الأبعاد الإنسانية في كتابات الروائي ناهي العامري

 

الجزء الأول

الأديب: سالم بخشي المندلاوي

حقق الكاتب ناهي العامري، حضورًا لافتًا في الوسط الروائي، خلال العقد المنصرم، وحظيت كتاباته السردية، باهتمام النقاد والمثقفين؛ ما أثار فضولي ودفعني للكتابة عن هذه السرديات، بالذات الطابع الإنساني الذي طغى على مجمل أعماله من خلال تناوله ثيمات ومواضيع مهمة، كالمخاطر التي تعرض لها الأثنيات، والأقليات التي وصلت أحيانًا حد التصفية العرقية، وإدانة المجرمين الذين ارتكبوا أو تسببوا بهذه الكوارث.

إن هذا الالتزام الأخلاقي في كتابات ناهي العامري وبعدها الإنساني العميق، ميزتا أعماله وأضافتا لها قيمة معنوية استثنائية.

صدر للكاتب: مجموعة قصصية وأحدة (عند مقام العذراء). وخمس روايات هي: صلاة الغجر، بين برزخين، نذير الدرويش، فالانتاين، خيمة المعتصمات (المسودة الأولى). نتناولها بالتعاقب حسب تواريخ إصدارها.

مجموعته القصصية: (عند مقام العذراء) 2010 عن دار الشؤون الثقافية/ وزارة الثقافة العراقية. تضم 14 قصة قصيرة. من بين تلك القصص (عند مقام العذراء) التي اختارها عنوانًا لمجموعته، ونختارها نحن بدورنا للحديث عنها.

في هذه القصة ينبري الكاتب، مدافعًا عن المكون المسيحي العراقي (شركاء الوطن)، بعد الاعتداءات الإرهابية المتكررة التي طالت الكنائس، ودور العبادة لهذه الطائفة من قبل الجماعات التكفيرية، ومن الواضح أيضًا إن هذا الخطاب الوطني في الغالب، هو هوية الأدباء؛ كونهم نخبة المثقفين الذين تحصنوا من عقدة الهويات الفرعية، القومية، الأثنية، الطائفية، المناطقية، العشائرية. فقد تماهى بطل القصة وهو العربي المسلم كليًا مع حبيبته المسيحية، أثناء زيارته لبيت أهلها، كأنه يعلن، إن لا فوارق اجتماعية بينهما، الأعراف والطقوس وأحدة عند العراقيين:

((استأذنت بالانصراف، فأصرت على مشاركتهم وجبة الغداء. عجبت هنيهة من الوقت، ثم عدلت عن عجبي، فقد حصلت على درس في هذه اللحظات التي أحس بأنفاسها وهي قريبة علي ما لم أستطع حصوله طوال سني عمري، إذ أخذت تقطع اللحم بيديها الرقيقتين وتضعه في صحني وتكرر: أرجوك كل)) ص51.

 

 

لم يكتف العامري في محو الفوارق الاجتماعية في ذهن المتلقي، بل ذهب أبعد من ذلك؛ ليقارب بين المبادئ الروحية عند المسلمين والمسيحيين، حينما بدا البطل متعاطف كليًا مع مقدسات حبيبته، وهو يرنو نحو لوحة مريم العذراء المعلقة على جدار غرفة الضيوف المواجهة له:

((أطلت من جديد بقامتها الهيفاء بعد إن غابت فترة داخل البيت، أنارت زوج البراكيت المثبتان على جدار الغرفة الممدود أمامي، فأضاءا لوحة صغيرة كانت معلقة بينهما لمريم العذراء، وهي تحتضن السيد المسيح وهو طفل، هالة النور الإلهية المحيطة بوجهيهما، تضيء القرون بالسلام والمحبة، وانحناء ماري حول يسوع، يبعث دفء الإيمان في الصحاري وفوق الجبال الثلجية)) ص50.

وفي مشهد نجاة حبيبته من موت محقق، يصور لنا القاص بلغة سردية شفيفة، كيف إنها تؤمن بمكانة وقدرة أولياء الله الصالحين، مثلما يؤمن المسلم بها:

((انفجرت شفتاها تنطق بإجابة سكنت لها أعماقي المضطربة: أثناء حدوث الانفجار، كنت قد بلغت مقام السيدة العذراء فنجوت)) ص54.

