الروائي سالم بخشي في (إنانا والنباش) يقدم الحقائق التاريخية بإطار أسطوري

الناقد: حمدي العطار

البداية

حاول بعض الروائيون ان يجدوا رابطا خفيا بينما حدث في تاريخ العراق القديم، وما يحدث حاليا، وعلى الرغم من قناعة اي مثقف، بإن الحقائق التاريخية بعيدة عن (الأسطورة) التي تختفي وراء المعجزات والخرافات،واقل ما يقال عنها، بإن الاسطورة هي (ضد التاريخ) أو لا تسهم في (كتابة التاريخ المنطقي) لكن البعض يعدها مصدرا للخيال و(القراءة الأولى لتاريخ البشرية) الروائي، سالم بخشي في روايته ((إنانا والنباش)) أستخدم اسطورة الهة العشق (الجنس) وربة الحياة والخصب (إنانا) في الليل، وهي ايضا الهة القتال والهلاك والدمار وربة الحرب (السومرية) في النهار! جعلها في بعض فصول الرواية البالغة 13 فصل، تقدم البعد الاسطوري للقهر، والظلم، والصراع بين (الخير) والجمال والحب (إنانا) في صراعها مع رمز الشر (الشيطان) واعوانه من رجال السياسة الفاسدين، والدين الدجالين، ورجال الامن، ومنفذي عمليات التعذيب في دوائر الامن، وقوى الارهابين، وفرسان الفساد السياسي:

((كان المدعوون أرذل ما خلق الله من شياطين الإنس: سياسيين فاسدين،ومسؤولي منظمات سياسية عالمية خائنين، رجال دين دجالين يشرعنون الاجرام لمجاميع مسلحة مجنونة، إعلاميين مأجورين يزورون الحقائق، ومجاميع التجار الطفيلين: يترأس هذه المجاميع: تجار السلاح صانعو الحروب، تجار المخدرات وسماسرة العهر والرذيلة الوضيعون، ومجاميع المومسات الجميلات من كل جنس ولون))

هكذا يكون اصطفاف قوى الشر مقابل كل الخير والجمال ورمزها الهة (إنانا) العراقية.

 

 

هاجس التفاصيل

تمتاز الرواية بكثرة ودقة التفاصيل التي يمكن ان تجعل المتلقي قريبا من الشخصيات ومشاعرهم والاحداث التاريخية وتأثيرها على تلك الشخصيات! وفي الرواية التي تحتوي على 13 فصل وهي في 245 صفحة والصادرة سنة 2018 من دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع ليس موضوعاتها تختص بالأسطورة فقط، بل هناك البناء للسرد التاريخي المعاصر، وما يمر به العراق من حروب، بدءا من الحرب العراقية الايرانية حتى الوقت الحاضر، مع وقفة مؤثرة في جزئية تسفير العراقيين من أصل ايراني (التبعية) في خطوة غير انسانية استطاع السارد ان يجسدها ببراعة:

((صاروا يسفرون الكورد الشيعة، بحجة تبعيتهم لإيران في شهر نيسان من العام 1980…. ما زلت أتذكر، اللحظات المأسوية التي سفر فيها السيد فتاح وابنته كلبهار، كان البعثيون ورجال الأمن، يحيطون بمنزله، وهم مدججون بالسلاح، وقد أمهلوه عشر دقائق فقط، ليتجهز للترحيل، من دون اصطحاب أموال أو وثائق. فقط يخرجون بالملابس)) ص49 لم تتحمل الام ربة البيت الصدمة فماتت!!

هندسة السرد

لم يجعل الروائي البطل فردا بل توزعت البطولة على كل مستويات السرد بالتناوب، فهناك (رغد) وتحتل مساحة واسعة من السرد 4 فصول، وهي شخصية محورية تمتد جذورها من خلال الاب (عبدول) وكيل الغذائية،وكان وكيل امن في النظام السابق، ويتعاون مع الارهابين حاليا، عندما يموت ويحفر قبر له، لا يستطيع الدفان ان يضعه بالقبر؛ لأن الحفرة تمتلئ بالصلال السود القبيحة، والعقارب الصفر المخيفة، وحشرات أخرى فظيعة: ((أي جرم عظيم ارتكبه أبوك، ليصير قبره، صندوقا من صناديق جهنم؟)) ص7.

