منارات عراقية … داخل حسن .. اصالة تراثنا الغنائي وروحه الحزين

حسين الهلالي

ان كان ما تحدثنا عنه من مدارس الغناء في مدينة الشطرة وسوق الشيوخ ورواد الغناء كان موروثا غنائيا كبيرا اتكأ عليه داخل حسن وانطلق منه، هذا الموروث الذي امتاز بالخلق والابداع قدمته التجمعات في مدا رسها الغنائية ؛وجاء من المعاناة والتفكير العميق بكل ما احاط بالإنسان في الجنوب من كوارث طبيعية وممارسات خاطئة من قبل العهود الماضية والتي سادت المجتمع آنذاك فابتداء من الحس بالعسف الاجتماعي والقهر والظلم السائد في العهد العثماني الى الاحتلال الإنكليزي والسيطرة الاقطاعية وما رافق تلك الحقية من ظلم وقهر اجتماعي وتقاتل بين القبائل ، برز هذا الموروث الغنائي الكبير وهو موروث اجتماعي جاء على شكل أهات مطولة وبحة مكبوتة وعدم رضا مبطن واحتجاج على الحق دامي يصل حد التمزق .

 

 

كل هذا شاهده داخل حسن وسمعه من افواه الرواد الذين سبقوه وتعامل معه بذكاء ومراقبه شديدة لهؤلاء المغنين وقد طبقه ضمن مراحل مر بها وليس كما ادعى الغير متعمقين بدراسة اصالة تراثنا الغنائي مع ان هذا الغناء ساقته الفطرة. كيف؟! وأين؟ ولماذا؟ هذا ما لا يجيبون عنه بشكل مقنع وواضح.

وكان مؤسسو الغناء ورواده يضعون ميزان وخصائص ويجرون تدريبات على الصوت والاداء والاسلوب وبعد اجتياز المغني هذه الاختيارات يمكن ان يسمح له بالغناء في مجالسهم الخاصة وفي الاعياد والمناسبات مثل الاعراس والختان ومن حق الجمهور ان يرفضه او يقبله وقد جاءت (البحة) من الخصائص والميزات التي تهتم بها هذه المدارس وخاصه المدرسة الغنائية في ريف الشطرة (التكسيرات) في الصوت النقي والقوي، (والبحة) مهمه عندهم اذ تشكل في صوت المغني الحنان والشجن والجذب وخاصة عند النساء لأنها تعبر عن الحزن المستديم عندهن وخاصة في الريف وتتكرر هذه البحة في بعض اصواتهن في النواح والبكاء على فقد عزيز عليهن او فراق الاهل او في غربتهن وممارسة الاضطهاد عليهن من قبل الرجل ويتم ذلك عندما يختلين مع انفسهن قرب صديقتهن (الرحى) التي تكون محببة لهن خاصة في الهزيع من الليل.

كان هذا في الماضي، وكثير من المغنين سمعوا هذه المرأة والبعض ذهب الى اكثر من ذلك حيث سلك طريقتها في الغناء مثل رائد الغناء والشاعر مطشر شليج (أبو عنيدة) وداخل حسن سمع تلك النساء أيضا وسمع البحة عندهن وعلى العموم أصبحت (البحه) شيئا مفضل عند محبي الغناء ورواده كما قلنا . وضمن رخامة صوت داخل حسن استخدمها وحلت بشكل طبيعي واصبح يؤديها دون عناء في المفاصل الأدائية التي يجدها تؤثر في المستمع لآنها جزء من تكوين صوته، اما المساحة الصوتية الكبيرة في صوت داخل حسن ساعدته على المرونة الكاملة في التصرف في النغم او الطور دون ان توقعه في النشاز والقصور عن ا تمام النغم او المفردة الشعرية التي يعتني بإخراجها غنائيا ويقدمها بنغمة جميلة تترجم احساس الشاعر واحساس المستمع معا.