هذا الجهد الإبداعي المدفوع بحس إنساني عميق، هو محاولة لإعادة لحمة مكونات المجتمع العراقي -بعد أن مزقها الإرهاب- وصهرها في بوتقة الوطن الواحد.

 

 

رواية صلاة الغجر/ 2012 عن دار الينابيع – دمشق – سوريا، وهي رواية بوليفينية (أصوات).

الأدباء الذين تناولوا محنة الغجر في العراق لا يتجاوزن أصابع اليد الواحدة، بما فيهم الروائي ناهي العامري، الذي انبرى في دفاعه عنهم، بعد أن تلقوا البطشة الأولى من قبل التكفيريين، في محاولة لإبادتهم جماعيًا بعد إعصار 2003، أمام صمت إعلامي وحكومي، ومن دون أن تثار تلك الجريمة في المحافل القضائية، ولا منظمات المجتمع المدني، أو المنظمات الإنسانية الأخرى، وكأن الغجر ليسوا من البشر، وربما يعيشون في كوكب آخر.

إذن كيف تصدى الروائي لتلك القضية الشائكة، في الدفاع عنهم، وهم منبوذون، ونظرة المجتمع الدونية تلاحقهم على مر العصور، وما السر وراء تفهم المتلقي بعد قراءة الرواية، لحق الغجر في العيش بسلام، والتعاطف مع بطلة الرواية (غصون الغجرية) كمجنى عليها، وإدانة الجاني!

لقد تمكن الكاتب من ركن وتحييد مفاهيمه الاجتماعية، وسما لمرتبة الدفاع عن طائفة تشترك معه في الإنسانية. وهكذا عبر فصول الرواية، لا يجد القارئ، سوى حجج إنسانية مقنعة عن حق الغجر في اختيار طريقة عيشهم، وممارسة طقوسهم، فهم خلقوا ليكونوا أحرارًا، بلا وطن، لا حدود سياسية تجبرهم على عدم الترحال، فصارت حريتهم مثلًا ينشده الشعراء والفنانون، والمفكرون، والباحثون. فمن وجهة فكرة الرواية، حرية الغجر معادل ايجابي، تستمد منه الشعوب التي ترزح تحت السلطات السياسية، معنى الحرية من أوسع مداها. كما تقودنا تلك المعادلة إلى أول جريمة بحقهم، التي ارتكبها النظام الدكتاتوري السابق، حين أجبرهم على العيش داخل مجمعات سكنية، خلافًا لطبيعتهم القائمة على الترحال والتجوال، كما جاء في إفادة عازف الرباب الغجري عم صليوا، أمام الصحفيين، خالد، وسارة، وهما يحققان عن الهجوم البربري على الغجر، وجريمة ذبح غصون:

((مرت بنا عهود طويلة على هذا الحال، قبل أن ينتهي بنا المطاف ماكثين في مجمعات سكنية، مشيدة جدران بيوتها من الآجر، مسلحة سقوفها بالحديد والسمنت، غرفها مصقولة الجدران، مؤثثة بالموبيليا والسجاد، لا ينقطع عنها الماء والكهرباء، حالنا حال الأهالي في الأحياء المهادنة لنا بأطراف المدن، بعد أن تم تسجيل أفرادنا في دوائر النفوس، وسيق شبابنا إلى جبهات القتال، لخدمة العلم، وهكذا تم دخولنا عتبة حياة المدنية مكرهين)) ص16.

 

 

ثم يعود عم صليوا في مشهد آخر: ((بيد إن حياتنا المدنية لم يطرأ عليها الثبات والأمان، كما كنا نرتجي ونتمنى، فقد بقت رهن لما يدور حولنا، فإن تكدر الحال، أصابنا منه مكروه على قدر ذلك الشرر المتطاير، من مكمن ذلك الكدر، فقد تلقينا انتهاكات كثيرة واعتداءات لا حصر لها، ومما سهل للكارهين والمبغضين تكرار اعتداءاتهم علينا، هو سلبنا حياة الترحال، وإرغامنا ماكثين في بيوت المدن)) ص17.

