عادل الهاشمي
في البداية.. كان الغناء..
في بيت حسن باشا في بغداد ولد فنان المقامات العراقية يوسف عمر عام 1918 اي نفس السنة التي صعد فيها الى المسرح الفتى محمد عبد الوهاب ليغني لأول مرة وليبدأ حياته الفنية العامرة بالدأب والجدية والاخلاص، ان الشيء المهم الذي حدث بعد ولادة يوسف عمر بسنة واحدة هي وفاة والده، ويمكن قياس الطبائع التي رافقت سيرة هذا الطفل.. انها ولا شك متوترة ومتوفرة وقلقة لا تصالح بسهولة الشيء البغيض الذي صادفه عندما امتدت به السنون.. انه يجهل تماما اية ملامح عن العلاقة التي يجب ان تكون بين الاب وابنه.
الفتى والمدرسة
بعد ان ختم يوسف عمر قراءة القرآن الكريم دخل مدرسة –الحيدرية الواقفية– في سنة 1927 واستمر في هذه المدرسة يواظب على تحصيله العلمي حتى الصف الخامس الابتدائي حيث نقل الى مدرسة – الرصافة – كان يواجه حبه للغناء في تلك الفترة بسلسلة من التدابير التي يحاول فيها ستر هذا الحب المتنامي.. غير ان ذلك لم يؤد الا الى تعميق حبه وولعه وميله، ان هذا الحب الخفي الحذر المكظوم لم يستمر طويلا خلف حجب تلك التدابير.. بل تفجر على نحو عارم في مدرسة – الرصافة – على يد مدرس مادة الاناشيد فيها ويدعى – عبد الله حلمي العمر – اذ يقوم بين آونة واخرى بسلسلة من الاختيارات عن اصول الاناشيد وانغامها ليكتشف القابليات الخفية التي تعمر بها نفوس هؤلاء التلاميذ، وكان يوسف عمر الاول من بين التلاميذ ممن يملكون مفهوما بسيطاً عن هذه الاناشيد فغالبا ما يجنح الى اظهاره امام زملائه رغبة منه في ممارسة التفوق على نحو مفتون بالزهو! بقيت ملاحظات المدرس ليوسف عمر هي البدايات الاولى لتعلمه فن الغناء، فابتذت هوايته الفنية وولعه الغنائي يشتد ويقوى ويتجذر، في تلك الفترة كان على يوسف عمر ان يحدد مستقبل هوايته بقرار شخصي.. فترك المدرسة اولا ثم اتجه الى عمه المدعو: – محمد علي– الذي توفرت لديه معرفة لأسرار فن المقامات العراقية وعلى وجه الدقة المقامات التي كان يؤديها الفنان الشاب محمد القبانجي الذي بدأ نجمع يبزغ ويسطع.
ويلتقي باستاذه!
درج الفتى يوسف عمر على حفظ المقامات العراقية.. فراح يرتاد مجالس الغناء لهذا الفن العريق… ليس كتسلية انما كهدف تنمو في احضانه معارفه واداؤه انه يريد ان يقترب من اسراره وطرائفه المدهشة التي تجعله في صف العارفين. ان يوسف عمر عرف تماما ما يجب عمله.. ان تعلقه بالمقامات التي يؤديها محمد القبانجي اخذت تسيطر على حياته كاملا فصار يرتاد كل جلسة غناء لهذا (الفن يحييه محمد القبانجي.. ينصت الى نطقه ويستحضر لفظه ويتتبع حركاته الفنية لمقاطع المقامات ويتعلم بشغف اسرار الانقالات من نغم الى آخر، فبدأ حبه له يقوى ويشتد وتعلقه بفنه يعمق ويمتد.
تحت راية اداء القبانجي نمت قصيدة الحب الكبرى لفن المقامات عند يوسف عمر، هذه القصيدة كانت تطوف في دهاليز الليالي ووضوح النهارات، فقد اكتسبت نبرتها الغنائية المطلقة.. بقيت علاقة الحب من يوسف عمر والمقامات ثم في الحارات والازقة والمقاهي الشعبية والمجالس البغدادية التي كان محمد القبانجي يشدوا فيها على نحو رفيع اسرار فنية في المقامات والمنقبات النبوية الشريفة.