هذا ما حصل عليه داخل حسن من كل مدارس الغناء في الشطرة ومجالسها الغنائية ومن عموم الغناء في الجنوب وخاصه استاذه محبوب الذي رافقه في رحلته الطويلة وهناك عادات وتقاليد ورثها ساعدته في ارتقاء قمة الغناء.. منها التمسك بزيه الشعبي الكامل الذي ورثه من المغنين الاوائل الذين يغنون بكامل قيافتهم خاصة وضع العقال والكوفية وكان الكثير لا يبدي حركات زائده اثناء غنائه مما تضيف للمغني وقارا واحتراما وهي من تقاليد الجلسات الخاصة الغنائية.

وهناك (مسك المسبحة) التي تقضي التقاليد بإعطائها الى المغني تكريما له وأيدانا ببدء وصلته الغنائية فيبدأ المغني بتقليب المسبحة بين يديه ويقول بعض المغنين انها تساعد على تصعيد الهم الغنائي الداخلي والارتكاز عليها في اداء الغناء جملة جملة وهي حالة نفسية عند بعض المغنين ولكن أصبحت تقليدا فلكلوريا وجميلا وخاصة عند داخل حسن والذي باتت تميزه عن الاخرين .

لقد مر داخل حسن خلال مسيرته الفنية بمراحل عديدة وبيانات اثرت في حياته وكونت منه مطربا لا يجارى واميرا للطرب الى اخر ايامه وهذه البيئات هي:

البيئة الاولى: بيئة رعي الابقار لأهله وهو ابن الثامنة، لقد تأثر داخل حسن بهذه البيئة الريفية مثل زميله حضيري ابو عزيز. لقد سمع الطور الشطراوي الجديد من جماعة المدرسة الغنائية الريفيه في الشطرة عندما انتشر في القرى المحيطة بهذه القرية التي ولد فيها الطور الشطراوي ومن هذه القرى القرية التي يسكنها داخل حسن (قرية دار الشط) من قرى مدينة الشطرة سمع اداء الرعاة لهذا الطور وسمع المسافرين الراجلين والسائرين من القرية الى المدينة وبالعكس وهم يغنون هذا الغناء لقطع المسافات الطويلة وطرد السأم خلال السير وهذه البيئة مكنا طبيعيا مفتوحا لتدريب أي شاب يمتلك صوت ويريد ان يجرب صوته وحضه في الغناء وكم مره كان داخل حسن يستوقف المغنين ليسألهم عن هذا الغناء .

 

 

 

 

ان هذه البيئة نستطيع ان نسميها مرحلة التدريب والاستعداد على تدريب الصوت والسيطرة عليه.

المرحلة الثانية: البيئة التي اخذ يتردد عليها داخل حسن وعمره اثنتا عشر سنه وهي القرية المجاورة للشطرة قرية (السادة العبد الصاحب) والتي كان يسكنها محبوب العبد واخوه نيتي كانت هذه القرية تعج بالغناء ليل ونهار بواسطة محبوب وكان داخل يحضر هذا الغناء وكذلك حضيري ابو عزيز قاصدا اليها من قرية الصراخب القرية لها وعندما بلغ داخل حسن سن الرشد اخذ يرافق محبوب الى مدينة الشطرة ويراقبه مراقبة دقيقة عندما يغني في الحفلات وكيف يؤدي الغناء بدءا من تحرير الطور الى الذروة ثم التسليم ولاحظ تأثير محبوب في كل جمله غنائية وكيف كان يعطي لكل بيت أبوذية صورة خاصة تخاطب عقل الجمهور ووجدانه بذلك كان يترجم احاسيس الجمهور ويكسبه الى جانبه والى قائل البيت ولاحظ صوت محبوب القوي الذي يسطر به على اسماع المتفرجين ويوصله بكل دقه وعذوبة وسهوله اليهم، واطلع على السكتات التي كان يفعلها محبوب وأخيرا اطلع على البستة وكيف يؤديها بلحن جميل يدغدغ المشاعر ويؤجج حماس المتفرجين كل هذا كان داخل حسن يستلهمه بوعي كامل .