لا يكتفي العامري باستمالة عاطفة المتلقي مع حق الغجري في البقاء على حياة الترحال، بل يذهب أبعد من ذلك، في وصف طبيعة الغجري حين يصطبغ بلون البيئة الاجتماعية التي يحل عليها، ففي مقطع آخر لاعترافات عازف الرباب عم صليوا يقول فيها:

((بصفتي مخضرم، عشت حياة الترحال كما عاش آبائي وأجدادي، شغفت منذ أن كنت يافعا، بغناء البادية، ذلك اللون الذي يبكي الأحبة في ديار الغربة، واستذوقت حديها وقصيدها وهي تتلو من حناجر المحرومين والمبعدين والعشاق، وتعلمت الضرب على آلة الرباب وبرعت بها، حتى أني تمكنت بفضل حلاوة صوتي، الذي أزهر فوق الفيافي والبوادي، أن أتغلب على جل مشاهير عصري في ذلك اللون، أينما حللت، ورحلت)) ص16.

وكبرهان على هذه الإفادة، هو تأثر بطل الرواية عماد حين صدح صوت عم صليوا في مضيف والد غصون:

((عم المكان سكون لبرهة من الوقت، وحين سحب القوس على وتر الرباب، شق فضاء الصمت أنين مجلجل، تستقبله الأسماع، كأنه عطر الماس، وتستشرفه الروح، كأنه حرارة اللقاء، وحين هبط عند ملتقى قرار الموجة، علا صوت صليوا حاديا:

جرح طاب بتداوي.. وجرح ما طاب

وحاروا بيه أهل العلم والطب

اذكرولي من الخليل علاج تا طيب

لكن جرحي مالو دوه

اغرورقت مقلتاي بالدموع، حينها لم أتمالك نفسي، فأجهشت بالبكاء، نهضت ملتمسا العذر من عهود وانسللت صوب صليوا، حين أدركته، جثوت أمامه، هبطت بكلتا كفيّ فوق كتفيه منشدا:

– عم صليوا متى تكف عن الحزن؟

– ليس بمقدوري، إنها صلاتي التي أتطهر بها.

نحت بعيني الدامعتين وجه صليوا الذي خفا بين طياته حكايا الغجر، مرت دون أن يكترث لها أحد، فطواها الزمن تحت أعطافه، وذلك الآنين الذي يبعثه الرباب، ما هو إلا صدى لها)) ص105.

لا يكتفي الروائي بهذه الأبعاد الإنسانية التي تجبرنا على التعاطف مع الغجر، بل يجرنا عنوة للوقوف إلى جانبهم، والذود عنهم من مخالب الإرهابيين الذين حاولوا إبادتهم. ففي المشهد الذي يحاول به الإرهابي جاسم ذبح غصون، ينبري عماد صديقه أيام حرب الثمان سنوات، مدافعًا عنها:

((في اللحظة التي هم بها لجز رقبتها، بعد أن ردد التكبيرة، جاء صوتي مدويًا:

– توقف أيها المتهور الجاني)) ص118.

هنا يصور العامري، دفاع عماد المستميت حين غل رسغ يد جاسم القابضة على المدية في سرد مبهر يثير فينا القلق، والخوف، والتعاطف:

((تابعين استقويا علي وأحاطاني بذراعيهما من عنقي ووسطي، سحباني بشدة؛ فانفرط قيدي عن ذراع جاسم، الذي عاد يطوح بمديته إلى الوراء، وقبل أن يهوي بها صوب عنقها، جاهدت بضراوة، وتملصت من أغلالهما التي كبلتني بصعوبة بالغة، رميت نفسي فوقها؛ لدرء الأذى عنها، فصاح بي جاسم مربدًا:

– أتفتديها يا فاجر؟

– نعم، لأنها لم ترتكب إثما يساوي مصادرة حياتها.

– والفجور والمعاصي التي لم تتب عنها؟

– هذه طقوس الغجر وأعرافهم، جبلت عليها مثلما عشتها أنت وانغمست بديدنها حين اقترنت بها.

– ولكني اهتديت.

– وهدايتك تنتزع حياة الإنسانة التي أحببتها حد الجنون! ولعمري أنك تنتقم من رغباتك ونزواتك التي لم تقوَ على كبح جماحها)) ص118-119.

في نهاية الرواية لم يفلح عماد في إنقاذ غصون لأنه كان وحيدًا، وذبحها جاسم، ليطلق الكاتب أقوى صرخة إدانة ضد القاتل، ومدونًا أبشع جريمة ضد الإنسانية.

 

قد يعجبك ايضا