معن حمدان علي
عاشت حلب صلات تجارية وثيقة بالعراق حتى نهاية القرن السابع عشر ميلادي، لكونها من محطات انتقال التجارة من اوروبا الى آسيا وبالعكس، ولتطور وسائل النقل التجاري فقد هذا الطريق الكثير من اهميته، مما دفع بالكثير من العوائل التجارية الحلبية الانتقال الى العراق – الذي بقي محافظا على نشاطه التجاري – والتمركز في مدنه الكبرى مثل بغداد والبصرة.
ومن هذه الاسر التجارية، آل عبود، الذين انتقلوا من حلب الى بغداد (غرة شعبان من سنة 1215 هـ الموافق 6 كانون الاول سنة 1800م). اشتهر من هذه الاسرة الوجيه فتح الله بن نصر الله عبود، الذي استقر في بغداد بعد البصرة، وسكن في محلة رأس القرية قرب جامع الخاصكي، وهو صاحب الخان المعروف باسمه في منطقة تحت التكية، والذي عرف باهتماماته التاريخية والادبية، فقد ذكرت المصادر اهداءه نسخة من مقامات ابن ماري المسيحي الى مكتبة جامع الحيدرخانة، وانتخب عضوا في مجلس ولاية بغداد، ومن جراء خدماته منح رتبة شرفية هي رئيس الحجاب (قبوجي باشي)، توفي سنة 1312 هـ – 1894م.
ومنها اسرة سركيس التي انتقلت الى بغداد في مطلع القرن الثامن عشر ايضا واستقرت بها، رأس هذه الاسرة اكوب جان بن سركيس، الذي تزوج اخت فتح الله عبود وأنجب منها بكره نعمة الله، المعروف بـ (نعوم) المولود في بغداد سنة 1830م.
حياته:
ولد يعقوب سركيس في شهر آب من سنة 1876م. حينما بلغ يعقوب سن التعلم ادخل في مدرسة القديس يوسف للاتين (مدرسة الاباء الكرمليين) ، درس فيها العربية والفرنسية والتركية، ثم عين فيها معلما بعد تخرجه سنة 1892م لغياب المعلم، ولم يمارس التعليم الا احدا وجيزا حيث فضل له والده الحاقه كاتبا لدى بعض البيوت التجارية ليتقن المعاملات والحسابات التجارية، لكنه نجح عام 1893م بوفاة والده، فتعهده عمه بولس سركيس للإشراف على املاك والده، وهي الاراضي الزراعية الواسعة في (المنتفق)، والتي اشتراها والده بعد بيع مدحت باشا تلك الاراضي باسم التفويض، وكانت تقدر نحو 200 الف دونم، بالإضافة الى بستانين في محلة السنك في بغداد حين كانت نهاية بغداد الجنوبية منتهية قرب جسر السنك الحالي او حواليه، وكانت الاول مسجلا باسم يعقوب وشقيقه يوسف، والاخرى مسجلة باسم جوجو (جوزفين) سركيس.
أمضي مؤرخنا اربعين سنة او نحوها، يخرج كل سنة في مواسم الزراعة والحصاد الى انحاء الشطرة والحي وقطعة صالح والناصرية متفقدا املاك الاسرة الزراعية، ابتداء من شهر ايلول سنة 1891م حيث كانت اول سفرة له، وكانت هذه الفترة من حياته قد اغنت تجاربه في الحياة، حيث أصبح على خبرة واسعة بعادات وتقاليد العشائر ورسومها من خلال مشاركتهم في العيش، والمبيت في الخيام والقرى النائية وركوب الخيل، وكثيرا ما كان يعتز بهذه الفترة من حياته، مفتخرا بها معبرا عن ذلك بانه نصف بردي او فلاح.
