د. توفيق رفيق التونچي
الحاضرة كركوك وطن صغير يجمع بين حناياه آمال وذكريات سأكنيه فيختلط ذلك الحب الأزلي والولع بدمائهم ويصبغ ذاكرتهم قرمزيا قانيا، ليبدعوا لاحقا، وليكتبوا عن محبوبتهم ذو الجدائل الذهبية. هنا يتحدث الناس بأربع لغات مكونة بوتقة ثقافية فريدة .. هناك وحول تلك ألتلة المباركة التي تعلوها القلعة والتي ابيدت بجرافات ابان الحكم الدكتاتوري السابق. انتشرت المدارس وفي مدينة ليست ببعيدة عن تلكم التل في احياء المصلى والشورجة واسكان وامام قاسم واخرحسن وبريادي.
كانت بداية المشوار عندما أفتتح ملك العراق فيصل الثاني رحمة الله عليه ورضوانه بناية محطة القطار، الذي كان يربط بين كركوك واربيل ، في مدينة آلتون كوبري بالتركمانية و “بردي” بالكوردية اي “القنطرة الذهبية” كنت في ذلك اليوم السعيد أراقبه من بعيد مع رفيق صباي “محمود شكر كوزلة” وقد عقد الملك الشاب يديه خلفة وبدأ بالسير على خط السكك الحديدية بمعية أعوان ووجهاء المدينة والضيوف القادمين من بغداد وكركوك. هناك كان لي أيضا لقاء مع المسطبة “الرحلة” والسبورة”اللوحة” والطباشير والكتب والأقلام وعصا مدير المدرسة وهو يهرول وراء المتقاعسين من التلاميذ. أول مدرسة دخلتها وانا أرتدي دشداشة “مقلمة” من قماش البازه الصيني اي بخطوط حمراء، خضراء او ربما كانت زرقاء وعلى رأسي “كلاو” اي طاقيه بيضاء ولم أتجاوز الخامسة وكنت أصغر طلاب الصف وقد كان والدي رحمة الله عليه قد طلب من صديقه “ناظم أفندي” المدرس في مدرسة المدينة الابتدائية للبنين وكانت هناك مدرسة للبنات كذلك بقبولي كمستمع في الصف لابتعاد عن اللعب والمشاكسة في “المحلة” فبادره بالموافقة وسألني:
– هل تغسل وجهك كل صباح ب”اللبن” ؟
لم اعرف ما أجيبه آنذاك كدت أعدو خوفا ولكنه قطع علي حيرتي كطفل بريئ ممازحا أياي:
يجب أن تغسل وجهك كي تبيض بشرتك السمراء.
هذا الأستاذ الجليل كان أول مدرس درس الحساب والكتاب لي ووضع القلم بين أناملي وكان رحمه الله، حيا كان او ميتا من محبي الجمال وقد نذر إلا أن يتزوج من شقراء ذو عيون زرقاء وكان له ذلك لاحقا عندما أنتقل الى الحاضرة كركوك حيث كان يعيش معظم أخوته وعلى ذكرهم أريد ها هنا أن أذكر أخيه مدرس الرسم “فاضل” ذلك الرسام المبدع الذي أفتتح لاحقا أستوديو للتصوير في شارع الجمهورية قرب سينما صلاح الدين أسماه “قارداشلق” اي الإخاء وتلك كلمة يحبذ استعمالها التوركمان (وقد أسسوا لاحقا بعد إعلان الجمهورية نادي ثقافي لهم في بغداد وتحت نفس العنوان عمل لنشر الثقافة والأدب التركماني وأصدر النادي ومنذ تأسيسه كذلك مجلة تحت ذلك العنوان لا تزال تصدر من قبل “وقف كركوك” في مدينة استانبول ويرأس تحريرها الأستاذ المعماري صبحي الساعاتي.
