اشراقات كوردية … الاجازة الأخيرة

جاسم محمد شامار

 

مذكرات جندي مندلاوي:

كنت اعيش الشتات.. قلبي في حنين لمندلي وخيالي شارد دائما لصور وذكريات مدينتي وعيني في لهفة دائما للمس حلم اتجول في شوارعها وازقتها.

رغم إني كنت اشترك مع الجميع في وحدتي العسكرية ايام الحرب بهاجس النجاة من الموت او الغربة والحنين الى الاهل او فقدان الحرية المدنية بالالتزام بالأوامر العسكرية في اوقات الطعام والنوم والاجازة الا انه كان لدي شعور اخر اختلف به عن البقية يزيد من تعاستي.

كل الجنود في وحدتي العسكرية عند النزول للإجازة الدورية كانوا يذهبون الى مدنهم الا انا وابناء مدينتي في الوحدات الأخرى. رحلنا عنها مرغمين لأنها كانت ساحة حرب وتم قصفها بالفعل من الجانب الإيراني في ذلك الوقت خلال الحرب. هكذا كان قدرنا ابناء مدينة حدودية صارت مدينتنا ساحة حرب كنت أحسد الجميع حين يعودون من الاجازة ويتحدثون عن الأمان في مدنهم.

وما كان يزيد من تعاستي وغربتي في تلك الوحدة العسكرية انه لم يكن معي أحد من ابناء مدينتي، فالغربة ليست فقط البعد عن الوطن بل في ان تستيقظ كل يوم ولا تجد من يشاركك في كل تفاصيل ذكرياتك افراحها او احزانها.

الجندي الوحيد الذي كان من مدينتي في وحدتي العسكرية كان في أحد السرايا في مكان اخر كنت التقيه مرة واحدة في الشهر كلما حانت موعد اجازته الدورية اتعمد احتفظ بها ليأتي الي ويستلمها او حين العودة من الاجازة اراه قبل ان يذهب الى مكان سريته.

واجبي كان العمل في قلم الوحدة، نحضر نماذج الاجازة للجنود ليلا ويستلموها عند الفجر. في تلك الليلة كنت مع موعد اجازة ابن مدينتي وكالعادة احتفظت بالنموذج لأراه في الصباح مع دقائق من حديثي المفضل عن مندلي كان دمث الخلق وحديثه لا يخلو من دعابة او بذكر حوادث طريفة حدثت في مدينتا نستذكرها معا نضحك وننسى الجيش والحرب للحظات. رغم ان المكان الذي كان فيه أخطر من مكاني الا انه لا ينسى كل مرة يودعني ان يوصيني بعبارته (دير بالك على نفسك) وعبارته الاخيرة كانت دائما (ما محتاج شي) بلهجة اخوية المس فيها حنية كنت افتقدها في جو العسكرية القاسي.

وبانتظار موعد لقائي معه في الصباح ذهبت الى المكان المخصص لنا للمبيت.

في تلك الليلة رغم اجواء الشتاء، البرد وصوت زخات المطر والحنين الى صوت المطر على الاسطح الطينية ورائحة تراب مندلي المبلل بالمطر الا ان صوت المدفعية كان يفسد علي تلك المتعة، لم يتوقف القصف مع اصوات حركة غير اعتيادية، اصوات الاليات او الجنود.

نهضت على صوت أحد الحراس بيده قصاصة ورق من الآمر طلب مني ان اذهب الى المخابر لأكتب برقية فورية بالموقف واعطاءه للمخابر ليرسلها. كانت هذه هي السياقات العسكرية في المعارك.

وضعت قصاصة الورق في جيبي اخذت سجل المواقف مسرعا الى مكان المخابر، كان ينتظرني، يبدوا انهم أخبروه بالأمر.

اخرجت له الورقة وعلى ضوء المصباح الخافت فتحت السجل لأدون المعلومات بنظرة استغراب حمل المخابر الورقة سألني ما هذا؟!

يبدو أنى اخطأت فأعطيته ورقة اجازة ابن مدينتي. اعتذرت اخرجت الورقة الثانية ورجعت للسجل.

استغربت من المخابر لم يفعل شيء ظل ساكنا رفعت رأسي نظرت اليه. لم افهم شيء وجدته مصدوما ينظر للورقتين وينظر الي بنظرة شفقة لم افهم شيء، ما الامر؟!

اومأ لي بعينيه الى الورقتين، نموذج الاجازة وورقة الموقف بخسائر القصف، الجنود الضحايا والجرحى، وخسائر الاليات.

لم اصدق ما قرأت، كأن صاعقة ضربت رأسي فقدت توازني، كأن مدينتي مندلي امام عيني، نخيلها، وبيوتها، وانهارها، وكل ابناءها رجالا، ونساء، يخرجون في موكب نحيب لاستقبال جثمانه، لا اصدق، وقد طالعت اسمه مع الشهداء تلك الأمسية!!

مع لحظات الشرود انتبهت ليد المخابر تربت على كتفي، وبنبرة حزن ومواساة وبتلعثم، ونحيب أخبرني: –

(يبدو أنك لم تخطأ فصاحبك المندلاوي ذاهب في اجازة لكنها الاجازة الاخيرة هذه المرة)!!

 

قد يعجبك ايضا