 

*أستطاع الروائي من خلال بناء الشخصيات والاحداث بشكل افقي ان يخلق أكثر من محور وبؤرة روائية لم تفلت منها الحبكة والربط العضوي بين التاريخ والاسطورة فكان قمةالتشويق للمتلقي

 

 


كذلك هناك (الام) وتحتل (3) فصول، وهي الام العراقية المنكوبة التي فقدت (الزوج) كاظم واولادها الثلاثة
((كريم وحليم وسليم)) وحتى الحفيد (محمد) وهو في العاشرة من العمر، ومنذ ذلك الحين، وهي تبيت في المقبرة بالسرداب الذي يحتوي عائلتها، وإذا كان في كل مكان بالعالم، لا يوجد مبرر لموت الابناء قبل الإباء، ففي العراق استثناء:

((قال المسكين حينها (تقصد زوجها) بأن السرداب مدفنا للعائلة، وأن أولادنا سيدفنوننا فيه بعد عمر طويل… ولم يدر بخلده، بأنني سأشهد موتهم جميعا، وأتلظى كل ساعة من أجل اللحاق بهم من دون جدوى)) ص27.

 

 


اما (
عايد الفراري) يحتل فصلين، كراو مساعد، فهو يسرد لنا حكايته مع العسكرية والحرب، وكيف فقد اخيه شاكر، وصديقيه كريم وثامر الذي أعدم امامه؛ فأصيب بصدمة نفسية، وقرر الفرار نهائيا من الجيش.. وازداد مرضه النفسي حتى الجنون، ويروي كذلك أحداث تخص أم كريم وأصدقائه كريم وثامر.

وضع الروائي، شخصية اسطورية يطلق عليها، نباش القبور الذي ((يستخرج جثث النساء، ويعتدي عليهم جنسيا، ثم يهشم رأسهن بالحجر، وهي شخصية كانت تعمل مع الامن في النظام السابق، وظيفته الاعتداء الجنسي على النساء المعتقلات حتى لوكن قد فارقن الحياة!وتكشفه (الام) التي تعرضت هي وخطيبة ابنها الشهيد وهي متوفية،للاغتصاب وهو (عبدول ابو حردوب)!!

أستطاع الروائي من خلال بناء الشخصيات والاحداث بشكل افقي ان يخلق أكثر من محور وبؤرة روائية لم تفلت منها الحبكة والربط العضوي بين التاريخ والاسطورة فكان قمة التشويق للمتلقي.

تداعيات واحلام

رواية (إنانا والنباش) قادرة ان تولد لدى المتلقي (الاحلام) وكذلك (التداعيات) وانا أقرأ هذه الرواية، ظلت تراودني الاحلام، واتخيل شخصيات اسطورية خرافية مثل (الهة إنانا) التي يضع لها السارد وصف مثير:

((هل يعقل أن تحمل امرأة واحدة فقط، كل هذا الجمال الخرافي الذي يعادل ما تحمله أكثر من ثلاث مليارات امرأة …وعلى الرغم من مرور أكثر من عشرة آلاف عام على تكوينها، لكنها لم تغادر جسدها الثلاثيني الرشيق.. كان جسدها الوردي البض، يشع نورا ملائكيا ويحمل سحرا أسطوريا)) ص57.

 

*رواية (إنانا والنباش) قادرة ان تولد لدى المتلقي (الاحلام) وكذلك (التداعيات) وانا أقرأ هذه الرواية، ظلت تراودني الاحلام،واتخيل شخصيات اسطورية خرافية مثل (الهة إنانا)

 

 


ولم تختفي إنانا من الاحلام الا بعد ان حل محلها الواقع وتداعياته في الرواية
!