كانت مدرسة” الغربية” الابتدائية المحطة الثانية لي في منطقة “تعليم تبة” عام 1959، حيث بيوت الفقراء من الطوب في منطقة سميت ب “عرصة” أتذكر فيها رفيقي الذي كان يجلس على الرحلة بجانبي واسمه “سعدي” وآخرون مثل الإخوان ” تاني ومحسن” وكانا رسامين ونحاتين بارعين والأخ “حسين كاكامان” الذي كان يدير متجرا في محلة ”الماز” وربما سيذكر العديدين منهم تلك الأيام ومن تلك الفترة أستذكر الكثير من المدرسين مدرس الإنكليزية المربي الفاضل “عباس أفندي” ومدرس الجغرافية “صبحي أفندي” البدين الذي كان كمن يهرول وهو يقوم بالتفتيش الصباحي (اصطفاف) وكان السعادة والبهجة تنتشر بين الطلاب خاصة للتلاميذ اللذين نسوا مناديلهم او من نسى تقليم أظافره ونحن نقف مصطفين لتحية للعلم وننشد نشيد”موطني” ولاحقا نشيد”لاحت رؤوس الحراب” وأناشيد أخرى كان عليه أن يقوم بتفتيش عن المناديل التي كنا نضعها تحت كفينا الممدوتين الى الامام لإسهال تفتيش ما إذا كنا قد قلمنا أظافرنا وويل لمن نسى!
مدرسة الغربية الابتدائية الصورة للأستاذ ياسين الحديدي
أما مدرس الحساب فكان أسمه الأستاذ ” أكرم دندن” وكان والده بزازا “بائع أقمشة” في “سوق القورية” وقد جاءه لقبه من مهنة والده و كان قصير القامة قاسيا بعض الشئ مع الطلاب محبا وحريصا بهم ويهتم على مستقبلهم ولا أتذكر الكثير من المدرسين الآخرين وربما كان مدرس النشيد والموسيقى و الأحب الى قلوب التلاميذ حيث كان عازفا ماهرا على الكمان بينما كان احد الطلاب من إخواننا من عرب الجنوب يغني بصوته الرائع أغاني ريفية شائعة في ذلك الزمان لمطربين مشهورين ك “داخل حسن” و”حضيري ابو عزيز” واخرون.
من الأمور الأساسية التي كان يشغل بال الطلاب توزيع الحليب الحار واقراص زيت الحوت وبعض الجوز اما في الشتاء فقد كانت معونة الشتاء تأتي للعفيفين من الطلبة وربما على شكل زوج من الأحذية وقد أرادت وزارة التربية و التعليم تعميم الزي الموحد في احد السنين فكان حدث بلا حرج ومهزلة كبيرة بالبدلات الرصاصية القبيحة الشكل والمظهر كتلك التي يرتديها السجناء. ربما كان طاولة “البنك بونك” التسلية الوحيدة للطلاب عندما يدق الجرس معلنا بدا الاستراحة “الفرصة” فتراهم يهرعون إلى الغرفة التي وضع فيها تلك الطاولة وربما كان في رواق المدرسة اذا لم تخني ذاكرتي بعد مرور اكثر من ستة عقود على تلك الأيام الخوالي.
تأخذنا المسير الدراسي الى متوسطة الغربية تلك البناية القريبة من جسر الشهداء المسماة تيمنا بشهداء التوركمان تموز 1959 والتي جرت فصولها البشعة في المدينة مع استفحال الشعور القومي السلبي بين قوميات المكونة للتركيبة السكانية التعددية للمدينة من كورد وتوركمان وكلدو اشوريين وعرب وارمن ويهود. درس فيها العديد من الشعراء اذكر صديقي العزيز صلاح فائق و الشاعر سركون بولص ومن اساتذة العربية الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد. المدرسة التي كانت مقرا للجيش العثماني وفيها إسطبلا للجند رمة من الفرسان “سباهي” وربما كان احد اجدادي البين باشي محمد الملا علي قائدا للجيش للسباهي أي الفرسان فيها وتحولت الى مدرسة للمرحلة المتوسطة. كل صور ذاكرتي عن ذلك الزمان تحمل أسم أستاذ الرسم المرحوم “سعاد عزت ارسلان” على ما أتذكر وكنت أظن انه الأخ الصغير لأستاذ الفنان محمد أنور رمضان ولكن صديقا عزيزا قال غير ذلك مدعيا انه كان اخ خطاط كركوك الشهير محمد عزت الخطاط والله اعلم وربما يسعفني القارئ النبيه باسمة وللحقيقة كان هذا الفنان بارعا في تدريس تاريخ الرسم حيث كان يعرض اللوحات ب”الفانوس السحري” وأحيانا يطلب من أحدهم أن يقف على الطاولة كموديل بينما يقوم الطلاب الآخرون برسمه ويختار في نهاية الدرس أحسن اللوحات ليعرضها على التلاميذ فسلاما له ولفنه أما الأستاذ المشهور ساقي باقي رحمه الله فقد كان اسم المدرسة مقرونا به ويخافه جميع التلاميذ.