وتأسست الاذاعة العراقية
في عام 1936 بدأ المغنون يعاملون مع دائرة صغيرة أطلق عليها اسم دار الاذاعة العراقية، التي وفرت على يوسف عمر مشقة الجري وراء استاذه محمد القبانجي فكان يحتضن الراديو بترقب وانتظار ليستمع اليه وهو يغني. كما كان يستمع الى مغني ذلك العصر منهم رشيد القندرجي ونجم الشيخلي ويوسف حريش وحجي عباس كمبير. على ان هؤلاء جميعا لم يتركوا طوابعهم الصوتية والالقائية في فن يوسف عمر. ان يوسف عمر بقى مشدوداً نحو استاذه القبانجي.
بقيت علاقة الحذر والتلمذة ما بين يوسف عمر والمقامات العراقية تأخذ امتدادها حتى عام 1948 وعلى وجه التحديد في الشهر السابع عندما تشكلت لجنة يرأسها الخبير الغني سلمان موشي لامتحانه من حيث الاداء والصوت. وكان اول مقام فرأه يوسف عمر امام الخبير هو مقام راست (الذي يعتبر اساسا للموسيقى والغناء العربي) وكان نجاحه في الصوت والاداء بعد نجاحا تاما، ومن عادة الاذاعة في تلك الايام ان تتعاقد مع من تتوسم فيها المقدرة لحفلة واحدة في كل شهر. اما يوسف عمر فكان استثناء من هذه القاعدة حيث تم التعاقد معه على حفلتين للشهر الواحد.
ولم تمض فترة حتى زادوا على هذا التعاقد حفلة اخرى، واستمر التواصل الفني من ذلك والى الان على فرشة زمنية امتدت لأكثر من ثلاثين عاما.
علاقة وفهم يوسف عمر للمقام العراقي
تمضي السنون.. الفنان فيها يستهلك يزدهر.. يعاني. يتألم.. يفرح.. يتمتع يتعذب يأخذ من الحياة وتأخذ هي منه.. تصير المسافات نحو النهاية اكثر مألوفة، هذا السير العجيب للزمن وهذا التنوع في العواطف والمواقف والمشاعر طبع بصماته على فن يوسف عمر فزاده صقلا وخبرة وتفوقا فبقى امينا على المقام العراقي.
ان يوسف عمر يقدم فنه محكوما بنزعة التقاليد المأخوذة والمتوازنة. ان المهم الالتزام في الاداء عند حدود التراث، ولتغلق الابواب بوجه كل معاصرة، المعاصرة التي تعني الحفاظ على هذا التراث ضمن الصيغ العلمية كالتدوين الموسيقي وادخال الآلات الجديدة على تخته التقليدي وتوزيع انغامه توزيعا جديداً، ان يوسف عمر يمارس تماما كل ما من شانه التأثير على روحية المقام العراقي وحرفيته وتفاصيله البغيضة فلا مجال للتضحية باي شيء من هذا التراث النادر.
القرار في غناء المقام اهم من الجواب
قلت ليوسف عمر.. حدثني عن صوتك؟
قال بلهجته الواثقة… المغني كالتاجر، ان التاجر لا يستطيع ان ينهض في عمله ان لم يكن لديه المال الكافي لاستثماره وتوظيفه. وفي هذا الاتجاه يكون المغني ايضا فهو لا يستطيع ان يؤدي وظيفة الغناء ان لم يكن لديه الصوت الهادر الواضح، علما ان الصوت في المقام العراقي يكمن في القرار اولا اذ ان غناء المقامات يعتمد على قرار عميق وهو اهم من الجواب، احمد زيدان كان يعتمد على جوابه العالي. اذ تبرز قوته وتتحلى صياغته على نحو عجيب. الا ان صوته لا يستطيع ان ينزل الى القرار بصورة تامة فقراره ضعيف، ان قارئ المقام يجب ان يكون صوته ممتداً من القرار الى الجواب ومن الجواب الى جواب وفي صوتي قرار جند وجواب من.
ورأينا في صوت يوسف عمر قريب من رأيه هو في صوته، ان صوته ممتد ما بين القرار الى الجواب. فقراره عميق وجوابه ساطع يستطيع ان يصعد الى جواب الجواب في عدد محدود من المقامات التي يتطلب اداؤها اربعة او خمسة عشر مقاما او درجة صوتية، ان اقتداره في الغناء هو نتيجة لاحقة لان فن المقام العراقي في واقع الامر هو فن التدريب الصوتي، فالصوت يتحرك داخل المقام ابتداء من درجاته والوانه وتحريره ومباناته وقراراته وجواباته الى تسليمه الخاص، الا ان يوسف عمر يعاني من ثغره تبدو واضحة لدى الاستماع المدققة وهي احتلال انتقالاته في بعض الاحيان اثناء عملية الاداء وسبب ذلك يرجع الى الاجهاد الصوتي الذي يمارسه الفنان يوسف عمر . لا يمكن انكار صيغة الذبذبات في صوت يوسف عمر. لكن هذا يدعونا الى ان تطلق على صوته بالبلبل اي المختلط، الا ان الشيء الثابت فعلا ان صوت يوسف عمر هو في مقدمة الاصوات المشتغلة في دائرة المقام العراقي واكثرها سطوعا وخبرة بلا جدال.
