سعدي عبد الكريم
قد يحتاج الباحث المُزمعُ على تدوينِ، أو تأصيلِ، أو تتبع سفـر الفنان المبدع (يوسف العاني) الى الكثير من الجهد البحثي الدلائلي التحليلي أو الوصفي أو الاستقرائي، لتجذير مراحل حياته الفنية الغنية وعليه لزاما امتلاك ذلك الخزين المعرفي التواصلي، لتكوين نظرة مختبرية ثاقبة عبر المشاهدة الحقيقية الموثقة لِجُـل منتجه الإبداعي الفني المتنوع، ليكون باستطاعته سبر أغوار رحلة (العاني) الفنية الطويلة ومسيرته الحافلة الزاخرة بالعديد من الاعمال الفنية على مستوى المسرح، والسينما، والتلفزيون، تأليفا واعدادا، وتمثيلا، أو على مستوى النقد الفني، أو في مجال الكتب المطبوعة المختلفة التنوع الفني، وربما لن يحتاج ذات الباحث الى الكثير من العناء، او الجهد، في رسم صورة ابتدائية محلقة عبر زمن إخصاب الفن العراقي، او الجلوس قبالته، لتحليل شخصيته البغدادية الاصلية النادرة.
فحينما يقف الباحث في فسحــة (العاني) الإبداعية، يكتشف بأنه رجل واضح كل الوضوح، بل بسيط كل البساطة، وسفره الفني، سجل ملحمي خالد، يستطيع المتتبع أن يتصفحه في كل الاحايين، بل في كل الأزمنة والامكنة، ليتمتع ويسمو وهو يتواشج بكل تلك الطبائع الشعبية الرائعة، وجل تلك الملامح البغدادية الجميلة الاصيلة، التي ارتسمت على محياه بطمأنينة أخاذة، وربما يحيط به عبر تلك الجدران العبقة، وملامح تلك الأزمنة الفائتة، كل ذلك الأريج والعبق العراقي الجليل المتألق، الذي يفوح من بين ثنايــا (العاني) الوديعة.
ولد الفنان (يوسف العاني) في 1/7/1927 بمحلة بغدادية شعبية قديمة تعرف بـ (سوق حمادة) وسط بغداد ويبدو أنه قد أخذ الكثير من أصول وركائز وأشكال كتاباته المسرحية، من اجواء وملاذات محلته تلك، غير المكترثة البتة بالمتغيرات التي كانت تحيط بها.
(سوق حمادة) تلك المحلة الصاخبة، والآمنة والوديعة، بذات الومضة السريعة لحركة الازمنة، والتواريخ، والتي ما تزال في ظني المؤكد، تخلد في نبض مسمياته القرآنية الدلالية الذهنية، بصورها المنكسرة العتيقة الشفيفة، حيث تلتصق بماهياته الغير مرئيه، وتعيش خالدة في ذاكرة (العاني) وما زالت عالقة في ذهنه المتقد، بملامحها البنائية الطرازية البغدادية المنقرضة، وبوجوه اهلها البغداديين الطيبين النجباء، الذين عاش بينهم وتعلم منهم، وأفاد من عِبرهم الحكائية الملحمية في كتاباته المسرحية، والتي أطلقتُ على عروضها في أحايين متفاوتة بـ(الفرجة البغدادية) والتي أخضعت النص، او الخطاب المسرحي، لتوليفة تدعو للإعجاب، والوقوف امامها باحترام بالغ، وهي تحاول تأصيل الحكاية والبيئة، والشخصية، والميثولوجيا البغدادية، من اجل توثيق المناخ الحكائي الملحمي البغدادي، عبر المنتج المسرحي داخل عمق صيرورة تلك الفرجة التي أسَسَ لها عمليا في عروضه العديدة، فيما بعد.
يُعدُ الفنان (يوسف العاني) أحد أهم أعمدة المسرح العراقي، ومن رواده الأوائل الذين أسسوا اللبنات الاولى في دعائمه الحاضرة في الباحة المسرحية والثقافية العربية، بل وارتقت تلك الدعائم المتألقة أعلى مراتبها على المستوى المعرفي التنظيري والاستقرائي، أو على مستوى المنتج الابداعي في إحالته لـ(العرض المسرحي).
