اشراقات كوردية … خريف الغربة

جاسم محمد شامار

اريج النباتات وعطور الزهور في ربيع مندلي كانت تحل محلها في الخريف روائح اخرى لم تكن اقل سحرا ولذة لأبناء المدينة.

انها مندلي مدينة الفصول الاربعة، في كل موسم ترتدي حلة جديدة ويمارس ابناءها طقوس الحياة المنبثقة من روعة وجمال الطبيعة مع حركة العمل والكفاح..

تقاليد وروتين الحياة في خريف مندلي ماتزال اثارها على مزاج ابناءها..تغير الحياة نحو موسم أكثر برودة كانت تبعث على الاحساس بالدفء والحنين والشعور بالراحة والامان والرجوع من البساتين لقضاء وقتا اطول في البيت..

رغم جمال البساتين الا إنك كنت تشعر بحزن اسطوري مع الصمت الطاغي في ارجاء المكان.. وفي البيوت عالم اخر للاحتفال بالخريف.

الدخان المتصاعد من حرق السعف اليابس وجذوع النخل تحت قدور النحاس المملوءة بالماء المغلي والتمر لصنع الدبس كان العمل الاهم في البيوت بعد موسم الصرام.. القدور وصواني الصفر كانت تبدو ازلية بعمر المدينة الموغل في القدم توارثها وتعاقب عليها الاجيال.

لم يكن من الضرورة امتلاك الجميع عدة صناعة الدبس كاملة بل بيت واحد في المحلة او الزقاق كان يكفي لاستخدام الجميع.. كان الاطفال يعيشون في جو من العمل والمرح والتعاون بدأ من التقاط التمر في البستان ونقله الى البيت وحمل قدور الصفر الثقيلة لبيوت الجيران.

مع دفء وحنين ادعية نساء المحلة بالعافية والقوة والنجاح. وهي دورة الزمن تقويم مندلي النخلة والتمر والدبس وقدور الصفر والازيرة الفخارية في ركن الدار، لكن مع الحرب توقف الزمن واسدل الستار على الحياة.

لم يكن لأبناء المدينة رأي في قرار الحرب. انها الحرب بدلت المرح والغبطة وشغف الحياة بالخوف والحذر وحبس الانفاس!

لقد شاخ ابناء مندلي وهرموا في الغربة ولم يبق لهم سوى الذكريات.أحدهم كان يعيش مع اولاده في الغربة بعيدا عن مندلي. رجل بشيبة ووقار يعيش مع حزن دفين كلما تذكر مندلي وطقوس مواسمها.

لم يسمع أحد له صوتا كان هادئا يقضي ما تبقى له من العمر بالعبادات، لكن الذي كان يعكر مزاجه كلما سمع الصوت العالي للرجل الذي يشتري العتيگ (عتيگ للبيع).

ذلك اليوم الرجل الذي يشتري (العتيگ) كان واقفا بعربته المتهالكة امام البيت. أحد الاولاد كان يحمل قدر النحاس وقد بدا على القدر السواد القاتم كسواد الايام التي مضت بعد الرحيل عن مندلي. لم يُسْتَخدَم القدر منذ زمن بعيد.

ما تبقى من حاجيات مندلي مركونة فوق سطح الدار حاجيات قديمة حملها معه بعد الرحيل تربطه معها ترابط روحي غريب، يحتفظ بها حبا وتعلقا او بلسما للجراح.

جذب القدر من يد ابنه بانفعال لكن قواه الخائرة لم تمكنه من حمل القدر كسابق عهده.

بيدٍ مرتبكة واصابع ترتجف لمس أطراف القدر بحنان وكأنه يريد ان يتسلل الى الماضي رغما عن السنين التي مرت بعيدا عن مندلي بالأوجاعوالشجون والاحزانيعود صبيا يحمل القدر مع رفاقه ايام موسم الدبس من بيتهم لبيوت الجيران،

انه الارث الثمين والذكرى الجميلة لزمن صار (عتيگا). وكأنه والقدر كلاهما يواسي الآخر بصوت متعب وبنبرة حزن او توسل ورجاء:

ابني لا تبيعه

لاءات كثيرة لأبناء جيله صمدت، اللاء الوحيدة التي لم تصمد هي لا لحركة الزمن السريعة. انه الحنين للطفولة البريئة، لبساطة الحياة او للأحلام التي طوتها دفاتر الايام، او انه الخوف من سرعة حركة الزمننحو الفناء…

2

قد يعجبك ايضا