الفيليون الكورد والقدر

 

 

د. توفيق رفيق التونجي

العراق كأسم دولة مصطلح جغرافي غير قومي. يختلف في تركيبته السكانية العرقية والعقائدية والثقافية التعددية. “دولة العراق” سمي ابان تأسيسها لاول مرة ولم تضاف كلمة “العربية” الى التسمية كما حصل في سوريا ومصر مثلا. عند فكرة التأسيس كان العراق يتألف من ولايتي البصرة وبغداد وعلى اساس دولة عربية اما ولاية الموصل فكانت موضوع خلاف على أساس انها لم تسقط عسكريا وكان الجيش العثماني فيها عند وقف إطلاق النار و لم يدخلها الجيش البريطاني إلا يوم 15 تشرين الثاني 1918، أي بعد 16 يوم من المعاهدة،   وكان قد وقع العثمانيون (معاهدة مودروس) مع الحلفاء يوم 18 تشرين الأول.

 

الخلاف اخذ الى عصبة الامم (هيئة الأمم المتحدة) التي قررت اجراء استفتاء بين اهالي الولاية لتعيين مطالبهم بين الانتماء الى العراق او البقاء ضمن الدولة التركية الفتية . لا توجد لدي اي معلومات إحصائية موثوقا بنتائجه لذلك الاستفتاء الا ان عصبة الامم قررت على ضوء تلك النتائج إلحاق ولاية الموصل الى الدولة العراقية. ولاية الموصل كانت تشمل مدن الموصل و دهوك واربيل وكركوك والسليمانية وحسب ما ذكر بان اهالي السليمانية و كركوك رفضوا الانضمام الى العراق وترك لهم حرية الخيار خلال عام بألانضمام للعراق الجديد او للجمهورية الجديدة في تركيا. إضافة إلى ذلك أن الدولة العراقية تأسست بموجب مؤتمر القاهرة الذي عقدته المملكة المتحدة في مارس1921  أعقاب انتفاضة الشعب العراقي ضد الاحتلال البريطاني ما يسمى في العراق بثورة العشرين 1920.

 

 

 

و شارك الكورد في تلك الانتفاضة  بقيادة الراحل الشيح محمود الحفيد ملك كوردستان مع ابناء عشائر الجنوب.

 

وفي جلسة المجلس التأسيسي المنعقدة في 23 اب 1921 تم انتخاب الأمير فيصل بن حسين ملكا على العراق بناء على اقتراح قدمه  رئيس المجلس التأسيسي السيد عبد الرحمن النقيب نقيب أشراف بغداد والذي  تولى بنفسه مهمة رئيس الوزراء للحكومة العراقية الانتقالية.

 

الكورد في العراق مكون أساسي ذو أصول تاريخية قديمة وتركيبة يمكن تقسيمهم مناطقيا الى ثلاث مناطق سكنية جغرافية اساسية  ومتداخلة مع وجود مناطق ثقافية اخرى كما هو عليها منطقة هورامان. الوسط والجنوب معظمهم من الكورد الفيليين (بفتح الفاء). البادينان ومعظمهم من الكورد الكرمانج وكورد كرميان في سهل كركوك ما بين نهري سيروان والزاب وهم اكثرية من السوران.

 

أصاب الشعب الكوردي ومنذ تاسيس الدولة العراقية الويلات تلو الويلات ومن جميع الحكومات المتعاقبة في العهدين الملكي والجمهوري. الكورد الفيليين أصابهم ما أصاب القوم من قرح واكثر من ناحية كونهم الأكثر احتكاكا بالعرب في بغداد ومحافظات الجنوب وقد اثر ذلك بالطبع على عاداتهم وتقاليدهم وحتى على لهجتهم الجميلة.

 

الفيليون من اصول عراقية قديمة وأصيلة ومن ايام الساسانين وهناك عدد من القبائل الفيلية هاجرت الى العراق من ايران من اجل لقمة العيش ابان لم تكن هناك اي حدود رسمية وهم ينتشرون في مناطق ومدن أصبحت حدودية مع رسم الحدود بين العراق وايران لذا نراهم اليوم ينتشرون على طول الحدود العراقية الايرانية جنوبا من مدينة خانقين الى اطراف البصرة .

