التأخي / احمد جمال
استطاعت بعض الفضائيات الإخبارية العربية أن تجذب إليها قطاعات واسعة من جمهور أبدى اهتماما بتطورات الأحداث في قطاع غزة، واستفادت من وقوع الكثير من وسائل الإعلام الغربية في خطأ الانحياز لإسرائيل، ما انعكس على انطلاق حملات تهاجم منصات عالمية، وأخرى ناطقة بالعربية وتابعة لدول غربية، وخدم ذلك الإعلام العربي الذي كان مستعدا لتغطية حرب تتصدر الأخبار للأسبوع الثالث على التوالي
عكست حرب غزة قدرا من التقنيات للكثير من الفضائيات الإخبارية العربية التي خصصت لها ميزانيات كبيرة مع اتساع رقعة الصراعات الإقليمية، وكانت تسعى أولا للسيطرة على العقول قبل النفوذ، واستفادت من خبرات سابقة كانت فيها القنوات الإخبارية تدعم السياسة الخارجية لدولها، ودائما كان ما حققته قناة “الجزيرة” من مكاسب للدولة القطرية مقياسا لكثيرين .
حظيت محطات مثل “سكاي نيوز عربية” و”العربية” و”الحدث” و”القاهرة الإخبارية” و”الغد”، فضلا عن “الجزيرة” بالطبع، باهتمام من الجمهور ، ظهر في ارتفاع معدلات المتابعة والتفاعل مع ما يقدم من مقاطع مصورة أو قصص إخبارية على مواقع التواصل الاجتماعي، تمكنت أن تُحدث مزيجًا مهمًا بين ما يقدم على الشاشات التقليدية وبين المنصات الرقمية التي باتت حاضرة بقوة في الأحداث الراهنة .
تسببت حالة الاستقطاب الواسعة بين التغطية الإعلامية والدعائية المؤيدة لرواية إسرائيل، وبين أغلب التغطيات العربية المؤيدة للقضية الفلسطينية، في غياب الكثير من الضوابط المهنية بين الجانبين، وتراجع حضور منصات إعلامية دولية ناطقة بالعربية شكلّت معيارا للمهنية وقبلة لمشاهدين عرب كانوا ينظرون إليها باعتبارها بعيدة عن الحسابات السياسية، وهو ما تأثرت به قنوات “بي.بي.سي – عربي” و”فرانس 24″ و”الحرة”، و”روسيا اليوم”.
حظي وقوع وسائل الإعلام الأجنبية في ترديد أكاذيب مثل قطع رؤوس الأطفال على يد حركة حماس بانتشار واسع في أوساط الجمهور العربي، خاصة في قناة “سي.أن.أن” الأميركية التي تملك موقعا إخباريا ناطقا بالعربية، وبدأت مواقع التواصل تقوم بدور يخدم فضائيات عربية، وامتلكت قدرة على تفنيد بعض ادعاءات الإعلام الغربي .
جاءت الحالة الشعوبية المتصاعدة في المنطقة العربية باتجاه دعم الشعب الفلسطيني في صالح فضائيات عربية جرى التعامل معها باعتبارها ضمن أدوات كشف ما ترتكبه إسرائيل من اعتداءات وجرائم قتل يومية بحق المدنيين في قطاع غزة. وجعلت عملية تغذية بعض الفضائيات العربية هذه الحالة مهمة في توظيفها لخدمة بعض الأجندات السياسية، والسعي لوقف الحرب وإدخال المساعدات الإنسانية لغزة، وركزت على ما يتم تقديمه من محتويات يحافظ على الارتباط الجماهيري بما يتم بثه
قال عميد كلية الإعلام بالجامعة البريطانية بالقاهرة محمد شومان إن بعض القنوات العربية الإخبارية قدمت أداء جيدا منذ اندلاع الحرب، لكنها وقعت في العديد من الأخطاء، أبرزها عدم مراعاة ومواثيق الشرف الخاصة بنقل صور القتلى والمصابين، كما أن بعض المذيعين في هذه المحطات خلطوا بين المشاعر المتعاطفة مع الشعب الفلسطيني وبين المحتوى الإعلامي المهني، وبعضهم انخرط مثلا في البكاء، وهو نفس ما وقع فيه بعض مذيعي القنوات الأجنبية تعاطفا مع الاحتلال إسرائيلي .
وأضاف أن غالبية الفضائيات العربية، والأجنبية، تدعي أنها تنقل المعارك والقصف أولا بأول كي يشعر المشاهد أنه يعيش الحرب ويتابعها بدقة، لكن في الحقيقة هذا شعور زائف ينطوي على تلاعب بما يجري على الأرض، لأننا لا نشاهد مجريات وتطورات الحرب بدقة، وما يمكن أن تنقله الكاميرات هو ما تسمح به الأطراف المتحكمة في الصراع، ووفق سياسات كل منها .
وأشار شومان إلى مشكلة أخرى تعاني منها الفضائيات العربية، على الرغم من قدرتها على جذب الجمهور، وهي انخراطها بشكل موسع في برامج حوارية تستضيف طرفين متناقضين ولا تصل إلى شيء في النهاية، وقد لا تؤدي إلى الفهم أو تقود مباشرة إلى الضغط النفسي على المشاهد، ما يجعل هناك قطاعات من الجمهور مؤهلة لتنصرف عن متابعتها، مشيرا إلى أن الاستغراق في مشاهد الدماء يشكل تحديا للقيم التي تربى عليها الجمهور، وقد تكون لها تأثيرات عكسية تؤدي إلى التعود على القتل
مارست بعض الفضائيات الغربية، ووسائل الإعلام عموما هناك، قدرا كبيرا من التحيز في بداية العمليات، والآن أخذت تسترد شيئا من التوازن في معالجاتها، وهو ما يجعل الإعلام العربي أمام تحدي كيفية الحفاظ على ما حققه من مكاسب جماهيرية عبر الالتزام بالتغطيات المهنية التي تخاطب العقول وتدعم استمرار الجمهور في التعامل معها كمنصات إعلامية متنوعة وقادرة على تثبيت حضورها باستمرار، وليس بصورة مؤقتة ترتبط بالحروب والصراعات الدائرة وتخف عندما تهدأ الأوضاع
لدى البعض من خبراء الإعلام قناعة بأن ما يسجله النشطاء ومشاهير منصات التواصل يتجاوز كثيرا قدرات وسائل الإعلام العربية بما لديها من إمكانيات هائلة وشبكة مراسلين ينتشرون في مناطق عديدة، وأن بعض المقاطع التي توثق ما يحدث بشكل كامل أثرت في الصورة المرسومة للحرب الآن وحققت صفحات أفراد ومؤسسات صغيرة الملايين من المتابعات، ما يشي بوجود تحديات تستدعي ضرورة تطوير سبل العمل والتغطيات الإخبارية في الإعلام التقليدي .
وتحاول وسائل إعلام عربية الاعتماد على “صحافة المواطن”، أي الاستعانة بمشاهد موثقة لمواطنين وعرضها، وهو أمر توسعت فيه قناة “الجزيرة” القطرية، لكن ذلك يجعلها أمام مأزق يتعلق بمدى صدق ما يتم عرضه وما إذا كانت الوقائع ترتبط بأحداث حدثت للتو أم أنها لأحداث أو اعتداءات قديمة وتتم إعادة تدويرها .