الأبعاد الإنسانية في كتابات الروائي ناهي العامري

 

الجزء الثاني

الأديب: سالم بخشي المندلاوي

رواية (بين برزخين) 2014 عن دار النشر والثقافة الكردية/ وزارة الثقافة العراقية.

البعد الإنساني في رواية بين برزخين، جسده العامري في معاناة شعب كامل من ظلم السلطات الجائرة، التي تعاقبت على حكمه، رمز له بضمير المتكلم (أنا) لبطلة الرواية (أمل)، لتروي لنا بسرد يميل إلى الرمزية، وبلغة عذبة جميلة، عبر فصول متناوبة، ما جرى لشعب وادي الرافدين، من مؤامرات ودسائس، بدءًا من كذبة الخطيئة الأولى، حيث عمد الكاتب أن يفتتح الفصل الأول لروايته، بصرخة البطلة أمل، عبر سرد استرجاعي (فلاش باك):

((الخطيئة الأولى كذبه..

الخطيئة الثانية تهمة باطلة..

ولا علم لي لأي الخطيئتين تعود خطيئتي.. أهي بجريرة الأولى لأنها كذبة أزلية، أم صنيعة الثانية والتي ببطلانها نسجت آلتهم؟!

لمن أبوح همي وأشكو، بت لا أدرك ما يودع في الصدور من أسرار، وما تخفي وراءها الأقنعة من وجوه، أهي ذئبية، ثعلبية، بشرية؟)) ص5.

عبر حياة الريف التي عاشتها أمل في صباها، وانتقالها إلى المدينة خلال دراستها الجامعية، نستشف مدى النقاء والفطرة التي جبل عليها العراقيون، ومدى الظلم والعبث بمقدراتهم من قبل الساسة، وأن أمل هي الفجر الجديد الذي انتظروه، لينتشلهم من برزخ العهد الدكتاتوري، بيد أنهم وقعوا في هاوية برزخ أشد ظلمة:

((هكذا دفعتني سجيتي لتصديق أن فجرًا جديدًا قد حل بعد هزيمتهم)) ص21.

بطلة الرواية (أمل) وهي ضمير الشعب العراقي كما أسلفنا، بعد خيبتها الأخيرة، استنهضت التاريخ منذ فجر السلالات، عبر ميلودراما إيحائية (حوار مع الذات)، وجعلته يتحرك بموازاة الحدث الراهن، لتجري محاكمة علنية، تعلن فيها إدانتها للانقلابيين، الذين يعودون كل مرة لتخريب البلاد والعبث بأمنها وخيراتها. كل تلك المحاكمة هي صرخة بوجه الإنسانية لإدانة المستشار جلال الدين زاهد، وهو رمز لأقطاب النظام الجديد، الذي دسّ لها السم في العسل، لينال منها ويغتصبها ، ويتركها تتخبط في ظلام برزخ أشد قتامة من الذي سبقه.

 

 

رواية (نذير الدرويش) 2019 عن دار أمل الجديدة – ط1– دمشق– سوريا.

في هذه الرواية لا يحيد الكاتب عن مطالبته بالدفاع عن حقوق شعبه المظلوم، ويرى في التظاهرات الجماهيرية التي عمت البلاد عتبةً جديدة، وأحداثًا مصيرية، وخير وسيلة لاكتساب الحقوق المسلوبة، لكنها لم تحقق أهدافها على غرار تظاهرات الربيع العربي، كما حدث في تونس ومصر والسودان وغيرها، بسبب تمزق وحدة الشعب بأنياب الإرهاب والطائفية، والإخفاق المستمر في خلق إعلام موحد لقيادة الجماهير، مما سهل للسلطات المتعاقبة على قمع التظاهرات وتفريقها.

