ماهين شيخاني
بالرغم من التخدير الكلي لجسدي إلا أنني كنت أسمع أصواتهم المبهمة الآتية من بعيد أو من العالم الآخر وهم يتحدثون ويتناقشون حول هذه الحالة الفريدة من نوعها ، بدا عليهم علامات العجز والتعب ، هؤلاء أشباه الرؤوس الخضراء الملثمة والمكممة والذين شكلوا لجاناً ومتخصصين لدراسة المشكلة ، تجمعوا فوق رأسي المليء بالمتناقضات والمرفق بطنين مزعج ، حيث تتخللهم أشعة ساطعة كأنها الشمس ، تبهر عيني ، لم اعد أميز شيئا ؟. ولا أعرف أين أنا ؟ ولماذا جاؤوا ليقبضوا على روحي ؟..
أتابعهم بالنظر واستنشق تلك الرائحة المقيتة ، التي تثير أعصابي وتخرجني عن طوعي دون إرادة مني .
سمعت أحدهم يقول : لدى إجراء العملية الجراحية للقلب ، تبين لنا آثار صورة فتاة ضمن إطار ألماسي محطم ومتناثر حيث تأثر شغاف قلبه بجروح بالغة لم يلتئم بعد .
– رد آخر: أي قلب يا دكتور ؟ . قل بيضة مفرغة من محتواها، لم نر سوى أطلال قلب والتي تربعت على عرشه دودة متوحشة أفسدت كل شيء من خلال تحركها .
– يا الهي ؟…إذن هؤلاء الذين حولي دكاترة وممرضين …؟ . ثم سألت ذاتي : دودة متوحشة ، وبقايا قلب فارغ ، كبيضة أفرغت من محتواها ، قشور فقط .
في تلك اللحظة زارتني سحابة سوداء ، وقفت حاجزا بيني وبينهم لترجع بذاكرتي إلى تلك الليلة المأساوية.
حاولت جاهدا أن أتخلص من أرقي وأخلد للنوم ولو لبضع دقائق لأن تباشير الصبح قد لاح ، لكن المسائل المتعلقة والمتراكمة في ذهني كانت تدفع ببعضها تحاصرني من كل جانب لتفرش أمورها المستعصية حولي . آملاً في حلها أو تصفيتها. كنت أتقلب يمنة ويسرة والسهد هجرني والكآبة هاجمتني , أحسست بضيق في نفسي ، كأن جو الغرفة قد شابه التغيير وقد رافقته رائحة غريبة للغاية . ألقيت بنظرة إلى أولادي النائمين كأشلاء متناثرة ، قد يكون الرائحة خارجة من أحدهم ولكن هذه الرائحة غريبة لا تقارن بروائحهم ، كانت الرائحة تقترب مني بازدياد ، اضطررت إلى فتح النافذة والباب على مصراعيه ، وتوجهت إلى المطبخ لأروي ظمئي وأخمد حرارة جسمي ، فمددت يدي إلى كأس الماء لأدلقها مرة واحدة . أحسست بنفس الجو ونفس الرائحة ، يا الهي …! من أين تأتي هذه الرائحة القذرة وكأنها رائحة جيفة ميتة ؟
اقتربت من اسطوانة الغاز لعلها هي التي تسرب الرائحة ، لكنها كانت مغلقة بإحكام . أحس إن هذه الرائحة تملأ البيت ، تلاحقني بل تكاد تخنقني . فلم يبق أمامي سوى غرفة الضيوف والتي تحتوي على مكتبتي و جهاز التلفاز . أشغلت الجهاز ودنوت إلى المكتبة لأتصفح بعض الكتب أو المجلات .
انتابني شعور وكأن الكتب تهرب مني ، لم استنشق رائحة الكتب القديمة ولم اشعر بحنوها لي . يبدوا أن الكتب فقدوني منذ فترة غير قصيرة ولعلهم نسوا أناملي ، على أية حال لا ألومهم فالمصائب والمشاكل أتتني على دفعة واحدة ، كادت تقضي علي بل كانت على قدر كاف لنسيان الكثير . جلست و تصفحت لبعض الوقت إلا أن الرائحة لاحقتني إلى هناك أيضا ،كانت الغرفة حارة والجو الملبد بتلك الرائحة خانقاً . انتصبت وخطيت خطوتين باتجاه المكيف لأشغله عله يطرد الرائحة ، إلا إن محاولاتي أحبطت ولم أنوب منها سوى البرودة والارتعاش .
راودتني فكرة الاستحمام وتلاوة بضع صفحات من القرآن الكريم ، وهذا ما حصل بالفعل لغاية آذان الصبح . عمت أرجاء الغرفة بتلك الرائحة واشتد غيظي وقهري ، لكن النعاس غلبني , فاستغفرت ربي وتوجهت إلى فراشي لأغط في نوم عميق .