وعن تلاميذه اجاب: حسين الاعظمي وسعد حمودي.. ان هذين الفنانين في رأيي يحملان امل التقدم والحفاظ على هذا التراث الخالد. كما ان من تلامذتي قاري المقام حمزة السعداوي.
عن رأيه بقيمة الاصوات الخالية في قراءة المقام؟
يقول يوسف عمر: فخري عمر ما زال في بداية الطريق ويحتاج الى الكثير لكي يثبت في هذا الميدان.. اما صلاح عبد الغفور فقد ارتبطت بدايته الفنية بالمقام العراقي.. الا انه عاد ليرتبط بفن الاغنية وهذا في رأيي دليل على العمق الفني للمقام باعتباره بحرا لا ساحل له؟
ان قيمة الآراء التي يطرحها الفنان يوسف عمر تأتي من خلال الموقع الذي يتصدره حاليا في قراءة المقام وازاء ذلك كان لابد ان تتعرف على ادائه في قيمة الاصوات التي اشتغلت في غناء المقام العراقي منذ زمن طويل. فكانت اجابته خبيرة في الاسماء التي طرحناها عليه وكما يلي:
محمد القبانجي – مدرسة كبيرة للمقام وفنان نادر.. صوته قوي لا مثيل له بين قراء المقام.. يتمتع بكامل الاوتار الصوتية ويتصرف وفق ما يريد وحيث ما يشاء.. ان صوته مفصل تماما على غناء المقامات.
حسن خيوكة – مطرب ناجح في اداء لون خاص به.. لديه قرار عميق وعريق وجميل اما جوابه فمحدود.
جميل الاعظمي – لون خاص في قراءة المقام لا يشبهه احد. صوته ينتمي الى مدرسة الاداء القديمة ويؤدي بحدود دون تصرف فني يتخصص به.
عبد الرحمن خضر عاصر فن المقام العراقي منذ عام 1943 وتأثر بمحمد القبانجي وتحول تأثيره الى تقليد.. الا ان اداءه لا يخلو من جمال وتمكن.
ناظم الغزالي – صوت جميل غني المقامات السهلة التي تناسب صوته.. الا ان نجاحه الحقيق تركز في الاغنية..
عبد الهادي البياتي – صوت يضبط المقام تماما ولونه فيه طابع شخصي محض.
نجم الشيخلي – صوت ممتاز الا انه لا يستطيع ان يداري الانتقالات المتنوعة وبالتالي لا يستطيع ان يشكل صوته وفق ضوابطها.
رشيد القندرجي – استاذ.. الا ان صوته مستعار وقد ارتبطت في ادائه حرفية الطابع العراقي للمقام ولهذا فهو نادرا ما يتصرف في ادائه.
عن رأيه بالأصوات النسائية التي تطرق ابواب المقام من آونة واخرى؟
يوسف عمر – هناك مغنيات ادين بعض المقامات العراقية وعلى نحو مدهش مثل صديقة الملاية وبهية كشكول، وفي واضح الامر ان زج الاصوات النسائية في فن المقام هو تنوع مطلوب وضروري ولكن للأصوات القادرة فقط وفي الدائرة الحالية للأصوات النسائية يمكن القول انه لا يوجد صوت نسائي جدير بقراءة المقام على النحو المطلوب فعلا.
ان الفنان المغني له دور عظيم في تنمية الحاجة الاجتماعية في الغناء بجانبه التعبيري لا الترفيهي الساذج، ان المهم فعلا هو البحث عن الحدود التي يمكن ان يساهم داخل نطاقها الفنان المغني من اجل دفع قدراته. ومن المفيد القول ان الالتحام بين اعضاء العائلة الغنائية هو تعضيد لفن الغناء على نحو متنوع، ولهذا ينبغي الاحتكام الى راي الفنان بمغني عصره ضرورة لقياس درجة هذا الالتحام وبالتالي معرفة تأثيره في الحاجة الاجتماعية الكلية، يقول يوسف عمر حول قيمة الاصوات التي شغلت الناس ولا تزال.
