رحلة استذكار في ذاكرة شيخ المؤرخين الدكتور حسين أمين

 

علي ناصر الكناني

في لقاء اجريته مع شيخ المؤرخين الدكتور حسين أمين في داره العامرة بعد عودته من جمهورية مصر العربية حيث تولى الإشراف على رسالتي دكتوراه في التاريخ الإسلامي لطالبتين مصريتين من قسم التاريخ في كليه الآداب بجامعة الاسكندرية، كما أخبرني خلال اللقاء بقيام الجمعية التاريخية المصرية بإقامة ندوة ثقافية واسعة كرست للبحث في (مكانة مدينة الكوفة في الحضارة الإسلامية). مشيرا إلى إن ألجمعية كانت قد كلفته بإلقاء محاضرة بهذا الخصوص حضرها حشد من المؤرخين وأساتذة الجامعات والمهتمين بالتاريخ العربي والإسلامي.

يعد المؤرخ والمفكر الرائد الدكتور حسين أمين الذي عرفته الأوساط الثقافية الأدبية والمعرفية من خلال أبحاثه وطروحاته الفكرية والعلمية الرائدة على الصعيدين المحلي والعربي، إلى جانب كونه أحد المؤسسين الأوائل لجامعة بغداد في خمسينيات القرن الماضي.

سألته أن يحدثني أولاً عن بداياته وولادته فقال:

(الكتاتيب).. الخطوة الأولى

– ولدت في مدينة بغداد عام (1923) في منطقة تدعى (الطوب)عند باب المعظم اليوم، نسبة الى وجود المدفع العثماني القديم (طوب ابو خزامة) حيث نشأت وترعرعت فيها لأدخل الكتاتيب أو ما يسمى (بالملا) في بغداد حيث ختمت القرآن الكريم لأكثر من مرة عند (الملا عبد) في باب المعظم وملا آخر هندي لا يحضرني اسمه الآن كان في منطقة (تبة الكرد) ، ثم اكملت دراستي الابتدائية والمتوسطة والاعدادية هناك. وبعد اكمالي الدراسة في معهد المعلمين العالي في بغداد بتفوق عال، سافرت الى مصر في بعثة دراسية لأكمل الدراسة في جامعة الاسكندرية -كلية الادب، حيث حصلت على المرتبة الاولى على جميع الطلبة المصريين. فخيرتني عند ذاك الحكومة العراقية بين اكمال الدراسة في لندن او امريكا او في اية دولة اخرى الا انني فضلت البقاء في مصر لأكمل الدراسة في جامعة الاسكندرية بالذات للحصول على شهادة الماجسيتر وبأقصر فترة وقد حصلت على مرتبة ممتازة، ما شجعني على مواصلة الدراسة هناك للحصول على شهادة (الدكتوراه) التي نلتها خلال فترة قياسية ايضاً وبدرجة الشرف الأولى كان ذلك عام 1963.

 

 

 

 

 

علاقته بالعلامة مصطفى جواد!

وهنا بادرت لأسأله عن طبيعة تلك العلاقة الطويلة التي كانت تجمعه بصديق عمره واستاذه د. مصطفى جواد فقال: اقول لكم وللجميع بكل فخر واعتزاز ان الدكتور الراحل مصطفى جواد كان استاذي ومعلمي الاول فهو شخصية ليست عراقية فحسب بل هو شخصية عالمية نفخر ونعتز جميعاً بها. ومازلت أذكر ان أول لقاء جمعني به كان في عام 1930 حين درسني في مدرسة المأمونية الابتدائية، وكنت حينها ما ازال طالباً في الصف الاول الابتدائي، وبعد انهائي لمرحلة الدراسة الابتدائية ودخولي مرحلة الدراسة المتوسطة كنت اراه خلال طريقي بالذهاب والاياب الى المدرسة فأسلم عليه وكنت من المستمعين والمتابعين لبرنامجه الاذاعي المعروف (قل ولا تقل) الذي كان يبث عن طريق الاذاعة بعد افتتاحها عام 1936.

اول برنامج ثقافي في تلفزيون بغداد

اشتهر البرنامج التلفزيوني (الندوة الثقافية) الذي كان يعده ويقدمه الدكتور حسين امين في اواخر الخمسينيات من على شاشة تلفزيون بغداد وذاع صيته خلال تلك الفترة، فآثرنا الوقوف عنده وذكريات الدكتور امين عنه فحدثني بقوله:

