احسان باشي العتابي
شئنا أم أبينا، العراق مجتمع قبلي، وهذا ليس عيبًا أو مثلبة حتى بحقه، بل على العكس تمامًا ،لإن القبلية وعبر التأريخ الطويل ،دائمًا ما كانت مصدرًا مهما للأخلاق والقيم والمبادىء السامية؛ ووجودها ليس من محض الصدفة ،بل تأريخ حاضر مذ مئات السنين.
لهذا لو تمعنا جيدًا، بتفاصيل الحقب الزمنية، التي سبقت حقبة الاحتلال الامريكي للعراق في عام 2003 ،سنجد أن من يكبروننا سنًا ونحن كذلك ،نثني عليها قاطبة؛حيث نستذكر فيها كل شاردة وواردة، لأنها بالمحصلة النهائية جميلة جدًا بحسب رؤيتنا لها.
فهل يا ترى ،أن السبب الذي جعلنا نثني عليها ، هو العامل العددي لها،أقصد سنواتها وأشهرها واسابيعها وايامها وساعاتها ودقائقها وثوانيها؟؟؟ أم لإنها جميلة بما كانت تحتويه من كلام وأفعال من عاش فيها، بسبب صفاء القلوب ورجاحة العقول وكبر النفوس؟؟؟ واخص بالذكر منهم، الأجداد والجدات ،والبقية من صلة الأرحام والأقرباء، ممن كانوا بأعمارهم أو أكبر منهم أو دونهم بقليل ؛ومن بينهم بطبيعة الحال ،من أتخذ لنفسه وجاهة إجتماعية آنذاك ،بدءًا من زعامة القبيلة، فنزولا عنها بالمسؤولية الاجتماعية”وهنا بيت القصيد”.
ومن تلك الصور الجميلة، التي تكاد لا تفارق ذاكرتنا ،هي صلة الأرحام بمختلف درجاتها، التي تتبع للابوين ،والأكثر من ذلك ،أن كبير القوم ،كان يعطي حق عنوانه تجاه عموم قبيلته وعشيرته بالتساوي، فنجده يوجه، ويتفقد ،ويحاسب ،ويسعى بكل شيء من شأنه، أن يخدمهم ويخفف عنهم الصعاب، إذا ما حدثت، لإنه بالنتيجة ،يشعر أنه مسؤول على أولئك جميعاً، وما يصيبهم من خير أو شر سوف يؤثر فيه.
تلك الصورة الطيبة ،كانت سائدة وبقوة حتى في تسعينيات القرن المنصرم، رغم قساوة ظروف تلك المرحلة، من جراء الحصار الاقتصادي الجائر على العراق ،لكن رغم ذلك ،كانت توجهات صلة الأرحام والأقارب فيما بينهم، أمتداد طبيعي جدًا ،لما تربوا عليه من قبل؛ لذلك لم تؤثر تلك الظروف الصعبة، على تلك العلاقات الوطيدة بينهم جميعا، إلا ما ندر منهم لسبب وأخر.
اللافت في الأمر، أن بعد دخول الاحتلال، ورغم كل الإمكانيات ،التي توفرت في العراق، على مختلف الأصعدة ،بدأنا نلمس يوماً بعد أخر ،اندثار تلك الفضيلة الأخلاقية، بين أبناء القبيلة والعشيرة الواحدة؛ فضلًا عن اندثارها ،بين أفراد العائلة الواحدة، لحد كبير لم يخطر على ذهن بشر قبل اليوم!!! والأمثلة كثيرة ،وهي أكثر من أن تعد أو تحصى.
وما يؤسف له حقيقة ،أنه لم نجد حد اللحظة، تصدي حقيقي وواقعي، من أحد العناوين الاجتماعية المسؤولة ،على عشائرها وقبائلها، لظاهرة قطيعة الأرحام بتنوعها؛ والتي ترسخت في عقول ونفوس وضمائر الأعم الأغلب منا ،فكانت النتائج وخيمة بل كارثية بكل معنى الكلمة.
