عاتكة الخزرجي … قيثارة العراق الشجية

 

د. سيار الجميل

” وهل عندكم في الحب بعض الذي عندي ”

هذا الذي قالته عاتكة، تقديم شاهد الرؤية:

من لم يسمع باسمها؟ ومن لم يقرأ شعرها الرقيق؟

انها الشاعرة التي تذكرني بالشفق المخملي عند الاصيل..

انها الحالمة عند الغسق الرائع عندما تصفو الحياة من وعثائها..

انها ابنة العراق التي طارت شهرتها في القرن العشرين..

انها المثقفة الاديبة التي رفدت الشعر العربي بروائع ستخلد اسمها في التاريخ..

انها المرأة المتمرسة في صنع اجيال من المبدعين..

نعم، عاتكة وهبي الخزرجي التي وهبت كل ما وهبها الله للأدب العربي شعرا ونثرا، وهي الاستاذة الجامعية المتمكنة من تاريخ الادب العربي في عصره الكلاسيكي القديم، وهي صاحبة الصوت الرخيم في غناء الشعر.. تموسقه بكل هدوء ورقة عندما تقرأه كالحالمين.

انها تنتمي الى أبرع جيل عراقي مثقف من اجيال القرن العشرين.. ذلك الجيل الذي توّهج عند منتصف القرن العشرين.. وقد انسحق انسحاقا كاملا عند نهاياته على عهد الطاغية ويا للأسف الشديد!

سمعت باسمها وانا في طور التكوين عندما كنت التهم الشعر واختار من اعذبه وأكذبه..

الذكرى القديمة:

التقيت بها مرة واحدة في حياتي وانا على مقاعد الدراسة في واحد من مهرجانات الشعر والادب والثقافة التي كان العراقيون يعشقونها.. كنا نرصّ أنفسنا رصا في قاعة كبرى بانتظار اطلالتها.. كانت صورتها في مخيلتي انها تعشق الالوان والبهرجة والالبسة الجميلة. كان الصمت يخيم في تلك القاعة التي امتلأت بنا نحن طلبة واساتذة في واحد من ربيع بداية عقد السبعينيات، وقد بدأ الموسم الثقافي لجامعة الموصل، اذ كان من تقاليده وقت ذاك دعوة كبار المثقفين والمبدعين العرب لسماع ما يقولونه لنا. دخلت برفقة رئيس جامعتنا وكان مثقفا بارعا قبل ان يكون رئيسا قديرا، انه الدكتور محمد صادق المشاط وضجت القاعة بالتصفيق وقام كل من كان جالسا احتراما لشاعرة مبدعة ذاع اسمها في الآفاق. جلست والابتسامة تملأ وجهها وقد بانت الكهولة عليها، ولكنها لم تفتر عن اهتمامها بنفسها ومكياجها وملابسها المبهرجة الملونة. اذ كانت ترى في ذلك جمالية من نوع خاص بها كفنانة تختلف عن بقية الناس.

 

 

قدمّها لنا رئيس الجامعة بعد ان حّياها بكلمة قصيرة ذكرنا بروائعها، ثم خطت خطواتها معتلية المسرح وبدأت بعد ان ران الصمت ثانية الا من كلماتها التي جعلتنا نغرد معها في فضاء من الموحيات الجميلة في مناخ ملائكي رائع.  تذكرت البحتري في صوره عن الطبيعة وخمائلها الجميلة، وطرق سمعي العباس بن الاحنف التي لم يعتن به أحد كعناية عاتكة بسيرة حياته وبشعره الرائع. تذكرت جرير وانا أحرك يدي مع موسيقى عاتكة بكل عذوبة الانشاد وحلاوة الكلمات وطلاوتها. كانت محاضرتها عن العباس بن الاحنف وشعره قد جعلتنا نسبح في بحر من الرومانسية برغم العوالم الكلاسيكية الرحبة وقرأت قصائده وقصائدها بصوت لم يزل يرن في اعماقي.

