الباحث: فائق محمد حسين
يقف اللغوي والعلامة البارز توفيق وهبـي بك بن معروف بن محمد في مقدمة القلة النادرة من العراقيين الذين جمعوا بين الوظيفة العسكرية والعمل السياسي ومزاولة الكتابة الادبية والتبحر في عالم اللغة والبحث.
ولد توفيق وهبـي بمدينة السليمانية في اول يوم من ايام السنة الجديدة (1891م-1309هـ) واعتبرت اسرته الموسورة قدومه بادرة خير وتفاءلت به. فهيأت له كل متطلبات الحياة. وراح الاب يفتخر بمولوده ويقسم بجعله خير الابناء واعلاهم شأنا ومنزلة، إلا ان الحظ لم يحالفه ليرى حلمه وامله وقد تحققا، اذ مات وتوفيق لم يبلغ الرابعة بعد، ونذرت الام نفسها لتربية اليتيم والسعي لبلوغ ما اراد له الاب الراحل، فتعهدته وابوها شيخ حكماء الكورد، رسول مستي أفندي أحد أبرز علماء عصره.
وبعد ان تعلم الصبـي القراءة والكتابة ظهرت ميوله نحو البحث والتحري والمطالعة فمضت به امه الى بغداد وهو ابن الحادية عشرة! وادخلته” المدرسة الاعدادية العسكرية” التي أسسها السلطان عبد الحميد الثاني لأبناء الذوات والضباط الاتراك فقضى بها أربع سنوات وتخرج في(1908) ونظرا لمرتبته المميزة ارسل الى استانبول ليلتحق بكلية الأركان، حيث قررت الاسرة زجه في الميدان العسكري وترقبت عودته يحمل رتبة عالية ونجمات ذهبية الا ان اشتراكه في حرب الالبان ومن ثم في حرب البلقان وسفره الى طرابلس الغرب في بعثة خاصة واشتراكه في الحرب العالمية الاولى ضمن الفرقة الثالثة والخمسين التركية الشهيرة حالت دون تخرجه مبكرا ونيل شهادة ضابط الا سنة (1918) .
ولقد لفت اليه الانظار لولعه في قراءة الكتب ورغبته الدائمة في التأليف، ففي (1911) اصدر اول كتبه” الرشاشات” وهو لم يزل طالبا في الكلية وكتب عدة مقالات لغوية، كما اظهر ولعا كبيرا في تعلم اللغة الإنكليزية والهندية من الطلبة والجنود والضباط الذين التقاهم وعاش معهم، عين في فلسطين عقب تخرجه، ونظراً لخبرته وللإداء المتميز منحه الالمان وسام الصليب الحديدي وبعد عام منح رتبة ( يوزباشي- رائد) وتوقع له الكثيرون مستقبلاً مبهراً في العسكرية الا انه فضل ترك الخدمة في الجيش التركي والعودة الى الوطن، حيث عين ” قائمقام قضاء رانية” فوجد الفرصة متاحة له لإشباع فهمة في القراءة والاطلاع على الكتب الادبية والتراثية ومتابعة اهتمامه باللغات القديمة، فانكب على دراسة اللغة الهندية والآرية القديمة والإنكليزية دراسة جادة، اضافة الى اهتمامه الشديد باللغة الكوردية، حتى عد من اوائل المعنيين بها، دراستها والبحث في اصولها.
عند تأسيس الجيش العراقي (1921) انضم توفيق وهبـي اليه، وعين في شعبة الحركات، فأتيح له المجال لترجمة بعض كراسات التدريب العسكري من اللغتين التركية والإنكليزية ونظرا لأهميتها فر بها ملتحقا بثورة الشيخ محمود الحفيد، الذي اسس حكومة سرعان ما انهارت ولم تتمكن قواته من الاستفادة مما جلبه توفيق وهبـي كثيرا. والذي اعتقل بعدئذ فاستغل فترة السجن والفترة التي اعقبتها لمواصلة اهتمامه بالأدب الكوردي والكتب الموروثة وبقصصها ومغامراتها ومعاركها، متأثرا لدرجة كبيرة بأشهر الشعراء القدماء احمدي خاني والملا الجزيري وبالمعاصرين له كالحاج توفيق ثيرة ميرد ورمزي معروف وطوارن والشيخ سلام مترجم رباعيات الخيام الى الكوردية.