شُغفَ (العاني) منذ بداياته الفنية الأولى بالشخصية البغدادية، وحاول محاكاتها، بل وراح يناغمها ويترجم أحلامها ونوازعها وآلامها الذاتية والجمعية، الى عروض مسرحية تارة، او نصوص مسرحية مكتوبة تارة اخرى، ففي الأعوام من 1946-1950 كتب العديد من النصوص المسرحية حينما كان طالبا في كلية الحقوق/ جامعة بغداد وأسس فرقة مسرحية جامعية أسماها (مجموعة جبر الخواطر) بمعية ثلة من رواد المسرح العراقي وعلى رأسهم الراحل الكبير (ابراهيم جلال) والمبدع الخلاق (سامي عبد الحميد) والراحل الكبير (جعفر السعدي) ولعل من أهم بواكير كتاباته المسرحية وهو ما زال طالبا بكلية الحقوق مسرحية (القمرجيه) من فصل واحد، و مسرحية (مع الحشاشه) و (طبيب يداوي الناس) عام 1948 ومسرحية (محامي زهكان) عام 1949 وتتوالى كتاباته لفن المسرح لتشمل العناوين المختلفة من مسرحية (في مكتب محامي) مرورا بمسرحية (محمي نابليون) ومسرحية (جبر الخواطر قيس) عـام 1950 ومسرحيـة (راس الشليلة) في ذات السنة ومسرحية (تأمر بيك) و مسرحيــة (مو خوش عيشة) عام 1952 ومسرحية (لو بسراجين لو بظلمة) و مسرحية (حرمل وحبة سودة) عام 1954 ومسرحية (فلوس الدوة) و (أكبادنا) و (ست دراهم) ومسرحية (على حساب من) عام 1955 وهذه الاخيرة نشرت في مجلة السينما وقدمت في التلفزيون عام 1960 ومسرحيـة (جحا والحمامة) وهي من طــراز مســـرح (البانتومايم) وقدمت على مسرح (ستانسلافسكي) بموسكو ضمن أطار مهرجان الشبيبة عام 1957 وفي عام 1958 كتب مسرحية (اني امك يا شاكر) والتي قدمت ايضا من على شاشة التلفزيون، وقد شكلت هذه المسرحية انعطافا جديدا في كتابات (العاني) لنمو احداثها، ونضج حبكة الصراع داخل ثيمتها، وانتقـاء شخصياتها المستلهمة من الواقع، وبعدها كتب مسرحيــة (تتزهن) ومسرحيـة (عمر جديد) عام 1959 وبعدها كتب مسرحية (جميل) والتي قدمت من على شاشة التلفزيون تحت اســم (اليطة) عام 1962 وكانت من اخراج الفنان الكبير (خليل شوقي) ثم اعاد اخراجها للتلفزيون ايضا عام 1968 الفنان المبدع (كارلو هارتيون) ، لقد كتب (العاني) اكثر من خمسين مسرحية طويلة وذات فصل واحد عبر مسيرته الفنية، ولعل من ابرزها مسرحية (المصيدة) ومسرحية (الشريعة والخرابة) و ( اهلا بالحياة ) و (صور جديدة) و (نجمة وزعفران) وأعـد عـن (برين سلاف نوشيتس) مسرحية ( حرم صاحب المعالي) وهي من الاعمال المسرحية الذائعة الصيت، والتي لا تغادر الذاكرة المسرحية العراقية الحية.
أسس (العاني) عام 1952 فرقة (مسرح الفن الحديث) مع الفنان الراحل الكبير (ابراهيم جلال) ونخبة من الفنانين العراقيين الرواد ولقد اسهمت هذه الفرقة في رفد المسرح العراقي بجملة من الاعمال المسرحية الرائعة والتي أرخت لحقبة تاريخية متألقة في سجل المسرح العراقي، والتي ستنقشها ذاكرة الباحة المسرحية العراقية، بأحرف من ألق، لتظل زاهية بأبهى صورها المشرقة المضيئة، وكانت هذه العروض محط أنظار الجمهور العراقي بكل شرائحة، فقد توافدوا على مشاهدتها من كل حدب ثقافي، ومن كل صوب شعبيّ، ونخبويّ، حيث عرضت الفرقة اعمال مسرحية مهمة كـ(الشريعة والخرابة) و (اني امك يا شاكـر) و (الخرابة والرهن) و (نفوس) و (خيط البريســم) و (المفتاح) و (الخان) والعديد من العروض المسرحية الرائعة .
مارس (العاني) كتابة النقد الفني في العديد من الصحف والمطبوعات الدورية العراقية والعربية، وكانت له اسهاماته الفاعلة والمؤثره في العديد من المشاركات على مستوى المهرجانات الخارجية، كمهرجان قرطاج المسرحي 1985 ومهرجان المسرح التجريبي في القاهرة عام 1989 ومهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون عام 2001 وانتخب رئيسا لهيئة التحكيم في مهرجان الدراما التلفزيونية في بغداد عام 1988 ورئيسا لهيئة التحكيم في مهرجان التمثيلية التلفزيونية الاول في تونس عام 1981 وانتخب عضوا في لجنة التحكيم بمهرجان الشباب السينمائي بدمشق عام 1972، وكُرم في العديد منها كمهرجان قرطاج المسرحي عام 1987 ومنحهِ بطاقة شرفية من اتحاد الممثلين المحترفين في تونس، وحصل على براءة تقدير من نقابة الفنانين السوريين عام 1979 كما كرمته الفرقة القومية للتمثيل العراقية بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيسها لجهوده الناهضة والمتميزة في تطوير المنتج المسرحي في العراق، وكرمه التلفزيون العراقي بمناسبة مرور عشرين عاما على تأسيسه لجهودة الخلاقة في مجال تطوير الدراما التلفزيونية العراقية .
