صادق الازرقي
تبذل الدول والحكومات جهودا حثيثة لتحسين بيئتها وتحقيق الازدهار المعيشي النظيف لسكانها، فذلك هو المقياس الحقيقي للنجاح والتقدم، وليست القضايا السياسية بحد ذاتها.
وبحسب المراقبين وهواة السفر، اشتهرت سنغافورة على مستوى العالم بطرقها المرصوفة بإتقان ومتنزهاتها العامة المشذبة بعناية، وشوارعها النظيفة الخالية من القمامة، ووصفتها جريدة نيويورك تايمز بأنها مكان “شديد النظافة إلى درجة أن العلكة فيه تعد من المواد الخاضعة للرقابة”.
لكن الحرص على النظافة ليس بدافع الحفاظ على المظهر المثالي فحسب، ففي هذا البلد الذي لم يجري تأسيسه إلا عام 1965، أصبحت النظافة مرادفا للنهضة الاجتماعية والنمو الاقتصادي غير المسبوق، وأخيرا، التعاون في احتواء فيروس كورونا، بحسب المراقبين.
يقول مسافرون، انه في كل مرة نخطو خارج الطائرة، توقظ حواسنا برودة مكيفات الهواء وعبير زهور الأوركيد الذي يفوح من معطرات الجو المنتشرة في أرجاء المطار في الطريق إلى نقطة مراقبة الجوازات، تستنشق هواء معطرا وترى جدرانا خضر أنيقة شديدة النظافة ونوافير مياه منسقة، وفرق عمال نظافة، من البشر وأجهزة الروبوت، ودورات مياه متطورة مزودة بشاشات تفاعلية لإبداء التعليقات.
ويقول دونالد لو، الأكاديمي السنغافوري والباحث في السياسة العامة “إن الحكومة السنغافورية تحرص دائما على ترسيخ هذه الصورة المثالية الناصعة للبلاد، وكانت النظافة في البداية تحمل معنيين، النظافة المادية، بمعنى نظافة البيئة، ونظافة يد الحكومة والمجتمع؛ أي عدم التهاون مع الفساد”.
وبعد انفصالها عن ماليزيا في عام 1965، وضع رئيس الوزراء السنغافوري آنذاك لي كوان يو، أهدافا طموحة لتحويل بلاده إلى “واحة متقدمة وسط منطقة من الدول النامية”.
وكان تحقيق النظافة المثالية في البلاد يستوجب اتخاذ خطوات جادة، مثل تطوير أنظمة صرف صحي عالية الجودة، ووضع برامج لمكافحة حمى الضنك والأمراض، وتنظيف نهر سنغافورة شديد التلوث على مدى عشر سنوات، وزرع الأشجار في جميع أنحاء الجزيرة، وجمع بائعي الطعام، الذين كانوا منتشرين في جميع شوارع العاصمة سابقا، في أسواق تعلوها الأسقف.
ودشنت الدولة عديد الحملات للمحافظة على النظافة العامة تجتذب اهتمام السكان للمشاركة فيها؛ وأعلن كوان يو بمناسبة تدشين مبادرة “حافظوا على نظافة سنغافورة” عام 1968، التي أصبحت الآن مبادرة سنوية للتخلص من القمامة أن “الحفاظ على نظافة المجتمع يتطلب وعي المواطنين بمسؤولياتهم”. وأثارت كلمات لي كوان يو المشاعر القومية الحديثة بين السنغافوريين، واستنهضت الروح الجماعية في المجتمع الذي رأى أنه لن يتمكن من دونها من تحقيق الأهداف القومية.
ان تفعيل التنمية الحقيقية والمستدامة وتحقيق رفاه السكان وتنقية البيئة من جميع مصادر تلوثها، يتطلب بالضرورة قيادات حكيمة وشخصيات واعية تمتلك يدا نظيفة في ادارة الدولة والمجتمع وتجتث الفساد كما فعل حاكم سنغافورة، فمن دون ذلك، وباستعمال الآليات نفسها التي عفا عليها الزمن وبإدارات غير حكيمة، ولا تشعر بالمسؤولية وغير حريصة على المال العام، نقع في كل مرة بالنفق المظلم ذاته الذي ندور فيه حتى الآن.
لن نخلص مجتمعنا من محنته ولن ننشأ بيئة نظيفة ماديا وبشريا، الا بتمثل النماذج الافضل المختبرة على مستوى العالم، وفي طليعتها انموذج سنغافورة.