في عام 1958 وبعد قيام ثورة 14 تموز كنت حينها ما ازال في مصر وكان وزير التربية ذلك الوقت هو الاستاذ جابر عمر الذي كان من اساتذتي ايضاً فدعاني للعودة الى العراق بعد ان أصدر امراً بتعييني في جامعة بغداد استاذا في كلية الآداب. وبعد فترة نقل لي الصديق الاديب خالص عزمي رغبة وزير الارشاد آنذاك بتقديم برنامج تلفزيوني من شاشة تلفزيون بغداد اسمه (الندوة الثقافية) وكان البث مباشراً على الهواء من دون تسجيل، وبعد فترة من الزمن التقيت الدكتور مصطفى جواد وعرضت عليه فكرة مشاركتي بهذا البرنامج فرحب بالفكرة، فتواصلنا بتقديم البرنامج بشكل مستمر حيث استضفنا عدداً من الاعلام والمفكرين والادباء العراقيين المعروفين آنذاك، من بينهم الدكتور علي الوردي، وفؤاد عباس وجعفر الخليلي وآخرون غيرهم من بينهم الشاعر اللبناني الكبير ميخائيل نعيمة الذي اتحفنا بقصيدة رائعة كان مطلعها يقول:

اخي عاد بعد الحرب جندي لأوطانه

والقى جسمه المنهوك في احضان خلانه

وبعد فترة انضم لأسرة البرنامج الباحث سالم الالوسي الذي كان يقوم بتزويدنا بالصور الاثارية والتراثية بحكم عمله مسؤولا في دائرة النشر التابعة لمديرية الاثار والتراث العامة. وكانت مشاركته طيبة ومفيدة، وبعد سفري الى مصر اوكلت اليه ادارة البرنامج وبعد عودتي تواصلنا ثانية لتقديمه معا حتى وفاة الدكتور مصطفى جواد.

الحاكم العسكري العام يعترض!

وللنجاح المستمر للبرنامج التلفزيوني الذي كنت اتواصل بتقديمه مع الدكتور مصطفى جواد والاستاذ سالم الآلوسي اتفقنا على ان نقدم حلقات منه بشكل مباشر للجمهور العام بعد دعوتهم للتجمع في مناطق سياحية واثرية كسامراء او سلمان باك او الاخيضر وغيرها من الاماكن التي كنا نقوم بشرح ما تحتويه تلك المعالم من مميزات وملامح تاريخية واثرية فلقي نجاحاً كبيراً لدى الناس ويبدو ان هذه التجمعات الكبيرة للمواطن في تلك الاماكن للمشاركة في البرنامج اثارت حفيظة الحاكم العسكري العام آنذاك عام 1962 اللواء احمد صالح العبدي. فدعاني لمقابلته شخصياً في مكتبه الخاص بوزراة الدفاع وطلب مني توضيح هذا الامر ولما سمع مني الحقيقة التي تقف وراء الموضوع اقتنع بالفكرة وشجعني على الاستمرار في تقديم البرنامج من دو ن اي تردد.

عبد الناصر يكرم حسين امين!

ويواصل الدكتور حسين امين حديثه عن تلك الفترة قائلاً: – يبدو ان الجامعة المصرية قد ابلغت القيادة المصرية بخبر حصولي على مرتبة الشرف الأولى في الحصول على شهادة الدكتوراه عام 1962 ما دعاهم لإرسال دعوة خاصة لي لتسلم الجائزة التقديرية التي خصصها لي الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر التي كانت قيمتها آنذاك (ألف) جنيه مصري اذ يعد هذا المبلغ كبيراً في ذلك الوقت! ولعلّ من المؤلم حقا هو انني لم احصل على أي تكريم من الجهات الحكومية العراقية آنذاك. وبعد عودتي من مصر وحصولي على شهادة الدكتوراه واصلت عملي في التدريس والبحث في كلية الآداب بجامعة بغداد التي عينت فيها منذ عام 1958، فقدمت ونشرت اكثر من(200) بحث اكاديمي علمي وتاريخي وتراثي في مجلات عالمية وعربية وعراقية الى جانب مشاركتي في (90) مؤتمراً علمياً بدءا من اوربا وامريكا الى آسيا، ولا يخفى عليكم ان حضور تلك المؤتمرات هو بحد ذاته يشكل تراكما في زيادة الخبرة المعرفية والعلمية لي وللآخرين ممن يشاركون بمثل هذه المؤتمرات، ولي الفخر والاعتزاز ان اكون الاستاذ العراقي الوحيد الذي اختارته جامعة الاسكندرية استاذا لتدريس طلبة الدراسات العليا. كما انه لأول مرة ايضاً ان يحاضر استاذ عراقي في مكتبة الاسكندرية التي تعد من أعظم وأفخم المكتبات في العالم. ولا أنسي ان اذكر بالفضل لجامعة بغداد وشكرها لمنحي الاجازة الخاصة بالتفرغ العلمي مدة سنة واحدة التي عملت خلالها العديد من المحاضرات والمشاركات المختلفة في الفعاليات الثقافية والعلمية الكثيرة، حيث حصلت على عضوية المجمع العلمي المصري وعضوية اللجنة الثقافية في مكتبة الاسكندرية في سابقة لم تحصل من قبل لعراقي قبلي على ما اعتقد.. ومدعاة فخر وشرف لي ايضاً لأنني كنت قبل سنوات اميناً عاماً لاتحاد المؤرخين العرب منذ عام 1974. كل هذا جعلني أحس بالفرح الغامر والسرور لما اعانني الله سبحانه على تحقيقه من انجازات علمية وفكرية لبلدي العزيز ولمدينتنا الغالية بغداد التي كنت حريصاً على ان يعرف الجميع هناك، واقصد في مصر، الكثير عنها كونها العاصمة الأولى للثقافة والابداع من خلال الندوات والمجالس الأدبية التي كنت احضرها والتي كانت تتميز بكونها ذات طابع رسمي، كمركز الابداع في الاسكندرية ومكتبة الصاوي في القاهرة وغيرهما من الاماكن الأخرى، كما ادعو الحكومة الى تقديم الدعم والعون لأصحاب البحوث العلمية من الشباب من طلبة الدراسات العليا ومنحهم الفرصة لتحقيق طروحاتهم وطموحاتهم العلمية التي تصب اولاً وآخراً لخدمة الوطن العزيز.