 

 

 

النظام القبلي الذي يعتمد عليه المجتمع نراه لحد اليوم فهناك قبائل عديدة وتفرعاتهم مثل سنجابي، بيرى، ملك شاهى، انصاري، الوندي، الزهيري، صفري، حيدري، زنكبادى، كلهورى، قيتولي، قيسي، شوهاني، السورميرى، كوركوش ، زركوش  ،  قره لوسي ، نوو خاسى، اركوازي  وقبائل اخرى عديدة تعربوا مع مرور الزمن في حين العديد من العوائل اختاروا “تقية” القاب عشائر عربية ونسوا الاجيال القادمة اصولهم الحقيقية.

 

بصورة عامة  الفيليين من اللذين يحبذون العمل الحر والتجارة في سوق الشورجة التراثي والشعبي ومنطقة شارع الرشيد وشارع الكفاح. برز منهم العديد من الأثرياء من التجار وذوي الأملاك والعقارات. نادرا ما نراهم كموظفي دولة او في الجيش ولعل أشهرهم هو المرحوم حافظ عبد الله القاضي* والذي ولد في بغداد محلة باب الشيخ في اسرة من عشيرة الكروية الفيليية والتي تسكن في ضواحي جلولاء والسعدية والذي سمي احد اهم ميادين بغداد باسمه في شارع الرشيد التجاري وليس ببعيد عن محل والدي رحمه الله في راس القرية وهذا المكان بالذات اي راس القرية بقى في ذاكرة العراقيين الجمعية اذ حاول عدد من مجرمي العصابة البعثية اغتيال الزعيم عبد كريم قاسم وفشلت محاولتهم بقتل احدهم وهو عبد الوهاب الغريري الذي سمي احدى الساحات باسمه ابان فترة الحكم البعثي.

 

موكب سيارة ملك العراق المفدى يمر من تحت قوس النصر الذي شيده حافظ القاضي امام محله التجاري في شارع الرشيد في بغداد.

 

بعد انقلاب البعث عام 1969 قاموا بهجمة بربرية على التجار الفيليين و هجروهم الى ايران اوائل السبعينات بعد سلب ممتلكاتهم المنقولة والغير منقولة.

الجدير بالذكر أن اول وزير بعثي كان من الكود الفيليين وهو (علي صالح السعدي).

 

هناك العديد من العوائل البغدادية من الفيليين ولكنهم تعربوا ونسوا اصولهم وكما ذكرت اعلاه خاصة بين طبقة التجار.

وقبل فترة وجيزة من بداية الحرب العراقية الأيرانية، شهد الكرد الفيليين مأساة كبيرة حين قرر النظام معاقبتهم واتهامهم بالتبعية لايران وسحب الجنسية العراقية منهم مع مصادرة أموالهم وممتلكاتهم من العقارات والمباني والدور والمعامل والشركات على الطريقة النازية  حيث أنيط  الى  وزارة الداخلية وقوى الأمن تهجيرهم خلال 24 ساعة وإرغام المتزوجين منهم بطلاق زوجاتهم او أزواجهم خاصة من منتسبي القوات المسلحة  والشرطة وحتى من موظفي الدولة،وذلك في عهد الرئيس العراقي صدام حسين في الرابع من أبريل/نيسان 1980 حيث تم تهجيرهم جماعيا ووصفهم  بالتبعية الإيرانية  وطردهم إلى الحدود مع إيران وتركهم في العراء.

 

 

كنت آنذاك لا زلت اخدم الاحتياط وحين عدت الى بيتنا كانت والدتي تجلس في باب البيت وتنحب لان جارنا البيت المقابل كانوا من الفيلية وقد تم تهجيرهم بملابس النوم، فطلبت من والدتي الدخول الى الدار لكثرة المخبرين في المنطقة. اما في المعسكر فقد كان الجندي الاول الطباخ علي الفيلي يبكي ويلطم خديه وهو يصيح في ساحة العرضات قائلا: والله ما اعرف

كلمة واحدة فارسي.