ورث يعقوب سركيس منذ نعومة اظفاره هواية ملكت حياته بعدها، وهي جمع الوثائق والرسائل والمخطوطات والكتب، كما مر بنا امتلاكه كتاب الافغاني في مراهقته. وقد اشار سركيس الى ما تركه جده لامه فتح الله عبود قائلا: “.. وهذه الاوراق.. كان ينصرف قدرها على نحو عشرين صندوقاً.. وقد حوت اعمالا تجارية متسلسلة التواريخ حتى صدر القرن العشرين، عائدة كلها الى الاسرة المذكورة، وفيها من الكتب المخطوطة وغيرها ما يقدر وجوده، وكان قد اهتم بحفظه الخلف عن السلف، ومن هذه الاوراق ما هو مختص بأحدهم، فتح الله عبود الذي عرفه الكثير من معاصرينا، وكان يعتني بالأوراق المنتقلة اليه اشد الاعتناء منذ حداثة سنه، وقد زادها ما اقتناه بذاته، فكان يدون الوقائع في تقاويمه اليومية كما كان بفعل سلفه، هذا فضلا عما حدثه مفاوضاته التجارية والاهلية م الشؤون الجمة، وكنت ترى عنده الجرائد نفسها عن السنين المتعددة الطويلة مجموعة مجلدة، ومنها الزوراء منذ ابتداء انتشارها ولحسن الحظ كان قد بقي من هذه الاوراق في دار السكنى الصندوق الذي ساقني الى هذا المنال..”.
ثم استبدت به هذه الهواية فجمع خزانة كتب فريدة تضم عدة الاف من النفائس النادرة في شتى اللغات، مع انه يتفق الى جانب لغته العربية، الفرنسية والعثمانية ويحسن الفارسية والانجليزية. وكل تلك المصادر تهم تاريخ العراق من قريب او بعيد، وخصوصا الفترة المحصورة ما بين سقوط الدولة العباسية الى الحرب العالمية الاولى، وهي الفترة التي اختص بها، مثل كتب التاريخ والرحلات والخطط واللغة والادب وغيرها، حتى انه كان يكلف بتعريب الكتب التي طبعت بلغة لا يعرفها من يحسن تلك اللغة، شفاها ان تعذر كتابة. كما حوت مكتبته على مجموعة كبيرة من نوادر المخطوطات التي كان يقتنيها شراء او يطلب استنساخها.
ففي رسالة له يذكر فيها للاب الكرملي انه قابل المؤرخ عباس العزاوي في “مكتبة نعمان الاعظمي، وكانت هناك طائفة من الكتب المطبوعة والمخطوطة قد جلبت من النجف، وكنت قد نظرت فيها قبل مجيئه ولم اعثر على ما يروقني”. وفي رسالة اخرى يطلب من الاب ان “من تريدون ان تطلبوا منه استنساخ كتاب التاريخ ان ينقل لنا ما يجده في اول الكتاب وآخره من اسماء”.
مؤلفاته:
أشرف سركيس على الخمسين حين أصدر الاب الكرملي مجلته لغة العرب سنة 1911م، ولم يعرف عنه انه نشر مقالة او كلمة، ولصلته بالأب الذي شجعه على تدوين معلوماته ونشرها. كتب مقالته الاولى بعنوان (خواطر في المنتفق وديارهم) بتوقيع (منتفقي) فنشرها الاب الكرملي في السنة الثانية من لغة العرب (عدد خزيران 1912)، إلا ان سركيس أغفل نشرها في كتابه مباحث عراقية، والقسم الاول منه بالخصوص لأنه احتوى على مقالاته المنشورة في لغة العرب فقط، مشيراً الى ان بدأ تلاعبت بها.
كانت هذه المقالة فاتحة عهد جديد في حياته، فقد واصل الكتابة بعدها في مجلات عديدة مثل (غرفة تجارة بغداد) و(عالم الغد) و(سومر) و(مجلة المجمع العلمي العراقي) و(النور) البغدادية، و(النجم) و(الجزيرة) الموصلية، و(الاعتدال) و(البيان) النجفية، و(المقتطف) و(المجلة السورية) المصرية، و(القربان) و(الشهباء) الحلبية. وكذلك نشر المقالات في الصحف البغدادية منها (البلاد) و(الزمان) و(العراق) و(الاخبار) و(الشعب) و(الطريق) و(الاوقات)… وغيرها.
“مقالات لم تطرق من قبل، تتسم بالجدة والطرافة وتمتاز بالابتكار والموضوعية، وهو يلقي اضواء كشافة على كثير من الاحداث التي رافقت العراق في فترة الحكم العثماني، والتي كاد غبار النسيان يتراكم عليها، مضافاً الى ما يحويه من الفصول الشيقة التي تجلب المتعة والفائدة في آن واحد، ولا يستغني عن مطالعته عشاق الادب وطلاب العلم ورواد التاريخ. ليعقوب اسلوب في الكتابة امتاز به، وقد اصاب روفائيل بطي كبد الحقيقة حين وصفه بأسلوب العلماء لامتيازه بالمادة الدسمة والمراجع القصبة وبلاغة الحقائق لا الديباجة المشرقة والبيان العذب وفصاحة الكلام”.