 

 

 

حسين أمين و(الباشا) نوري السعيد!

من المواقف الطريفة والمثيرة الاخرى التي ذكرها لنا الدكتور حسين امين في صباه حين كان منزلهم بالقرب من الدار التي يسكنها رئيس وزراء العراق آنذاك نوري السعيد في محلة باب الطوب حيث ذكر تلك الحادثة قائلا:

عندما كنا نمارس لعبة كرة القدم ونحن صغار مع بقية ابناء المنطقة يصادف ان تدخل الكرة الى باحة منزل رئيس الوزراء الاسبق نوري سعيد، كان اصدقائي يخشون الدخول الى الدار لجلب الكرة، فيصرون على ذهابي لجلبها، فما ان يراني (الباشا) وهو جالس على كرسيه وسط الدار حتى يقول: (لك تالي وياكم تره والله ذبحتونا) فكنت أمد يدي لأخذ الكرة واذهب مسرعاً قائلاً له :(بس هالمرة باشا!).

كما تحدث عن علاقة رئيس وزراء العراق إبان فترة العهد الملكي في خمسينيات القرن الماضي (الباشا) نوري السعيد المتواضعة بعامة الناس من اهالي بغداد ومنهم على سبيل المثال لا الحصر بائع الفواكه الشهير في سوق الامانة في رصافة بغداد، (مجيد كنو) الذي كان يتبضع منه رئيس الوزراء اسوة ببقية الزبائن الاخرين من دون تمييز وكيف كان يمازحه بقوله (شوية دارينا بالمسواك تره ام صباح تزعل عليّ). وقد صادف كما يقول الدكتور امين ان التقيته يوما هناك ولم يكن معه في سيارته التي كانت تحمل الرقم (20) بغداد سوى شرطي واحد وسائق فقط! اضافة لذكره لحوادث اخرى من بينها ما حصل مع (دعبول البلام) يوم صعد معه في (بلمه) بصحبة ملك العراق فيصل الاول لإيصالهما الى منطقة الكرادة من دون ان يتعرف عليهما. وعن علاقة والدته المتوفاة عام 1959 بالسيدة نعيمة العسكري زوجة نوري السعيد، وشقيقة المرحوم جعفر العسكري يوم كانوا يسكنون الى جوارهم في منطقة الوزيرية يومها كانتا ترتبطان مع بعضهما بعلاقة صداقة طيبة وقديمة تمتد لسنوات.. وبعد احداث ثورة 14 تموز عام 1958 اقدمت السلطات الحكومية آنذاك على تسفير السيدة نعيمة العسكري الى لندن مع كنتها المصرية الاصل (عصمت) زوجة ولدها الوحيد (صباح) الذي قتل هو الاخر في الايام الاولى للثورة، ما اضطرها لاستدانة مبلغ من المال مقداره خمسون دينارا من والدة الدكتور حسين، وعند وصولها الى العاصمة البريطانية لندن بعثت وكما يقول الدكتور امين برسالة الى والدته تشرح فيها ظروفها الصعبة، لأنها لم تعد تملك شيئا ووعدت بتسديد المبلغ بأقرب وقت ممكن إلا ان الحظ لم يحالفها وتوفيت هناك وتكفلت بمراسيم دفنها بلدية لندن!! كما ان زوجة ولدها صباح وولديه منها قد توفوا ايضا هناك في حادث كما ذكر ذلك الاديب سمير الصوفي الذي التقاهما مصادفة في احدى سفراته الى لندن قبيل وفاتهما.. ولعل من سخريات القدر ان يكون اثنان من ابرز الشخصيات التي عرفها تاريخ العراق قد رحلا الى بارئهما ولم يكونا يملكان في بلدهما بيتا او قبراً وهما نوري السعيد وعبدالكريم قاسم!.

توفي شيخ المؤرخين العراقيين والعرب العلامة حسين امين عن عمر ناهز 88 عاما في احد مستشفيات العاصمة الاردنية عمان في العام 2013 ليسمو نجمًا لامعًا في سماء الابداع العراقي الباهر…

قد يعجبك ايضا