وباعتبار اللغة مظهر حياة الامة ولابد لأبنائها من ان ينقوا لغتهم ويهذبوها، ليشعروا بقوميتهم وكرامتهم، عنى توفيق وهبـي كثيرا بشؤون اللغة والجغرافية الكوردية وواصل التدقيق والكتابة في تلك المواضيع وكتابة المقالات في الصحف العراقية، ومن ثم الإنكليزية فيما بعد.
في (1923) اعيد الى الخدمة في الجيش العراقي كآمر لدائرة التدريب العسكري، وكلفته وزارة المعارف بتدوين اللغة الكوردية لفرض تدريسها في المدارس العراقية، وعندما باشر العمل وجد ان الحروف العربية لا تقوم بالمهمة المطلوبة ولا تؤدي الاصوات والحركات الكوردية، وبعد دراسة مستفيضة وبالاستعانة ببعض المهتمين ابتكر رموزا خاصة للوحدات الصوتية التي لا نظير لها في الحروف العربية، غير ان وزارة المعارف لم تأخذ بها، وضاعت جهوده ادراج الرياح وابتداء من سنة (1924) اخذ ينشر مقالات في مجلة” دياري كردستان” البغدادية، بعنوان “كيف نكتب لغتنا الكوردية، ولم يتوقف عنها حتى بعد ان اصبح مدير الحركات العسكرية في(1925) ثم آمراً للكلية العسكرية، التي باغت فيها المسؤولين بخطوته غير المسبوقة، اذ أقدم على اصدار امره بتدريس اللغة الفارسية للطلاب اضافة الى العربية الانكليزية ، للضرورة الملحة،
في سنة (1929) انجز توفيق وهبـي تدوين” قواعد اللغة الكوردية” وفي السنة ذاتها اوفد الى انكلترا في بعثة عسكرية، والتحق بدورة الضباط الاقدمين بإعلانه ترك الخدمة في الجيش في كانون الثاني (1931) بمناسبة بلوغه الاربعين، فعين متصرفا للواء السليمانية وما هي الا أشهر حتى تم القبض عليه واحيل للقضاء بتهمة الاخلال بسلامة الدولة ومساندته لحملة تقديم عرائض وطلبات وقعها بقبول العراق عضوا في العصبة الدولية تدعوها لصيانة حقوق الاقليات قبل الاقرار بقبول العراق عضوا في العصبة الدولية.
بعد أطلق سراحه تفرغ توفيق وهبـي كليا لأعماله الادبية والفكرية فنشر سنة (1933) رسالة مطولة بعنوان” القراءة الحديثة” بشأن استعمال الحروف اللاتينية في الكتابة الكوردية،
كما نشر كتابه الجديد” اللغة الكوردية بالحروف اللاتينية، وعرف حينها بولعه الشديد بجمع الكتب واقتناء المخطوطات منها، وكان يسعى للحصول على الكتب الجديدة الصادرة في دول الجوار والتي تدور او تبحث في اللغات او التراث سواء كانت اللغة العربية او الكوردية او الفارسية او الإنكليزية، لذلك وفي خلال سنوات قليلة تكونت لديه مكتبة عامرة، غدت مضرب الأمثال ومحط الانظار في منطقته،
ومثلما اشتهر بجمع الكتب ذاعت شهرته كجامع للتحف النفيسة والنادرة والصور والتماثيل وقطع الاسلحة القديمة.
في سنة (1936) اعيد توفيق وهبـي الى الوظيفة، وتقلب في مناصب حكومية عديدة، منها مدير الاشغال العامة ومدير المساحة العام حتى(سنة 1941) اذ تفرغ بعدها الى اعمال البحث الادبي واللغوي، وفي سنة(1942) نشر” المعجم الكوردي العربي” ضم نحو الفي كلمة من المفردات الكوردية التي استنبطها، وكاد يمضي في تفرغه لولا السياسة، حيث اجتذبته الانتخابات في(1944) وأصبح نائباً عن الموصل، وفي السنة ذاتها اختير ليكون وزير الاقتصاد في حكومة حمدي الباجه جي التي دامت سنتين، ثم اختاره صالح جبر في(1947) ليكون وزير المعارف لمدة سنة واحدة، وذلك بعد اشهر من انتخابه نائبا عن السليمانية.