يصور لنا العامري في رواية نذير الدرويش، إن وراء كل متظاهر قصة، تتناسب مع موقفه وشخصيته، ومقدار جهده الفاعل في تأجيج الحراك الجماهيري؛ لذا فإن بطل الرواية الصحفي (طالب نادم مظلوم) جسد خلال صخب الأحداث، الأبعاد الإنسانية التي توخاها الكاتب في روايته، وقوفه مع المتظاهرين في كشف زيف السلطة وفسادها، عبر سعيه الحثيث في التحقيق بفضيحة هبة الأراضي السكنية، لنشرها في الصحيفة التي يعمل بها، فيقع في مصيدة شبكة أمنية تعمل على إخراج الصحفيين الذين ينقلون الأخبار بحيادية تامة من ساحات التظاهر، وعبر طرق ترهيبية ملتوية. يصاب بلوثة عقلية؛ يرقد على أثرها في مشفى ابن رشد للأمراض النفسية، ومن خلال الجلسات العلاجية الست التي عقدها دكتور سامح مع طالب، نلمس خطين إنسانيين يسيران بصورة متوازية، خلال جلسات العلاج، أولهما الطريقة الإنسانية للطبيب المعالج في استنطاق طالب ليبوح له ما بدواخله، ويسرد له حكايته من أول مشواره في الحياة، لغاية وقوعه في المصيدة، حيث لم يعتمد سامح على طرائق تخصصه النفسي فقط، بل مازجها بحالته الإنسانية التي شب عليها، للتأثير على طالب وحل عقدة لسانه، فأثناء اعترافات طالب لحالة العوز التي عاشها في كنف عائلة معدمة وفقيرة، تأثر بها الطبيب، وراح يشاطره الحالة، كأنه صديق مقرب وليس معالجًا نفسانيًا:

((لقد غبت وسرحت معك، في تلك الحقبة التي تجولت فيها من حياتك، نسيت نفسي كطبيب، وانغمست في المشاهد التي صورتها، راحت ذاكرتي تجتر حقبة العدم التي مرت بي أيام دراستي، إنها حقبة لا يفلت من الغرق فيها كل من عانى العدم والحرمان، وما عليك سوى أن لا تتخيل أنك الأوحد في هذا العناء)) ص32.

ثانيهما الإنسانية المتأصلة في سلوك طالب، التي برزت من خلال سرده للأحداث التي مر بها، وقد توضحت جليًا حين تعاطف مع المومس (ندى) أثناء لقائه بها، وعاملها كإنسانة:

((هل أنا دميمة لدرجة جعلتك تنفر مني بهذه الطريقة؟

– أنت أجمل من رأيت، لكني لا أريد أن أدنسك كالآخرين.

– وماذا تبغي عندي وأنا لا أملك غير بضاعتي المعروضة عليك؟

– أعطيك ثمنها مضاعفا مقابل أن تبوحي لي بأقدارك التي دفعتك لاختيار هذه المهنة)) ص108.

 

 

ومن خلال هذه المحاورة الإنسانية التي لا تتعدى بضع دقائق، تأثرت ندى بشخصية طالب، وفكرت أن تهرب من نفقها المظلم، وتختار طريق الكرامة والحرية، لتلجأ إلى إحدى المنظمات النسوية المدافعة عن حقوق المرأة، ومن ثم التحقت بمتظاهري ساحة التحرير. هذا غيض من فيض العمق الإنساني الذي مارسه طالب، خلال فترة حياته الدراسية، وفترة مهنته الصحفية.

تعدّ رواية نذير الدرويش، نبوءة استباقية لثورة أكتوبر أو انتفاضة تشيرين؛ لتطابق لازمة الدرويش التي كان يطلقها في الأرجاء، وهو يقطع دروب وأزقة الأحياء الفقيرة: ((ونيني على اللي ما له وطن))، مع شعار شباب تشيرين ((نريد وطن))؛ ما دفع العامري بأن يتحفنا برواية (خيمة المعتصمات)، دوّن بها ثورة الشباب، لتكون مع نذير الدرويش ثنائية، تحكي لنا ملحمة الفداء والتضحية التي أبهرت العالم.

رواية (خيمة المعتصمات) تجري أحداثها في ساحة التحرير، أبان فترة ثورة الشباب التشريني، التي أغناها السارد بمعان إنسانية زاخرة، بدءًا بحب الوطن الذي فجرته الثورة، وجعلته يعلو على حب الأمهات لأبنائهن؛ فبعد إن كانت أم بطل الرواية طالب، تحذره من الاشتراك في التظاهرات، وأخذت منه وعدًا بذلك، بعد وقوعه في فخ الشبكة الأمنية الترهيبية التي سببت له هذيانًا؛ رقد عل أثرها في مشفى ابن رشد للأمراض النفسية، وغضبت كثيرًا حينما علمت بزيارته للتحرير في يوم الانتفاضة، عادت هذه المرة  بشكل غير متوقع، لتشجعه هي على زيارة التحرير؛ بعد متابعتها للأحداث الدامية، التي دفع الشباب دماءهم الزكية ثمنًا لعودة الوطن لأحضان أبنائه:

((تغيرت سحنة وجهها من العتاب إلى الرضا، كأنها تقول: لا جناح لما فعلته.. غفرت لك، وبعد فترة وجيزة خرجت من صمتها لتبادرني: امض إلى عملك غدًا، ثم أضافت متندرة: كفى خمولًا)).