رأيت زوجتي تتحدث مع جارتها حول الرائحة وتصر على أن هذه الرائحة هي رائحة الطبخ بالسمن البلدي ، ثم لفت انتباهي إلى قنوات التلفزيون حيث معظم البرامج السياسية وحتى الغنائية منها تقدم أغان وأشعار عن الرائحة أما في إحدى القنوات كانت ندوة بهذا الخصوص حيث اجتمع لفيف من المحللين السياسيين حول طاولة مستديرة قال احدهم: إن هذه الرائحة من فعل أمريكا ، نعم أمريكا هي السبب الأول والأخير في مشاكلنا وتقف حجرة عثرة في طريق تقدمنا، لاشك إن هذه أيضا بدعة منها كسابقاتها كالجمرة الخبيثة مثلاً ، لترهب المجتمعات . تدخل آخر والحماس باد على وجهه قال : لنسم الأشياء بمسمياتها يا أخوان ما هذه الترهات ولماذا نحمل غيرنا ونجعل من أمريكا شماعة نعلق أخطاءنا عليها ، بالعكس أن رياح التغيير آتية لامحال ، إلا أنني أرى أن هذه الرائحة هي من عمل الحكام ليشغلون الناس بأشياء تافهة كي ننسى مشاكلنا وهمومنا ، من المفترض أن لا تنجر النخبة وراء ذلك ولا ترعبنا هذه الأفعال، تدخل الثالث ذو اللحية البيضاء وقال : مع الأسف يا أخوان انتم تناقشون موضوعا ليس لنا حول ولا قوة إنها أرادة الخالق إذ قال : كن فيكن ، وهذه الرائحة هي من علامات دنو الآخرة ، أن الساعة آتية لا ريب فيها( صدق الله العظيم ).
استيقظت باكرا لأتأكد هل تخلصت من تلك الرائحة ، يبدوا أن لا جدوى من الخلاص، الرائحة كما هي وأحيانا اشعر بزيادتها، انزويت في الغرفة وأنا اختلس النظر إلى الأولاد لأتأكد هل يشعرون مثلي بشيء ، إلا أنهم كانوا طبيعيين وكأنهم بلا أنوف ، أتصورهم بلا أنوف ، لا اعلم هل هذا مشهد كوميدي أم مشهد تراجيدي ، انوي الضحك من داخلي لتلك الوجوه المسطحة ، فأتذكر بحركاتهم وهم على هذه الصورة الفنان الأسباني ( سلفادور دالي ) ولوحاته السريالية . ثم يحجمني العادات والتقاليد كحصان جامح . إذ كيف لبني آدم الخروج من دون انف ؟. وهذا الأنف فيه كل القيم والشرف ؟.
– لا أدري لماذا كررت هذه الجملة : ( القيم والشرف ) ، العملة النادرة في زمن المال والطمع . كان عليَ أن أبدو طبيعيا مثلما بدا الأولاد بعد أن تأكدت بأنهم لم يشعروا أو يلاحظوا شيء .
هذه الرائحة سببت لي قلقا وإزعاجا لا يحتمل في حياتي ، أحس بان فئة من الناس يسخرون مني بل ويتهربون من لقاءي وأن بعضهم ينحرفون عن مسارهم لدى رؤيتي في طريقهم والمارين بجانبي واضعين أياديهم على أنوفهم , والكل يشترك في مقولة يتهامسون بمرورهم جانبي ، سيمفونية اعتادت عليها أذني : المفلس رائحته مقرفة وان اغتسل بمياه الغانج أحس بأن هذه الهيئة الإنسانية النظيفة التي تنتهج الخلق والطهارة ، أصبحت مليئة بالقذارة . لكنني لست مفلسا والحمد لله ، توجهت إلى بائع العطور وحاولت التقرب منه ومحادثته وأنا انظر إلى وجهه لأبحث عن شيء في عينيه ، في وجهه ، في حديثه ، كان عاديا جدا . لم يمط بشفته ؟. اشتريت علبة عطر من إحدى الماركات المعروفة ، فتحتها وتعطرت برائحتها ، وأخذت طريقي إلى محل عملي . وأنا في منتصف الطريق تبادر إلى ذهني استشارة طبيب وعرض حالتي عليه .
– تبين علامات الدهشة على وجهه، لدى وضع السماعة على صدري ، كرر العملية لعدة مرات ، ثم همس في أذن الممرض الذي بدا عليه بدوره حالة الطبيب ، ونطقوا معا عبارة : غير معقول ….مستحيل !!!
– خارت قواي لدى سماعي كلامهما، تلعثمت وقلت بصوت متحشرج : هل أنا بخير يا دكتور ؟.
– بخير، أطمئن ، طالما أنت لحد الآن على قيد الحياة ، لكن عليك إجراء بعض الفحوصات ، لذا سأرسلك إلى المستشفى ؟. قد تحتاج إلى عملية في القلب .
– تقصد القثطلة ؟ .
– ……..
– عملية في القلب ؟.
– لا عليك ، فقط أنصحك الذهاب بأقصى سرعة .
– لا شعوريا نطقت ( والرائحة )؟…
28\8\2004