ونظر لجهوده الفكرية والادبية انتخب توفيق وهبـي عضوا بالمجمع العلمي العراقي عند انشائه، ورشح لمنصب نائب الرئيس في(1948) وانتدب عضوا بمجلس الاعيان، فنشر آنذاك كتابه” المنحوتات الصخرية في الكهف كوندوك- 1949″ و ” القصد والاستطراد في اصول معنى بغداد-1950″ وعلى اثرها تقلد منصب وزارة الشؤون الاجتماعية في وزارة توفيق السويدي ثم رئيساً لمجلس التعليم العالي بوزارة المعارف (1951) وبعد أشهر استقال ليحتفظ بعضوية مجلس الأعيان، حيث ساهم في تأسيس حزب الامة الاشتراكي وعين نائبا لرئيسه صالح جبر، وانتخب نائبا لرئاسة مجلس الاعيان في (55-56) وحين انتهت مدة عضويته وجد نفسه مدفوعا للابتعاد عن العمل السياسي والتفرغ نهائيا لأعماله الادبية، فرحل الى بيروت ليشرف على سبك حروف خاصة نشر بها البابين الاول والثاني من كتابه” قواعد اللغة الكوردية وهناك اصدر” التون كوبري” و”دروب السياسة” و ” بهرام كود” واربعة كتب اخرى، نالت جميعها التقدير والاعجاب.
في (1957) نشط في اذكاء الروح الادبية وتعزيز الروابط الاجتماعية بين المثقفين، فمع غزارة مقالاته ودقتها وانهماكه في اصدار اعداد جديدة من كتبه اللغوية دعا الى تأسيس جمعية ثقافية، تساهم في تدعيم النهضة الادبية في العراق. فأسس بالتعاون مع ابراهيم الواعظ والدكتور مصطفى جواد والأديب عبد المجيد القصاب وصفاء خلوصي وفؤاد جميل وكوركيس عواد وجعفر الخليلي وفؤاد عباس “جمعية التأليف والترجمة والنشر”، واختير توفيق وهبـي رئيساً لها وابراهيم الواعظ نائبا للرئيس، وفي اول اجتماع لأعضاء الجمعية تقرر اصدار مجلة ” الكتاب” وهكذا صدر العدد الاول منها في حزيران 1958، والعدد الثاني في بداية تموز، وبعد ايام من صدوره سافر توفيق وهبـي الى لندن وذلك قبيل يومين من قيام ثوة 14 تموز. فانحلت الجمعية واختفت مجلتها على إثر تشكيل اتحاد الكتاب وعدم عودة توفيق وهبـي الى الوطن!
اقام توفيق وهبـي في لندن مبتعدا عن السياسة ومنصرفا الى التحقيق والتأليف، فنشر باللغة الإنكليزية كتابه” اليزيدية 1962 و “دراسات كوردية وكتب دراسات عن الاديان والاساطير القديمة لا سيما الايرانية وعن الصابئة والصوفية، وبالتعاون مع صديقه ” الميجر ادموندس” مستشار وزارة الداخلية العراقية االسابق والمعروف بتبحره في اللغة الكوردية صنف” القاموس الكوردي الإنجليزي” سنة 1966.
ظل توفيق وهبـي على صلة دائمة بالصحافة والمنتديات الثقافية في الوطن، وتابع كتابة المقالات في حقل اللغة والفكر، وفي 1971 اختير عضوا فخريا في المجمع العلمي الكوردي الذي اسس حديثا في بغداد، وعندئذ قرر اهداء مكتبته ومخطوطاته الى المجمع، ليستفيد منها أوسع عدد ممكن من المهتمين،
توفي في لندن بـ ” 1404هـ- 1984م” ونقل جثمانه الى بغداد، ودفن حسب وصيته في مدينته الجميلة السليمانية.