جاسم محمد شامار
لم يكن صوت هدير محرك الباص الخشبي (فولفو) هو بداية الزيارة السنوية التي تنطلق من أحد ازقة مندلي. لزيارة الامام گرز الدين جنوب المدينة، بل كان صوت هلاهل النسوة وغناء الاطفال هي اشارة بدأ انطلاق تلك الرحلة والزيارة السنوية والتي تبلغ ذروتها في شهر أيلول من كل عام.
كانت زيارة دينية وسفرة ونزهة في ذات الوقت، وموسم النذور والقرابين وذبح الذبائح التي تنتهي بحفلة شواء.
لا ينقطع الصخب والغناء الا عند الوصول الى نهر الگلال، منحدر مائي على الصخور لأجل ان يعبر الباص النهر. كان على الرجال والشباب ان يترجلوا ولحظات من ترقب كي يعبر الباص ويعود الجميع الى اماكنهم مع الادعية والصلوات..
عند الوصول الى القرية التي فيها الامام گرز الدين في وسط الصحراء. ثمة اعمال تقليدية لكل افراد العائلة يحفظونها عن ظهر قلب فهي زيارة سنوية تتكرر في كل عام.
ثمة فراش للمبيت لليلة او ليلتين او ثلاث. ادوات الشواء واوعية حفظ الماء،
الفاكهة التقليدية عذق من تمر المكتوم من بساتين مندلي..
ستوضع جميعها في الغرف الطينية المخصصة لكل عائلة في احدى البيوت المحيطة بالإمام. ثم تبدأ طقوس الزيارة.
هناك فريق من القصابين لذبح النذور، وبدأ الشواء. جولة في وقت العصر عند نهر الگلال.
في المساء لا ينقطع صوت الموسيقى، المزمار والطبل. ثمة من يحتفل بطريقته مع الموسيقى والدبكات، وجلسات سمر في جو الصحراء في الباحات الواسعة لبيوت الگوام اهالي القرية المحيطة بمرقد الامام.
كانت احدى السيدات المندلاويات، أكثر النساء فرحا هذا الموسم اتت للزيارة مع نذرها هذا العام. أكمل ابنها الدراسة واستلم وظيفة حكومية وهذا راتبه الاول نذرها في هذه الزيارة. وسيكون لديها نذر العام القادم لو تزوج وصار له ولد.
هكذا كانت احلام وامنيات الاباء والامهات بصفاء النفس ونقاوة القلب.
وفي ليلة الزيارة مع نسيم الصحراء البارد كالماء الزلال بعد حر النهار يأتي ممزوجا برائحة البخور والحناء والشواء.
كانت السيدة تعيش ابتهاجا ورضا وتهمس في اذن ابنها كما الايام السابقة عن فرحها القادم لو تتزوج وصار له ابناء. رغم محاولتها في ادخال الحب عن طريق الاذن لقلب عروس المستقبل والدعاء بالقبول.
في تلك الامسية الصحراوية كان سؤالا واحدا من الولد يكفي لحل تلك العقدة،
من تلك الفتاة؟
كانت احدى الفتيات الجميلات تتسامر مع عائلتها في الطرف الاخر من البيت، بيوت اهالي القرية كانت واسعة ومعدة لاستقبال عدد من العوائل في البيت الواحد.
لم تطلب الام تفسيرا للسؤال بدأت خطواتها التي تحضرت لها مسبقا في التعارف والسؤال. في مجتمع محافظ وتقليدي تسوده العلاقات الاجتماعية والالتزام بالقيم والأخلاق، متوارثة من الإباء والاجداد، او الامهات او الجدات. يكون سهلا ان تختار شريكة حياتك دون عناء.
هكذا كن سيدات وفتيات مندلي، جمال وعفاف.
بعد الزيارة تمت بقية مراسيم الخطبة والزواج، وهي قصة مندلاوية اخرى انتهت مع بداية الحرب بمأساة.
في الاشهر اللاحقة بدأت الحرب. كان عليه ان يلتحق كأقرانه بالجيش، لم تمضي شهور باشتراكه في الحرب حتى صار اسمه في عداد مفقودي الحرب!
عاشت الام شعورا أقسى من الموت. الترنح بين الحزن والالم واليأس او بين الرجاء والامل؛ تنتظر من يطرق الباب، او تخرج من البيت لتسأل الجميع من لديه اخبار عن ولدها المفقود.
كان هذا هاجسها في الصحوة والمنام،
وظلت تنتظر ان توفي بنذرها، ومعها الزوجة وقادم جديد، طفل لم يرَ ابيه
لكن الحرب استمرت وطال الانتظار من دون جدوى.
كانت هذه اوراق سيدة مندلاوية مكتوبة بألم وحسرة نرفع الغبار عنها ونقرأها ظلت، كالفارس الذي يحارب حتى اخر رمق، لم تستسلم، ولم يدخل اليأس الى قلبها لكن في سن الثمانين ودعت الحياة …!