 

كذلك كان نفس القدر يواجه معظم أصدقاء الوالد رحمه الله من تجار الشورجة وشارع الرشيد والشارعين الموازيين الجمهورية وشارع النهر. اتذكر تلك الايام حيث اصاب الإحباط الوالد وترك التجارة اثر ذلك. وتركت العراق  بنفسي عام 1972مع تهجير صديقي المرحوم كاظم الساعاتي وعائلته والذي كان يدير محلا صغيرا في شارع الرشيد لتصليح الساعات و سمعت لاحقا بانه وافاه الاجل المحتوم في ايران.

 

الكورد الفيلية مسلمون من طائفة الشيعة الأثنى عشرية ، ويتحدثون بلهجة كردية تختلف عن السورانية والبادينانية واللهجات الاخرى ويتخلل لهجتهم العذبة الكثير من المفردات العربية وطبعا الفارسية كذلك.

 

حالة الفيليين بعد سقوط النظام البعثي في العراق لم تتغير كثيرا. والكثير من مشاكلهم لا تزال عالقة خاصة الشباب المغيبين في المقابر الجماعية وتلك العوائل التي محيت عن بكرة ابيها, كما ان هناك العديد منهم قد فارقوا الحياة منذ سنين طويلة ولا اثر للورثة للمطالبة بحقوقهم وأراضيهم فيما تخص معاملات العقارات التي هدمت وبنيت بنايات اخرى على تلك الأراضي وأمور أخرى كثيرة.

 

السياسي المعروف المرحوم عادل مراد الفيلي

 

اما من الناحية السياسية فالأحزاب السياسية الكوردية في اقليم كوردستان لم تتمكن استيعاب الكورد الفيليين بصورة كاملة الا عدد صغير لا يتعدون أصابع اليد وصلوا الى مراكز قيادية في تلك الأحزاب أتذكر السياسي المرحوم حبيب محمد كريم الملكشاهي “حبيب الفيلي” و صديقي المرحوم عادل مراد الذي كان في السبعينات يرأس اتحاد طلبة كوردستان ومن مؤسسي الاتحاد الوطني الكوردستاني وسفيرا للعراق في رومانيا بعد سقوط النظام والصديق المرحوم عبد الرزاق الفيلي الذي كنا معنا لاجئين في السويد في مدينة (سودرهام) شمال العاصمة استوكهولم ثم انتقل الى مدينة فلين وبات مسئول لملف الخارجية في الإقليم. الانتماء الطائفي الشيعي كان إحدى العوامل الأساسية لتوجههم الى الأحزاب السياسية الدينية بالإضافة الى الغبن التاريخي الذي إصابتهم من التهميش والتسقيط والإحباط إبان حملات التهجير  رغم وجود بعض الحركات السياسية الصغيرة التي تعمل على المحافظة وحماية مصالحهم. التوجه في المستقبل سيكون ربما الى جانب الإقليم وبمرور الزمن. يبقى ان نعلم بان إعدادهم في اي انتخابات خاصة في مناطق تواجدهم في العاصمة بغداد ومحافظات الجنوب ليست بقليلة ومؤثر اذ هناك جالية منهم خارج العراق وفي إيران لحد يومنا هذا.

 

 

 

الأندلس 2003

اشارات:

*يقول الأستاذ إبراهيم العلاف عن حافظ القاضي في مادة له في جريدة المدى ما يلي:

“حافظ القاضي واليه تنسب ساحة حافظ القاضي في بغداد جانب الرصافة القريب من جسر الاحرار. وحافظ القاضي تاجر بغدادي كبير انتقل الى رحمة الله اواخر الستينيات من القرن الفائت ….كان حافظ القاضي مقربا من صناع القرار في العهد الملكي 1921ـ 1958 وكان معروفا بأريحيته وكرمه وسخائه ونخوته كأي بغدادي اصيل وكان من اسرة متوسطة الحال ونشأ عصاميا، اعتمد على نفسه في تكوين ثروته.

قد يعجبك ايضا