مقبرة دار السلام

منذ بداية الرواية (الاستهلال) يصطدم المتلقي ان يكون المشهد الاول للرواية في (مقبرة دار السلام) بالنجف، لذلك آثرت ان أكمل قراءة الرواية وانا في (النجف) لقضاء واجب اجتماعي، ومن يزور النجف لا بد ان يزور قبور الموتى، وعند زيارتي لمقبرة وادي السلام، تجسدت كل شخصيات الرواية امامي (قدوري كبسلة، ورزاق) كانا حاضرين في ذلك المكان وهما يحفران قبر (عبدول أبو حردوب) وكذلك الرجل الطيب (ابو صالح) وحتى (رغد) وسائق الستوته (حميد ستوتة) كلهم ليس على ورق الرواية بل هي شخصيات واقعية من (لحم ودم) وصف (عايد الفراري)للمقبرة سيطر على مخيلتي:

((مجاميع بشرية هائلة، متشحة بالسواد، ويقتنون خلال سيرهم، كميات كبيرة من الشموع، والبخور، وقناني الماء البلاستيكية الكبيرة ذات سعة العشرة لترات وهناك من يحمل الزهور وأوراق الشجر الاصطناعية، وأغراض أخرى لا تخطر على بال.. حتى لعب الأطفال))ص 40.

ووصف (رغد) لضريح الامام علي بعد ما جرى لها في المقبرة من حوادث((لمحنا الأضواء الملونة المشعشة التي تحيط بالقبة الذهبية الفخمة، لمرقد الإمام علي، والتي كانت تنتصب كمنارة متلألئة بالنور في لجة محيط هائج، ونحن كبحارة تائهين لمحوا فجأة هذه المنارة بعد أن يئسوا من النجاة)) ص20.

 

 

*كتب الروائي ملحمة فيها متاهات متنوعة بين الموت والحياة والاستبداد والحروب العبثية، استعان بالأسطورة ولكن واقعنا أصبح يشبه الاساطير ونحن بحاجة الى تلك المعجزات لتعود لنا البسمة المفقودة

 

 


اما مشهد هروب
عايد، حينما تم القاء القبض عليه، واتهامه بإنه (نباش القبور) كأنني أشاهده يركض ويقفز بين القبور كما وصفه السارد:

((تظاهرت بالانصياع السريع لهم، وشبكت أصابعي فوق رأسي، متوجها نحو حوض الشاحنة.. لمحت فيها بعض المشتبه بهم.. ما أن وصلت حافة الشاحنة، وأوهمتهم، بأني سأصعد إليها حتى قفزت كالشبح إلى الجانب المعاكس، ثم ركضت خطوتين قبل أن أقفز عاليا ثانية خلف صف من القبور المتلاصقة، ثم أطلقت لساقي الريح، وهم ينادون خلفي: قف يا نباش القبور..)) ص56

الخاتمة

لا يترك الروائي اي تفصيل له تأثير في حياة العراقيين، ولم يتوقف عنده، لذلك وظف (الحشد الشعبي) من خلال شخصية (محمود) والذي يعشق (رغد) بينما هي تميل الى (جمال المخنث) ويستطيع هذا ان يغويها،ويمارس معها الجنس، وعندما تحاول ان تنتحر مع طفلتها من جسر الاحرار، يأتيها المنقذ (محمود) الذي يقبل بالزواج منها، وتسجيل الطفلة باسمه، وهي اشارة الى الدور الذي يلعبه الحشد الشعبي، ليس فقط في ساحة القتال، بل في الحياة الاجتماعية:

((كنت بحاجة ماسة للوقت: كي استوعب الأمر، ناهيك عن انشغالي بالمعارك الشرسة التي خضناها ضد شياطين داعش في الأنبار… سأعلن للجميع. بأنني أنا والدها الحقيقي.. امنحيني فرصة أرجوك، ولا تتهربي مني مجددا، إن لم يكن من أجلي، فمن أجل جميلتنا الصغيرة…!)) ص222.

كتب الروائي ملحمة فيها متاهات متنوعة بين الموت والحياة والاستبداد والحروب العبثية، استعان بالأسطورة ولكن واقعنا أصبح يشبه الاساطير ونحن بحاجة الى تلك المعجزات لتعود لنا البسمة المفقودة.

قد يعجبك ايضا