المرحلة الثالثة: بيئة اصلاح السفن في الشطرة والمدن الاخرى هذه البيئة من أخصب البيئات التي مر بها داخل حسن وابرزته كمغني تعرف عليه الجمهور لقد كان يعمل في اصلاح السفن في الشطرة وصديقه المغني المشهور في هذا الجو قرب النهر كان داخل وكاطع يعملان داخل الخيمة التي وضعها على الزورق ولا تسمع منهما الا التناوب في الغناء وكم مرة تجمع المار قريبا منهما لسماع هذا الغناء الساحر الجميل الذي تتخلله البستات الجميلة والتي تتوافق مع ضربات مطرقة (الكلفات) وكان لتجمع النساء على ضفاف النهر (بحجة) غسل الاواني وجلب الماء، له حيز كبير في احتفالية العمل هذه، لكلا الرجلين بحة صوته تجمل غنائه وتزيده عذوبة .

لقد استمر في إصلاح السفن في الناصرية وفي سوق الشيوخ وفي القلعة والرفاعي ثم يعود الى مدينته الشطرة الام واستدام هذا الوفاق الى اواخر العشرينات بعدها ودع داخل صديقه كاطع المغني لينخرط في سلك الشرطة سنة 1927 لكن كاطع بقى عشقه الى الزورق صميما واصبح الزورق جزء منه عندما تحوله من اصلاح السفن الى نقل المسافرين بزورقه من الشطرة الى الدواية عن طريق (الهور) الذي كان يغمر هذه المنطقة آنذاك.

المرحلة الرابعة: الانطلاق نحو المجد والتربع على عرش الغناء الريفي كمطرب رائد كبير يمتلك اسلوب في الغناء متفردا وأصبح مدرسه لكل الذين يريدون معرفة الاصالة والغناء الريفي على أصوله الصحيحة.

 

 

لقد مهدت له الاحتفالات التي كان يغني فيها مع حضري ابو عزيز والتي تقيمها مديرية الشرطة مهدت الطريق للصعود، فها هي شركات التسجيل تهرع أليه لتسجيل أغانيه فنجد شركة نعيم في عام 1934 سجلت له عدد من الاسطوانات، وعند افتتاح دار ألاذعه العراقية في عام 1936 نراه يسارع ويدخل دار الإذاعة وخصصت له الإذاعة يوما عدد من الاسطوانات شركة (سودا) للأسطوانات وشركة (كولمبيا) عام 1945 وشركة (جقمامجي) عام 1956 وقد بلغ رصيده من الاغاني. (137).

التقى داخل مع كوكب الشرق في حلب اثناء تسجيل الاسطوانات واعجبت بصوته كثيرا ودعته الى القاهرة ليغني هناك ومن صفاته انه سريع البديهية قال لها (يا ست الله ايخليج انه في بغداد كو امدرج لهجتي بالله تريديني اغني بالقاهرة اشلون ادبره وياهم) فضحكت ام كلثوم وقدمت له هدية عبارة عن قطعة الملابس الى زوجته العلوية ومعها شال احتفظت به الى ان توفيت. وفي عام 1948 يشارك داخل حسن في التظاهرة التي تندد بتقسيم فلسطين ويرفعه

الجمهور ليغني اغنيته المشهورة (انا العربي تعرفوني) وعلى اثر ذلك فصل من دار الاذاعة وبعد ثلاثة اشهر يتوسط له محبو غنائه ويخرج من السجن ويعاد الى دار الإذاعة وفي عام 1978 يحال الى التقاعد ويرجع الى الناصرية التي تحوله اليها من الشطرة لكنه بقى علما من اعلام الغناء العراقي الاصيل في العراق وفي الاقطار العربية الذي اصبح بها سفير الاغنية العراقية.

عام 1902 كانت ولادته في قرى مدينة الشطره وفي عام 1985 ودع الدنيا بعد اخر لقاء له وجها لوجه مع ابناء مدينة الناصرية…

قد يعجبك ايضا