وقد صدرت اولا بعض مقالاته مستلة من المجلات وهي:
- تلو او تل هواره. بغداد 1931.
- مقدمة (تذكرة الشعراء او شعراء بغداد وكتابها في ايام وزارة داود باشا والي بغداد – بغداد 1939.
- التتن والقهوة في العراق مع كلام على بعض النقود العثمانية وغيرها – بغداد 1941.
- واردات العراق بين عهدين – بغداد 1941.
- كمرك بغداد في عهد السلطان مراد الرابع وخلفه السلطان ابراهيم من سنة 1049 الى سنة 1056 هـ / 1639 – 1646م – بغداد 1942.
- الاب الكرملي وكتابه النقود العربية وعلم النميات – بغداد 1950.
وبعد الحاح شديد من اصدقائه جمع مقالاته في كتاب سماه (مباحث عراقية، في الجغرافية والتاريخ والاثار وخطط بغداد) فأصدر القسم الاول سنة 1948 بمقدمة الشيخ محمد رضا الشبيبي، ثم أصدر القسم الثاني سنة 1955م وقد قدمه روفائيل بطي، واخيرا وليس آخراً صدر القسم الثالث سنة 1981، وسيكون القسم الرابع مكملا لأغلب ما كتب ان شاء الله تعالى.
نشاطه الثقافي والاجتماعي:
جمع مؤرخنا بين الثقافة والثراء، قل ما تجتمع في شخص واحد، فكان وجها اجتماعيا متميزا، ولذلك نجده عضوا في مختلف الجمعيات والنوادي الثقافية والاجتماعية، ومنها:
1- جمعية الهلال الاحمر العثمانية: اسست الدولة العثمانية ابان الحرب العالمية الاولى (1914 – 1918) هيئة مركزية للجمعية في بغداد، وكان من اعضاء هذه الهيئة المنتخبة من وجوه بغداد وشخصياتها.
2- احتفلت بغداد بالعلامة الكرملي بمناسبة بلوغه الخمسين فالفت لجنة برئاسة الشاعر الزهاوي، من نخبة من ادباء بغداد واعيانها، وكان سركيس عضواً فيها وقد شارك بموضوع (عم سعدون، مغامس المانع والكرملي) والذي خلاصته صلة آل السعدون بالكرمليين قديماً، لصلة ذلك بالحفلة التي اقيمت في دار عبد المحسن السعدون في سنة 1928م.
3- جمعية الهلال الاحمر العراقية: انتخب فيها بتاريخ 31/3/1935 ضمن الهيئة الادارية للجمعية، ثم انتخبته الهيئة مفتشا عاما للجمعية في 5 نيسان 1935.
4- نادي القلم العراقي، اجازت وزارة الداخلية تأسيس هذا النادي سنة 1934، وقد اشارت المادة الثانية من النظام الاساسي للنادي ان غاية النادي هي (تعارف المؤلفين وحملة الاقلام، واحكام الروابط بينهم وتعزيز الادب العربي وتعضيد البحث وايجاد الصلات بين حملة الاقلام في العراق، واقرانهم في البلاد الاخرى). وقررت المادة الثالثة من النظام ان تتوفر في العضو (شخصية ادبية او علمية). وكان مؤرخنا عضوا في النادي سنة 1937.
5- لجنة تسمية شوارع بغداد: الفت (امانة العاصمة) سنة 1936 لجنة من الشخصيات البغدادية المثقفة لغرض تبديل اسماء شوارع بغداد القديمة، وكان سركيس من ضمن اعضاء هذه اللجنة.
6- المجمع العلمي العراقي: انتخب سركيس عضوا فخريا فيه للسنوات 1952 1954.
7- واختير في عدة لجان انسانية منها:
أ- لجنة الاكتتاب العام لمساعدة منكوبي سورية في احداث سنة 1936.
ب- لجنة الاكتتاب العامة لجمع مبلغ خمسين ألف دينار لغرض اعانة عوائل الشهداء والجرحى في مظاهرات 1948 (ضد معاهدة بورت سموث).