المرحومان الأستاذ الجليل ساقي باقي والاستاذ سعاد عزت ارسلان
مع حلول العام الدراسي الجديد انتقلت الى مدرسة “الحكمة” القريبة من “كازينو النصر” ذلك المقهى العصري مقر جماعة كركوك الادبية وملتقى المثقفين ورجال الأمن المراقبين لحركات المواطنين وكان انذاك محلات اورزدي باك قد انتقلت الى شارع الجمهورية وفي الطابق الارضي كانت رائحة العطور الفرنسية تفوح من بائعتها الجميلة السيدة كلارا يونان رحمة الله عليها . ذلك المقهى الدائري الذي كان يقدم الشاي والحليب لرواده ويباع فيها “البيبسي الكولا” ب درهما اي خمسون فلسا (كانت العملة العراقية حتى نهاية الثمانينات قوية حيث كان الدينار العراقي الواحد يقابل ما يقارب الثلاث دولارات او أكثر” ويرتاده المثقفين من كتاب وشعراء وفنانين. هنا في هذه المدرسة كان اللقاء بمدير المدرسة الأستاذ “محمد علي” مدرس الرياضيات الذي كان بذكائه الخارق في الرياضيات يوزع نتائج الامتحانات النهائية في اليوم التالي لانتهاء الامتحانات النهائية كمثيله السيد “عادل شعلان” داهية الرياضيات العراقية في حين كان معاونه إنسانا صلفا قاسيا الى الدرجة العنف مع الطلاب وربما تحول لاحقا الى أحد الجلاوزة لا أتذكر أسمه بالكامل وربما يسعفني القارئ النبيه في التذكر ولكن المدرسين الآخرين كانو على كثرة لان المدرسة كانت في الصباح تسمى “متوسطة الحكمة” وبعد الظهر أعتقد كانت تسمى “الشرقية” كان مدرسا الرسم الأستاذ معروف خضر والأستاذ كمال نموذجين من الأساتذة الذين لا يبرحون مخيلة الطلبة لحبهم الشديد بالفن والرسم والتخطيط والنحت.
هذه المدرسة كانت مسرحا للقاء الطلاب ولأول مرة مع مدرسين مصريين أذكر منهم الأستاذ “عبد الحليم” مدرس الكيمياء المسيحي القبطي الذي حل أهلا وسهلا في مجتمع كركوك المسلم والمسيحي وكان بارعا في إجراء التجارب الكيماوية وشرح الدرس للطلاب وكان له رفيق آخر مصري يدرس اللغة العربية لا أذكر أسمة مع الأسف الشديد وربما كان اسمه محمد وقد كان أيفاد هؤلاء الأساتذة الذين قدموا الخدمات الجليلة لأبناء المدينة في رفع المستوى التعليمي ضمن التبادل الثقافي بين العراق ومصر آنذاك حيث القومية العربية فكرة القيادة في الدولتين أيام الوحدة و “الاتحاد الاشتراكي العربي” الذي لا نزال ولحد يومنا هذا نرفع علمهم في العراق ورئيس العراقي المرحوم “عبد السلام عارف” الذي كان يكثر الزيارات الى كركوك وكان علينا نحن الطلاب الوقوف لساعات طويلة على طرفي الشارع كي يمر موكبه بعد عدة ساعات وفي ثواني من أمام أعيننا نكاد نرى شبح احدهم وهو جالس في المقعد الخلفي للسيارة السوداء المسرعة. كان لمدرس الجغرافية الأستاذ “صالح” قابلية نادرة في رسم الخرائط الجغرافية حيث ترك ميراثا من الخرائط الجميلة في المدرسة رسمها بمساعدة الطلبة وقد كان ممن يحفظون عن غيب حدود دول العالم ليرسموها بالطباشير على السبورة.
