الأديب: سالم بخشي المندلاوي
((ما من يوم يشبه الآخر، كل صباح يحمل معجزته الخاصة، ولحظته السحرية..)) ص5. بهذا الاستهلال الوجودي الجميل، للكاتب القدير باولو كويلو، يبتدأ الكاتب ثائر إبراهيم البياتي، وبأقدام ثابتة، وإمكانية نادرة، رحلته القصصية الأولى (ولادتان) الصادرة عن مكتبة فضاءات الفن للطباعة والنشر للعام 2022.
وأول محطات هذه الرحلة الآسرة (بين صيف وشتاء) وبلغة الحوار الذاتي (المنلوج) وبطريقة أقرب إلى السيرة الذاتية، يكشف عن الجانب العميق من مشاعره الإنسانية المرهفة، من خلال استذكار حبيبته الأثيرة، المخلوقة من حليب وعسل، كما وصفها، وهي تظهر فجأة من بيتها الذي ((برز من باطن الأرض تواً، أو هبط من السماء في هذه اللحظة..)) ص 8.
بعد قصة حب عارمة مع فتاته الساحرة التي استمرت طوال الصيف، ودخلت مطلع الشتاء، شرع في تتويج حلمه الكبير، والارتباط بها، إلا أنها اختفت فجأة، كما ظهرت، وتلاشت، كحلم صيفي بهيج! وعلم فيما بعد أنها تزوجت..
لم يعدم الأمل حتى الآن، ولا زال يخط دروب منطقة المشتل كل يوم، على الرغم من مرور السنين الطوال، يحلم بلقاء جديد ((باحثاً ليل نهار عن بيت يظهر فجأة أمامي، وتخرج منه فتاة من حليب وعسل..)) ص 9.
أجمل ما في هذه القصة، حالة الشك الذي يضعنا فيها القاص ببراعة سردية لافتة. الشك في أن فتاة الحليب والعسل، مخلوقة حقيقية، أم نسج من خياله الواسع، لا سيما أنه يكرر تجارب قريبة في قصص لاحقة من مجموعته، على سبيل المثال قصة (شذا) ص 15. ((قالت: لا بد أن أسرع؛ فزوجي وأولادي ينتظرونني على الغذاء. مددت يدي، أريد أن ألمسها؛ لأتأكد من أنها الحقيقة ولست في حلم، لكنها تركت عطرها في صدري، واختفت وسط الزحام..)) ص 17.
إن تمكن الكاتب في ايصالنا إلى منطقة يتشاكل فيها الواقع والخيال، والاستحواذ على فضولنا، ودفعنا لمتابعة حثيثة في محاولة لاستعادة وفرز الواقع عما يحيطها من وهم الخيال، يعتبر نجاحًا سرديًا باهرًا، ويدل على إمكانية غير عادية قد وظفها القاص ثائر البياتي في محاولته القصصية الموفقة.
بخلاف أحداث القصة الأولى، وما فيها من سرد وجداني شفيف، نجد في قصته التالية (زقاق الكالبتوس) ص 11. نموذجًا مغايرًا تمامًا على مستوى الأحداث والشخصية الرئيسة فيها؛ فيقدم لنا شخصية مريضة، فاشلة اجتماعيًا تعاني الإهمال بسبب تأتأة لسانية؛ جعلت فتيات المنطقة، يعرضنّ عن مصاحبته، كحال أقرانه من صبيان الحي؛ ما يتسبب لاحقًا -وعند تفاقم الحقد- بإقدامه على حرق أشجار الكالبتوس العتيدة الممتدة على جانبي زقاقهم العريض التي ((تظلل الزقاق والبيوت، وتضج بزقزقات العصافير، وهديل الحمامات، كانت ملاذًا طيبًا ساعات القيظ، وملاذًا شاعريًا ساعات المطر… كان العشاق يلوذون خلف جذوعها، أو تحت ظلالها الوارفة، وينقشون أسماهم..)) ص 11.
يقوم بالحرق مرارًا من دون أن يكتشفه أحد؛ ما يؤدي إلى خراب الزقاق. لكنه في النهاية يشعر بالندم، عندما يقرر أهالي الحي، قطع بقية الأشجار، والتخلص من كابوس الحرائق المستمرة؛ ويحاول إرجاعهم عن قرارهم عبر خطة مفيدة لكنه لا يستطيع التعبير عما يجول في صدره؛ بسبب التأتأة التي تتفاقم عنده، وتستمر عملية قطع الأشجار وإزالتها من الحي حتى النهاية ((خلال أيام خلا زقاقنا من أشجار الكالبتوس، فلا عشاق، ولا كركرات أطفال، ولا هديل حمامات، وما من طريقة لإعادة العصافير والبهجة..)) ص 14.
في الوقت الذي يدين الكاتب عبر قصته الانسان المريض، وماذا يمكن أن يصنع من خراب في منطقته؛ بدافع الحقد المتفاقم والتنفيس عما يجول في صدره من غل وحسد للآخرين، فهو يدين أيضًا المجتمع الجاهل البعيد عن معاناتهم وآلامهم النفسية، وفي النهاية الجميع يخسر وينال قسطًا من الألم والخراب.
وهكذا في بقية القصص، يقدم لنا السارد الناجح ثائر البياتي، ألوانًا عديدة من الثيمات، والأفكار، والأحداث، والشخصيات الغنية بالمشاعر، والأحاسيس الجياشة؛ ما يبشر بولادة إبداعية جديدة، عبر كتابه القصصي (ولادتان) وهو يطرق عالم السرد الساحر، بكل قوة، وثقة.