اما على صعيد المهمة الاصعب (التمثيل) والتي تبدو في اعتقادنا، هي المحور الاساس في انشاء تلك القاعدة الجماهيرية العريضة في الداخل والخارج لهذا المبدع، وربما كانت منهلا ابداعيا خصبا، نهل منـه (العاني) ليرتقي سلم الانتشار، ويحظى بكل ذلك الحب على المستوى الشعبي والفني على حد سواء، فقد مثل (العاني) في العديد من الاعمال المسرحية والتلفزيونية والسينمائية فعلى صعيد المسرح اشترك في بطولة مسرحيــات عديدة لم يكتبها بنفسه ابتداء ًمن مسرحيــة (مسمار جحا) في عام 1952 ومرورا بمسرحية (تموز يقرع الناقوس) و (النخلة والجيران) في عام 1968 و (ولاية وبعير) عام 1971 و(البيك والسائق) عام 1974 التي حققت نجاحا منقطع النظير على المستوى المحلي والعربي ومسرحية (بغداد الازل بين الجد والهزل) و (القربان) عام 1975 و (مجالس التراث) عام 1980 ومسرحيـة (ملا عبود الكرخي) عام 1983 و اخيرا (الانسان الطيب) عام 1985 اخراج الراحل المبدع (عوني كرومي) ، اما في مجال اسهامات (العاني) في المجال السينمائـي فقـد مَثـلَ فـي فيلـــم (سعيد افندي) عام 1958 وكتب القصة والسيناريو والحوار لفيلــم (ابو هيلة) عام 1962 وكان من اخراج المبدع (محمد شكري جميل) وكتب فيلم (وداعا يا لبنان) عام 1966 اخراج (حكمت لبيب) كما ومثل في فيلم المنعطف عام 1975 من اخراج الرائع (جعفر علي) وشارك في فيلم المسالة الكبرى عام 1983 اخراج (محمد شكري جميل) بعدها ساهم في فيلم (اليوم السابع) للمخرج المصري الكبيـر(يوسف شاهين) عام 1986 وشــارك ايضــا في فيلــم (بابل حبيبتي) اخراج الفنان المبدع (فيصل الياسري) .
أما علاقة (العاني) بالشاشة الصغيرة (التلفزيون) فقد اسس لبناء مراحلها المبكرة في نهاية الخمسينات، وفتحت له آفاق الشهرة والانتشار الجماهيري، فقد اعد برنامج (شعبنا) في عام 1959 وشارك في التمثيلة التلفزيونية (ليطة) وكانت من اخراج المبدع الكبير (خليل شوقي) و (ناس من طرفنا) و (سطور على ورقة بيضاء) اخراج الفنان الراحل (ابراهيم عبد الجليل) وكان في راينا في قمة عطاءه واسترخائه وحضوره المميز وتأثيره في المتلقي حينما جسد دور البطولة في السهرة التلفزيونية (رائحة القهوه) للكاتب المبدع الكبير (فاروق محمد) واخراج الفنان المبدع (عماد عبد الهادي) ومثل في (ثابت افندي) و (عبود يغني) و (عزف على العود المنفرد اخراج الراحل) (رشيد شاكر ياسين) و (يوميات محلة) إخراج الفنان المبدع (عمانوئيل رسام) وشارك في مسلسلات (الايام العصيبة ) للمخرج المبدع (صلاح كرم) و(هو والحقيقة) اخراج المبدعة (رجاء كاظم) و(الحضارة الاسلامية) اخراج الفنان (داود الانطاكي) و(الكتاب الازرق) و (الانحراف) وكان اخر ظهور له في التلفزيون في المسلسل التعليمي.
ولو حاولنا استعراض مؤلفات (العاني) المنشورة عن مجمل المنتج الابداعي الفني بكل تصانيفه في المسرح والسينما والنقد، سنجده غزيرا في تنوع اطاريحه فقد نشــر عام 1954 (راس الشليلـه) و(مسرحياتي) بجزئيه الاول والثاني عام 1960 و (بين المسرح والسينما) عام 1967 و(افلام العالم من اجل السلام) عام 1968 ومسرحية (الخرابــة)و (هوليود بلا رتوش) عـــام 1975 و (التجربــة المسرحية معايشة وحكايـات) عام 1979 و(عشر مسرحيـات) عام 1981 و (سيناريـو لم اكتبـه) عـام 1987 و (المسرح بين الحديث والحدث) عام 1990 و ( شخوص في ذاكرتي) التي كتبها عام 2002 .
وسيبقى الفنان الرائد (يوسف العاني) ظاهرة متميزة، فريدة من نوعها، تُصهر في بودقتها الاستثائية جل تصانيف الفنون الجميلة وشتى المعالم المعرفية الثقافية والادبية المتنوعة، بتواشج أخاذ جميل يثلج صدر المعرفة، ويسرُ قلبَ
(الفرجة البغدادية) الجليلة وسيشمــخ (العاني) على الدوام، نخلة عراقية باسقة، متألقة يرفرف فوقها، علم الذاكرة الحية للفن العراقي النبيل الخلاق.