ام كلثوم – فلتة من فلتات الدهر.. ان الزمن سوف يتوقف طويلا عند صوتها قبل ان تجيء مطربة اخرى قريبة منها، لقد غنيت بعض من اغانيها واهمها قصيدة اكذب نفسي.
محمد عبد الوهاب – صوت نادر مكتمل الجمال ونبوغ لا مثيل له في ميدان التلحين والموسيقى لقد تأثرت به في اغانيه القديمة وغنيت عدداً منها مثل ياجارة الوادي وجفنه علم الغزل.
الشيخ محمد رفعت – قارئ عظيم يمتاز بقوة انفاسه وحلاوة نبراته.. لقد تأثرت كثيرا في طريقة ادائه للقرآن الكريم كما انني اعشق صوت القارئ الفذ عبد الفتاح الشعشاعي.
اسمهان – لون خاص لم يعرفه الغناء العربي منذ زمان طويل. تأثرت لغنائها طويلا فالذي تمتاز به انها تغني من صميم قلبها. وانا اعتبرها في المنزلة التالية بعد ام كلثوم.
فريد الاطرش – فنان مقتدر في الصوت والتلحين والعزف واغانيه القديمة لها حلاوة خاصة وانا اعتبره بعد محمد عبد الوهاب في القيمة الفنية.
الحافظ ملا مهدي – اشهر قارئ للقرآن في العراق.. الذي تتلمذ على يد الملا عثمان الموصلي وهو قارئ متمكن.. لازمته في قراءة المناقب النبوية حيث تعلمت الكثير من اسرار فنه الرائع.
الحافظ صلاح الدين – من تلاميذ الملا مهدي.. وفي قراءته يمتد تنغيم جميل ومؤثر.
عبد الحليم حافظ – مغني الشباب.. له من ادائه وتمكنه طريقته التي اختص بها مما خلق لديه جمهوراً عريضا بدين بالولاء لفنه.
تدوين المقام يقيد انطلاقته!
عن تدوين المقام العراقي – يقول الفنان يوسف عمر.. انني اعارض تدوين المقام لان هذا التدوين من شأنه ان يقيد انطلاقة المقام ويحد من روحه الخاصة وجوه الفريد، لقد حفظت المقامات شفاها ويهمني ان يعلم انني احفظ من المقامات العراقية بأصولها وفروعها وقد اكملت جميعها اتقانا منذ خمسة عشر عاما. والذي اريد قوله ان المغنين الذين يأتون من بعدنا لابد وان ينهجوا نهجنا في حفظ المقام كما نهجنا نحن من حفظ المقام ممن سبقونا.
عن المحصلة النهائية التي خرج بها من حياته الفنية؟
يوسف عمر – الهدف الاساسي الذي يدور حوله فني هو الجمهور، ترى ما هي الطريقة التي يمكن بها كسبه؟ ان كسب الجمهور مهمة صعبة جدا ولكن مع ذلك استطعت بالإخلاص له ولفني ان اكسبه ونجحت في هذا المجال نجاحا لا اعتقد ان هناك من ينكره. والى الان فان الحفلات تطلبني كمغن احيي جميع الوصلات الغنائية لوحدي. ان هذا التقدير هو الوسام الذي احمله على صدري وهو الشيء الذي خرجت به من حياتي الفنية الممتدة على مساحة زمنية واسعة.
من خلال ما تقدم.. فان السيرة الفنية ليوسف عمر تعطي موضوعيا سيرة فنية لغناء المقامات. لا سيرة لحياة فنان. انها سيرة طالما احتكمت الى ميدان التجربة الغنائية لوحدها، ولهذا فان يوسف عمر لم يكن ذلك الفنان الذي تكونت لديه ثقافة فنية او غيرها، ان فحص ومعاينة فنه الغنائي يجري بطريقة الاحتكام المحض الى الحقل الخاص بغناء المقامات وليس بحقل اخر.. كما ان النمو الخاص لهذه الطاقة الغنائية جرى بمعزل عن التيارات الثقافية والاجتماعية. ان نموه يأخذ مداه الفني فقط مضحيا بكل الموحيات الاخرى.. لكن لا يوجد هناك من ينكر ان فن يوسف عمر هو تجربة اصيلة وامتحان لموقعها. بل هو تجربة محددة المعالم. لها حصانة فنية وروح عصامية معاندة..
عن مجلة ألف باء 1978.