جوانب من شخصيته:
ان رسائل يعقوب سركيس قد سلطت الضوء على شخصيته، واثارت لنا بعض الجوانب المهمة من حياته، والتي لفها الغموض لعدم اهتمام أحد بها مع انه يعد من المع المؤرخين المتميزين بالتثبت والدقة.
في رسالة، يقول فيها مخاطبا الاب الكرملي “.. انكم تخافون الكتابة التي لكيلا تلجؤوا اليها لأنها تضجرني، فجوابي لذلك اقراري باني مقل في الكتابة، ولكن هذا الاقلال ليس الى هذه الدرجة، ولاسيما في اجوبة مكاتيبكم”. وفي رسالة اخرى نفهم منها ان مصطفى جواد كان يغريه بتحقيق الجزء الثامن من (مرآة الزمان) لسبط ابن الجوزي وتأليف كتاب موضوعه تاريخ العراق يماثل فيه تاريخ العراق بين احتلالين للمؤرخ العزاوي، وقد رد قائلاً “كذلك اشكركم على ما نقلتموه الي من كتاب مصطفى جواد بشأن الجزء الثامن من (مرآة الزمان)، واشكر لهذا الصديق لعزيز على حسن ظنه بمقدوري على تصحيح اغلاط هذا التأليف سببها النسخ والتعليق عليه ثم طبعه.. فاني اعرف نفسي باني لست بكفء للقيام بهذا العمل. انا لا مقدرة لي الا على تسطير بعض المقالات، اما مثل هذا المشروع فالذي عندي انه لا يمكن ان يقوم عليه الا الاستاذ المحقق المدقق مصطفى جواد وامثاله.
واين انا من اقتراحه الثاني وهو ان لم اوافق على الاول ان أؤلف تاريخا للعراق حتى سقوط بغداد، اوازي به عمل الاستاذ العزاوي، وهذا لا شك أصعب من الاول..”.
وهذا يفسر لنا اقتصاره على تدبيج المقالات، الا انه اهتم في اواخر حياته برحلة الرحالة العثماني محمد ظلي المعروف باسم أوليا جلبي فترجم القسم الخاص بالعراق منها، وكانت المخطوطة في مرحلة التعليق والتهميش وإذا (بالمنية انشبت اظفارها) فتجهز على هذا الجهد الجليل فيضيع مع ما ضاع من تراثه.
اتصف مؤرخنا بالتواضع العلمي الذي اقترن بالسماحة والخلق الرفيع، والعجب هو ان لم يتصف بذلك، فهو في قمة نشاطه ولا يرى ضيرا من ان يطلب من الاب الكرملي ملاحظة ما يكتب، ففي رسالة له الى الاب يؤكد ذلك قائلاً “وارجو من حضرتكم ان تنظروا فيه لئلا اكون قد غلطت في شيء”.
ويتحدث أحد عارفيه عنه قائلاً “لقد عرفت الراحل الفاضل من عشرين سنة، ونعمت بصحبته، وتمتعت بأحاديثه، وأفدت من علمه وفضله، وطالعت من مكنونات خزانته ما شئت، ورغبت فوجدته – مع ما بيننا من فارق في السن – نعم الصديق الوفي الكريم، والرجل المهذب الوقور، والعالم المتخلق بأفضل الاخلاق، والمتتبع لسنن العدالة، والحق، والمتسم بالرصافة والصراحة والصدق، لقد كان عصاميا بالرغم من ثروته ووجاهته، وكان معتدلا في كل اموره، مبتعدا عن التفريط والافراط، وكان حليما واسع الصدر، متواضعا للصغير والكبير..”.
وفاته:
لمس يعقوب سركيس اوصاب الشيخوخة حين تجاوز الثمانين بسنين (ومن يعش ثمانين حولا – لا ابالك – يسأم)، فاعتكف في داره، منقطعا عن صحبه وخلانه، مخلداً الى وحشته وانفراده، لتحرجه من صمم اعياه وخطى متثاقلة اتعبته، حتى وافته المنية في مساء الاربعاء 23 كانون الاول 1959م في الهزيع الاول من الليل. وبذلك انطوت آخر صفحة ناصعة مشرقة من حياة شيخ وقور انصرفت سحابة عمره الى البحث والتدقيق مدونا صحائف من تاريخ وطنه، وتلك مشيئته تعالى وهو ارحم الراحمين.