع أيضا على الأرجح من الشرق. خذ مثلا (ناش مارك)، ذلك السوق الشعبي في وسط العاصمة النمساوية، من المستحيل أن تحس بالغربة فيه. فآنت هنا تسمع جميع لغات الكون، وتلتقي بشعوب الدنيا بأعراقها، بالإضافة إلى خضرواتها، وفواكهها في مهرجان ثقافي تعددي مشوق، ينتشر على طول أكثر من كيلو متر. ومن مدينة (ليالي الأنس) حسب تعبير خالدة الذكر (أسمهان) إلى مدينة متعبة، كهلة، كريمة رغم كل شيء في عطائها ، وحبها الأزلي لأبنائها. كركوك ، مدينة العذابات والقهر، ومنافي العباقرة.
سوق الهرج يقع في أحد الشوارع الرئيسة لمدينة كركوك، الا وهو شارع الجمهورية، شارع الملك غازي سابقا بالقرب من تقاطع هذا الشارع، مع شارع أطلس المنتهي بجسر (الشهداء). تأتي هذه التسمية، أحياء لذكرى الشهداء من التركمان فيما تسمى ب مجزرة كركوك عام في 14 تموز 1959. الجسر يربط طرفي المدينة الصوب الكبير حيث قلعة كركوك والأحياء المجاورة لها والصوب الاخر الصغير المستحدث حيث نهر (خاصة صو) الجاف. وقد لا يتميز السوق بفن معماري متميز فبناءه القديم، يتكون من مجموعة من المحلات المتباينة المساحة، تطل على باحة واسعة. كان للسوق بابان أحدهم قد جاء ذكره في بداية المقال والباب الخلفي الذي بني البناء الجديد في الطرف المقابل وقرب مقبرة الشهداء، سمي (ينگي مزاد خانة) أي المزاد الحديث، حيث كان مخصصا للموبيليات. وكان اسم (علي مغدور) معروفا في المدينة. خاصة لذوي الدخل المحدود حين يقررون شراء بعض القطع من الأثاث المنزلي نظرا لأن وضعهم المالي المحدود لا تسمح لهم بشراء الأثاث من محلات راقية ،مثل محل (شكر نجار) العصامي الذي تحول إلى أحد اشهر مبدعي الأثاث في العراق.
وباحة السوق كان مكان يزدحم أيام الجمعة بالناس. حيث كان الدلال، يصيح بصوت عال مفتتحا المزاد ،لمن يريد المزايدة على سلع مستعملة .أما الساحة الخارجية والواقعة بين الجدار الخلفي للمزاد ،والجدار الجنوبي لمقبرة الشهداء ،فقد كانت تشهد تجمعات كبيرة من الباعة حيث الدراجات الهوائية والأثاث وأجهزة الراديو المستعملة اشتراها الباعة المتجولين باعها من قد ألم به العوز. كما هو الحال اليوم في معظم المدن العراقية، حيث المزادات انتشرت في كل مكان، يعرض فيها كل شئ تقريبا .والجدير بالذكر هنا بان البائع لم يكن من ذوي أصحاب المحلات داخل السوق.
كانت البضائع المعروضة في المحلات غالبا مستعملة. ولكن نوعية البضائع تغير مع مرور الزمن حيث بدأ الكثير من المحلات ببيع الأجهزة الجديدة والساعات وقد يكون اسم (كريم الساعاتي) الأكثر حضورا في الأذهان ،عند ذكر الساعات. حيث كان يصلح الساعات القديمة ويبيعها .وربما اخذ أبنائه اليوم على عاتقهم هذه الصنعة الجميلة وطوروها. أما الأجهزة الكهربائية فكانت من اختصاص الحاج (سعيد ملا احمد وأخيه الملا رفيق واخيهم الصغير غريب لاحقا) رحمة الله عليهم ورضوانه. حيث بدا التجارة في محل صغير عند بوابة السوق، وطورا لاحقا إلى محل كبير يطل على الشارع العام أي شارع الجمهورية.
هنا، في هذه المدينة كان حارس سوق الهرج، يقوم بغلق البوابة الكبيرة للسوق مساء كل يوم، بإشراف ( بهاء الدين بك) مالك السوق، الذي كان يمتاز بهيئته البهية وبقامته الشامخة،وبالأناقة المتميزة من ملابسه العصرية التي كانت توحي للناظر ، إن الخياط قد عانى كثيرا في خياطة بدلته التي هي غالبا ما كان من القماش الإنكليزي الأصيل . …
هذه الشخصية الوقورة في الستينيات غابت فيما بعد عن مسرح سوق الهرج . تاركا مكانه لـ (يلماز بك) .
هذا كان حال الخمسينيات، وبدايات الستينيات في مكان يعتبر، القلب النابض لمدينة الذهب الأسود. تحت سقف هذا المكان المليء بالضجيج والصراخ والصراع والفوضى المنظم ،كنت تلتقي بشخصيات تترك بصماتها في أذهان المرء عبر ذكريات تحاكي قصص ألف ليلة وليلة وشخصياتها.