فكان من نتائجها، استفحال الفساد والإفساد ،الذي أدى لضياع الكثير ،بدءًا من التفكك الأسري ،الذي أصبح ضحيته ،الكثير من النساء والأطفال على وجه الخصوص ؛ ولولا أن الحديث ذو شجون، بل ويدمي القلب في هذا الجانب ،لتحدثت فيه بتفاصيل أكثر، رغم أنها غير خافية على الجميع، بما فيهم أولئك الرعاة ،الذين أهملوا واجباتهم تجاه رعاياهم، فتركوهم لقمة سائغة، لذوي النفوس الضعيفة، فكانت صورة إجتماعية مأساوية ،تعكس واقعنا اليوم، والذي يخالف ذلك الواقع الذي عشناه من قبل!
الصورة الأخرى التي هي مأساة كذلك ،والتي أجتاحت المجتمع، بسبب عدم اكتراث أولئك الرعاة لرعاياهم ،بل فيهم من يدفع هو باتجاهها، والتي سببها الفقر تارة وغايات معينة تارة أخرى؛ هو أن البعض أخذ بصب جام غضبه ،على البعض الأخر ،بسبب بعض الحوادث التي يتعرضون لها شخصياً أو أحد أفراد عوائلهم، من قبيل حوادث السير أو الشجار وما شابه ذلك، فراح البعض ممن يدعون أنهم عينة القوم، وباتفاق مسبق طبعًا مع صاحب القضية، ممن هو بمعيته، بفرض مبالغ خيالية(الفصل)إزاء تلك الحوادث التي نوهت عنها!!!
وما زاد الطين بلة في تلك الأمور، أن الحق والمنطق أخذا يحرفان إلى حد عظيم(فمات الحظ والبخت لدى الكثير)،ممن يتبجح بهما أولئك البعض من عينة القوم، حيث وصلت الأمور ،أن يقاضي بعض أولئك الموظف الحكومي، بسبب قيامه بواجبه، من قبيل الشرطي والعسكري ،بل وحتى المعلم والطبيب، وغيرهم الكثير من أصحاب الوظائف الخدمية العامة في المجتمع!!!
لا أخفيكم سراً أن قلت، أن قطيعة الأرحام التي حلت بنا ،بكل عناوينها ودرجاتها،واستفحال ظاهرة الابتزاز بحجة(الديات العشائرية)هي(أمر دبر بليل)؛غايته تدمير المنظومة الأخلاقية للمجتمع العراقي ،وإلا هل يعقل أن ضياع النساء والأطفال ،ومحاسبة موظف عشائريًا، كونه أدى واجبه دون آي تقصير ،هي أمور طبيعية الحدوث، في مجتمع عرف باحترامه للقيم والأخلاق الرفيعة، فضلاً عن التزامه بما تفرضه القوانين؟!
قد يظن بعض القراء،أن موضوعي انشائي ليس إلا،وقد يظن البعض الأخر ،أن الطرح غير متلازم،وربما غيرهما يظن،أن الموضوع تنفصه تفاصيل بقية الواقع المعاش؛لكن من وجهة نظري الشخصية،أراءه متكامل.لأني ببساطة ،شخصت الخلل الرئيس، الذي أوصلنا لهذا الحال،ولو دقق القارىء اللبيب فيه،للمس ذلك الشيء الذي نوهت له.
الخلاصة هي..أين رؤساء القبائل وشيوخ العشائر من كل ذلك الذي حصل ويحصل حتى ألان؟ وما هي فائدة موروث الآباء والأجداد إزاء من كانوا بمعيتهم آنذاك،إذا لم يكن له تطبيقًا، على أرض الواقع اليوم؛ من قبل الأبناء ،الذين تقلدوا تلك المسؤولية الاجتماعية، بحسب تقاليد الأعراف العشائرية منذ زمن بعيد؟ فهل يعقل أن واجبهم فرض الديات العشائرية فقط،وعدم الاكتراث لما حل من ضياع لمجتمع بأكمله؟!