 

 

هنا يحيل السارد حب الوطن إلى فعل إنساني، فليس لأم أن تتخلى عن فلذة كبدها، وتميل لحب الوطن، مثلما جرى مع أمهات شباب تشيرين، من غير أن يكون هناك رابط مقدس يلتحم بروحها وإنسانيتها، مثلما يلتحم جنينها بها بواسطة الحبل المشيمي، وهذا الفعل الإنساني سرى أيضًا كالعدوى في قلوب العاشقين، فلا يمكن لعاشق أن يتخلى عن حب الوطن، فالحبيبة والوطن لا ينفصلان، أحداهما يكمل الآخر، لذا فإن الشهيد حسين الذي وفدَّ من الناصرية إلى بغداد، وشارك في انتفاضة يوم 25 أكتوبر، لم يتخلّ عن معركة الدفاع عن حياض الوطن واستشهد فوق سنام الجسر، بالرغم من أن حبيبته تنتظره على بعد بضع ياردات، وخير ما عبر عن الوفاء للوطن والحبيبة حديث طالب لسامية حبيبة حسين، أثناء مواساته لها:

((أتدرين أنّ فدى الروح على مذبح الحرية، لا ينفصل عن الوفاء للحبيبة، كلاهما يتمم الآخر، وإنّ ثبات حسين عند خط الصدّ الأول حتى الرمق الأخير، لا يمكن أن يكون بهذه الصلابة، إلا مع عاشق كبير، يأبى أن يتخلى عن وطنه، ولو بمقدار لحظات أمام حبيبته)) ص36.

 

 

 

ولو ارتأينا نبش الأبعاد الإنسانية المضمرة بين السطور، لحصدنا الكثير، على سبيل المثال لا الحصر: متابعة أحوال النازحات، الحركة التشكيلية التي فجرها طلاب أكاديمية الفنون، رقصة الباليه لصبية من مدرسة الموسيقى والبالية وسط ساحة التحرير، تطوع الأمهات من مناطق شعبية مختلفة لخدمة الشباب المنتفض، انتقال المواكب الحسينية إلى ساحة التحرير، وغيرها. وفي مشاهد أخرى، لا يكتفي العامري بأبعاده الإنسانية المضمرة، بل يعلنها، ويجعل منها عناوين وسط الأحداث الساخنة، وهذا ما حصل أثناء لقاء الصحفي طالب، بنخبة من الشباب الذين نالوا شرف قتال داعش، ثم انضموا مع الثوار في التحرير، حين سأل أحدهم:

((هل هناك بعد إنساني ترك كبصمة محسوبة لمن قاتل داعش؟)) فيروي له كيف هو وزميله أنقذا طفلًا من مخالب الموت، دفنه أبوه ظنًا منه أنه دفن أخيه الميت، وحين وصل لأحد الجوامع، اكتشف أنه دفن الحي وحمل الميت معه، هنا يتطوعان للذهاب إلى المكان، بصحبة الأب في أخطر ليلة ماطرة وموحلة، اختلط فيها هزيم الرعد بهدير المدافع ووميضها، يخوض بها الطرفان معركة ضارية بمختلف الأسلحة، وبعد أن وصلا المكان بادرا بنبش القبر:

((هكذا كنا نتضرع ونحن نزيل التراب عن ساقيه وجانبيه، انزلق التراب من فوق رأسه وصدره، فتبين إن الرجل المفجوع قد عثر على قطعة كارتون سميكة وصلبة، غطى بها وجه وصدر ابنه الميت الحي، تلك القطعة عملت فجوة هوائية، ساعدت على إبعاد التراب عن وجهه وبقائه حيا لغاية وصولنا))، ((حين رفعنا قطعة المقوى، وضربت وجهه دفقة من الهواء النقي، أنتفض ورفس رجليه، برفق حملنا الطفل بعد أن فاق من رقدته، فز الرجل على كلمة بابا، فتح ذراعيه وأخذه بحضنه)) ص93.

 

 

توخى الكاتب في هذا المشهد بعث رسالة صريحة مفادها: ((على الفرد أن لا يتخلى عن إنسانيته في أحلك الظروف، وأصعب المواقف)).

رواية (فالانتاين) 2021 دار الشؤون الثقافية / وزارة الثقافة العراقية، وهي رواية تفاعلية (مشتركة) مع الكاتبة السورية ضحى الأحمد.