قد تكون كلمة( هرج ) كلمة فارسية تعني الرخيص أو (التنزيلات ) ، رغم وجود الكلمة وبمعنى اخر في الذكر الحكيم كما يحلو لنا نحن العراقيين تسميتها .ومهما كان معنى الكلمة، ففي الواقع ،أن رواد السوق كانوا دائمي البحث عن الرخيص والجديد وقد حمل الكثيرون من مهاجري الشرق، هذه العادة إلى المنافي فتراهم في معظم مزادات أوربا يجولون ،ويبحثون عن ذلك المفقود. وربما يحنون إلى الماضي. وسلواهم تلك المزادات أو الأسواق الشعبية ،حيث البائع والشاري من أصول مهاجرة غالبا.سوق الهرج أو (المزاد خانه) ، كان المكان الوحيد في المدينة الذي بإمكانك مشاهدة العنصر النسائي في إدارة المحال التجارية. وفي ذلك الزمان حيث التقاليد الرجالية كانت تسود المجتمع هنا، كنت تلتقي بدرويش وزوجته القادمين من ريف كوردستان ، ذلك الرجل الجليل ذو الجدائل الطويلة والملابس الكوردية التي كان اللون الأسود الغالب فيها لكلا الزوجين . هذا الرجل الذي كان يبدو كأحد كهنة الهند، اكثر منه بتاجر كان يأخذك لوهلة إلى سفر في التاريخ ،وخبايا الدهور، وتلتقي مع سحنته شخصيات من الف ليلة وليلة. وقد وجدت صورته مع زوجته تزين أحد جدران بيت النقيب المطل على دجلة في منطقة السنك ببغداد، حيث متحف الأزياء والمأثورات العراقية في بداية السبعينيات. الملابس المستعملة والتي نسميها نحن العراقيين( اللنگه) والتي كانت تباع في بغداد في سوق الموازي لمحلات الشورجة المتفرع من شارع الرشيد. كان في كركوك من نصيب زوجين آخرين وهما (خه جه) وزوجها رفيق حيث كانا يديران محلا يجد فيه العسكري والمدني ما يحتاجه من ملابس وقد كان سوق الملابس العسكرية المستعملة رائجا في السنوات التي شهدت الاقتتال بين فصائل الثوار الكورد ( الپيشمرگه ) وقوات الجيش الحكومية. إضافة إلى أصحاب المحال التجارية ،كنت تلتقي بحمالين معروفين على صعيد السوق. اذكر منهم (پير داوود) هذا الرجل النحيف كان بإمكانه نقل ثلاجة كهربائية على ظهره مهرولا، خلف المشتري مقابل عدد من الدراهم. وقد طور عمله لاحقا بعربة ذي دواليب سيارات وكان يسحبها بنفسه . كما كان يزين المكان العديد من باعة المواد الغذائية المتنقلة كـ (اللبلبي والشلغم) والحلويات. وإذا أسعفك الحظ فانك ستحظى بشراء لفة من سندويتشات (قادر جگرچي ـ أبو الفشافيش).
كان هناك كذلك العديد من المحال التي تبيع مواد (الخردة) المعدنية من مسامير وقطع غيار متنوع. وقد بدا لاحقا كما وكأن هذا السوق، قد نسى وظيفة التجارية السابقة في تجهيز الناس بالبضائع الرخيصة متحولا اكثر واكثر إلى مواكبة التطورات التقنية في عالم التكنولوجيا، وبذلك قد اختفى ذلك الهرج والمرج، ولكن ربما بقى ذلك الصراع العقيم بين البائع والمشتري على سعر البضاعة. الذي غالبا ما يحلف ويقسم البائع بحق عمامته التي هي في الكثير من الأحيان، دليلا على أن صاحبه قد حج إلى البيت الحرام ( بأنة لا يربح إلا خمسين فلسا ) في حين أنه وبخباثة تاجر البندقية يربح رغم أغلظ إيمانه.
سلاما لكل من جال بين زوايا هذا السوق، ممن ذكرتهم من الذين رحلوا إلى البارئ عز وجل رحمة الله عليهم ، وسلاما لمن حملوا الراية، ولا يزالون مستمرين في الكد والسعي وراء رزقهم ، وعذرا لمن خانني ذاكرتي ولم اذكرهم ………….. تبقى كركوك ذلك العبق الحضاري، تفوح بعبير السلام، ومسك السكينة على أبنائها رغم عوادي الزمن. فسلاما لك أيتها المدينة ـ الأم، التي يقول عنك شاعر الأغنية التراثية التركمانية:
ليتني كنت حجرا تحت أقطاف القلعة
كي أكون للمقبل والمغادر، رفيقا
استدراك:
هذه الاغنية التراثية غنتها المطربة سيلدا في السبعينات وأبدعت المطربة والممثلة الكوردية زارا في غنائها بعد ذلك بثلاثين عام وكلا المطربتين من تركيا.
الأندلس 2003