كان المخرج المسرحي “سلمان فائق الكاكئي” قد أختار عددا من طلاب المدرسة لاداء أدوار تمثيلية في مسرحية”رسالة الى الله” مثل الدور الرئيسي فيه احد الطلاب المسيحيين واسمه على ما أتذكر كان ”سمير” وشارك كذلك صديقي الأستاذ الكاتب فهمي الكاكائي في دور الشرطي كما اخبرني بنفسه لاحقا وكذلك الصديق الاعلامي هاشم علي مندي. قدمت المسرحية في شهر رمضان بمناسبة جمع المال للفقراء والمحتاجين” معونة الشتاء ” على مسرح إعدادية كركوك وكانت مناسبة للطلاب لحضور عرض مسرحي يرون فيه رفاقهم على خشبة المسرح مع عزف فرقة الموسيقية للمعلمين مقطوعات موسيقية من تراث الموسيقي العراقي يوم لم يكن في كركوك الكثير من المسارح ولم يكن هناك محطة للتلفزيون أفتتح لاحقا في عهد “عبد الرحمن عارف” بخطاب متلفز رقيق وجهه الى مواطني مدينة كركوك فكانت ثورة ثقافية حقة في حياة المجتمع الكركوكي.
أكاد أن أعبر وبسرعة على الحوادث ناسيا بان الهدف من المقالة الحوار الحضاري بين الثقافات لا تذكر مدرسي كركوك كالاستاذ “وصفي” (حسب ما ذكر اعدمه السلطة البعثية لاحقا) والأستاذ الكبير “صبحي الداوودي” رحمه الله مدرس الفيزياء والأستاذ الكريم ابو نبيل “قاسم الصالحي” والسيدة لميعة رفيق التونجي والكثيرين من الآخرين من المدرسين العرب حيث كانت الدولة قد غضبت عليهم فأبعدتهم الى كركوك مدينة المنفيين كعقاب لهم ولم تدرك أن بعملها هذا قدمت الى الثقافة والأدب العراقي رموز من الكتاب والأدباء والفنانين الكركوكيين الذين أحبو المدينة وأهلها وعشقوا لغة أهل المدينة الكوردية و التوركمانية وتعلموها غناء وطربا وتسامرا في جلساتهم وخططوا بالريشة أفكارهم في أدب عراقي فريد ك “جماعة كركوك”. ارجو من القارئ الكريم الذي عاشر تلك الفترة ويتذكر أسماء المدرسين الأجلاء اللذين خانني الذاكرة الى ذكرهم اغناء المادة بآرائهم وذكرياتهم.
تبقى مدينة كركوك وأهلها الكرام نموذجا طيبا تسود فيها الحوار السلمي الحضاري بعيدا عن جميع الأفكار السلبية المدمرة للشعوب. شعب من عليه الرحمن ان يقرأ بأربع لغات ويطرب لاغاني بأربع لغات وينبع من أبارئه النار والنور خيرا لجميع العباد.
ينتهي سفري على أعتاب مدينة الرشيد حديقة العدل عام 1968 لأبدا رحلة أخرى مع إعدادية الملك غازي في الكرادة الشرقية والتي تغيرت اسمها الى الإعدادية الشرقية بعد إعلان الجمهورية وفيها لي حديث اخر ذو شجون مع طلابها وأساتذتها الكرام ربما أعود الى قلمي لأسرد كل ذلك كوثيقة تاريخية تراثية حية عن زمن مضى والذاكرة تخوننا دوما فلكم أقدم اعتذاري يا أساتذتي الذين نسيت ان أذكر أسمائكم، وجميع رفاق الدرب من زملائي الكرام او ورد في أسمائهم خطا ولكني لم أنساكم و سوف أردد دوما:
” من علمني حرفا ملكني عبدا”
أقولها لهم أحياء وأموات والى الملتقى وشكرا مع حبي ومودتي وتحياتي، الى أساتذتي.