يدرك المتلقي إنها رواية حب من عنوانها، الذي يشكل كما هو معلوم، العتبة النصية الأولى للدلالة عما تضمره بين دفتيها، حيث يكتشف ذلك بسهولة ويسر من معنى فالانتاين، وهي كلمة لاتينية تعني عيد الحب، وبما إن الحب أسمى معنى للإنسانية؛ فالقارئ يجد نفسه غارقًا في رواية تفيض بالإنسانية من أول سطورها إلى آخرها، ففي مستهل الفصل الأول للرواية يصف لنا البطل حالته، وهو يتكلم بضمير الأنا:

((.. كان يومًا يبعث على الحب، سحرني هطول المطر وهو يضرب زجاج نافذة غرفتي المطلة على حديقة المنزل، أسمع الصفير، وأرنو إلى أغصان أشجار النارنج والتوت والسرو وهي تداعب الريح، ترتعش أوراقها لتنفض حباته اللؤلؤية وكأنها تغتسل كما يغتسل البشر)) ص5.

فيما تستهل البطلة حديثها، بجمل غاية في الشفافية، ذات نزعة إنسانية آسرة:

((.. تنحنح الصباح، موقظًا كعادته ندماء الأسرة، مرددًا بحنجرته صدى المآذن، امتثل جسدي له، كأنه أراد الصلاة بإرادته من دون علمي، منعشًا صباح المدينة وهي تتعطر برذاذ المطر، تختلط نداوته برذاذ الياسمين، ولأول مرة أدرك علة خلود الورد، تلك الابتسامة التي يهبها للجميع دون استثناء، وكأنها سمفونية حب أزلية، هنا فقط شعرت أنه يحيا بابتسامة، يا لحصافته حين يدافع عن حقه في الحياة، تراه يقذفك بعطره، يغويك للخضوع له والصلاة لأجله)) ص19.

 

 

 

الحب في رواية فالانتاين، نسج من الصدق والنقاء والعفوية، فتحول إلى إرادة إنسانية لا يمكن قهرها، تتحدى المستحيل وتخلق المعجزات، كما حدث للبطل حين التقى بحبيبته التي رسمها في خياله في سوق الحميدية، ترنو صوب عجوز يداعب بأصابعه أوتار عوده:

((يا الله شو حلو صوت العود، حلو مثلك، رديت عليها من فوري، تلاقت نظراتنا بصمت ينطق عن حدوث معجزة، يا إلهي هل تحدث معجزة في هذا الزمان؟ الحبيبة التي استعصى علي ملاقاتها في الواقع، رسمتها في خيالي، ثم جعلتها تهبط فوق سطور روايتي لتكون بطلتها، ها هي بلحمها ودمها)) ص50.

وفي مشاهد أخرى يلمس القارئ، إن الحب الذي ولد في قلبيّ شام ورحال، تحول إلى أسطورة تتوالد منها المعجزات، ذروتها حين تنقذ شام حبيبها العراقي رحال، وهو في قبضة سيطرة عسكرية داخل سوريا الذي يمر في وقتها بحرب أهلية طاحنة:

((بصوت يوحي بوقوعي في المصيدة، طيب يا حضرة الأفندي أصدقائك موجودين هون مشان يكفلوك؟ بقيت أفرك بكفي، لا أعرف بما أجيب، التفت صوب الدكة فاصطدمت بنظرات شام الفزعة وهي مشتبكة مع أبيها، حيث لم ينسحبا وبقيا يترقبان نتائج التحقيق معي، في تلك اللحظات لم يمهلني الضابط وقتا آخر، غلني من ساعدي بكفه الأيمن، ودفعني بقوة، لم أتمالك نفسي على أثرها، فهويت على الأرض، عندها صرخت شام: بابا.. كانت استغاثة شام دويًا هائلًا، كأنه نذير برق من السماء، فقد شد انتباه الجميع وأحاطوني بعطفهم، حتى أن الضابط شعر أنه اقترف حماقة، فتركني)) ص113.

الرواية تنبض سطورها بالحب الوجداني، الذي ملأ الحقول وسفوح الجبال وكل الأماكن التي مرّا بها الحبيبان في سوريا، لتكون كما في ديباجة الرواية التي دونت على غلافها:

((أشبه بمحاولة لزرع وردة وسط ركام الخراب، وبلسما لكل القلوب المكلومة بفراق الأحبة، ومطرًا فوق اليباب التي صدعت بطبول الحرب)).

 

قد يعجبك ايضا