التكوين المتنوع منذ البواكير:

بدأت موهبتها الشعرية الخارقة منذ مراهقتها لتنافس مجنون ليلى لشوقي الذي عشقت شعره. لقد تعلمت في العراق الذي كان على العهد الملكي يهتم بالمثقفين والمبدعين اهتماما لا يضاهى، وذهبت الى باريس وتعلمت الفرنسية لتكمل دراستها، وبدأت تقرأ وتطلع على الآداب العالمية وتدرك معاني الحياة الجديدة ومعترك التفكير الحديث وشغلت هناك دورا رائعا في قول الشعر والتف المثقفون العرب من حولها، وعملت على شعر العباس بن الاحنف كثيرا وكتبت اطروحتها عنه بكل حب واعجاب، وبقيت طوال حياتها تذكره وتغني ابيات من شعره الجميل. ورجعت الى بغداد لتغدو واحدة من مثقفاتها اللواتي برزن بإبداعاتهن وقد شكلن ثقلا متنوعا في الساحة النسوية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين.

عاشقة بغداد:

لقد تخرج على يديها العدد الكبير من المثقفين والادباء والمبدعين والمبدعات، وكانت استاذة ماهرة يعشق سماع محاضرتها الكبار والصغار. كانت تهتم بموسيقى الشعر ورقته وترعى كل من تتلمس لديه موهبة الشعر، وتشدد عليه حتى يصفو شاربه. وكان لها دورها الثقافي المتميز من خلال حواراتها وما تنشره من قصائد كنا نترقبها لتغدو حديثا بيننا نحن الشباب من المثقفين في اوائل تكويننا. كانت عاتكة عاشقة لبغداد وهي تسكن في بيت انيق تعتني به عناية فائقة مع نباتاتها وازهارها واوراقها وكتبها وصورها التي تعشقها كثيرا.

لم تستطع عاتكة فراق بغداد، ولكنها بارحتها وهي كلمى حزينة ولم ترجع اليها لأنها كما علمت قد تعذبت وألم بها القهر والأسى، وقد اجادت عاتكة حين انشدت:

بغداد ان ازف الوداع وصاح بي داعي الرحيل مناديا بنواك

وشددت من فوق الحشا واستعبدت عينان لم تدر البكا لولاك

لهواك زادي بل لقاك تولهي والعيش ان احيا على ذكراك

لولاك يا بغداد ما اخترت النوى وتركت امي والحمى لولاك

 

العزلة الروحانية: الدواوين والاعمال

عاتكة تحب العزلة من اجل المناجاة وتذكر بأنها عرفت الله ومن ثم عرفت نفسها من خلال وحدتها التي تصفو نفسها فيها من كل الأكدار. وقد كان لذلك تأثيره في ينبوع صفائها بذكرها الله كثيرا في قصائدها وكأنها في محراب تصوفي لا اول له ولا اخر. تذكر ان ربة الشعر تتنزل عليها من اعالي السماوات على كل حين حيت يخيل اليها ان ثمة انجذاب وتعلق بها وهي من اسعد الناس بذلك.

 

 

 

اصدرت عاتكة عدة دواوين شعرية، منها: “ديوان نوراني” في العشق الالهي وقصائدها روحانية نورانية تقارب المائتي قصيدة. وديوان “قصائد آخر” وديوان “من القلب الى القلب” وفيه معان انسانية خصبة تزخر بها رقة الشاعرة وشفافيتها. ومسرحية “علية بنت المهدي” الاميرة الشاعرة والموسيقارة المغنية، ومن كتبها في الادب العربي: “من روائع الشعر العربي” وكتاب “من روائع الشعر الفرنسي” وكتاب “في أجواء الاثير” وكتاب “نسيب الشريف الرضي” وغير ذلك من المحاضرات والاعمال.

رحلت عاتكة الخزرجي عام ١٩٩٧ تاركة إرثا يزخر بالأدب وشعرا رقيقا جسّد الوطن الذي سكن روحها وخيالها ومعزوفة جميلة تترنم بها الأجيال.

قد يعجبك ايضا