الكورد الفيلية ومدرستهم وحسينيتهم، و ” عزيز علي”

 

 

اعداد: عدنان رحمن

اصدار: 5- 9- 2023

 

من منشورات ( نصوص) ( لها مقر في بغداد- شارع المتنبي، والآخر في بيروت- شارع الحمرا). صدرت في العام 2020 الطبعة الثانية من كتاب بعنوان ( شوبان الصَدرية) للاستاذ حسن فالح، بعد أن نفذت الطبعة الأولى من كتابه المذكور عام 2019.

كان الاستاذ حسن فالح قد قسَّمَ روايته الى أرقام وليس الى عناوين فرعية ومنها بالرقم ( 1) الذي ورد فيه:

– ” –  عاشور اشتری بیانو!.

     –  صحیح، عاشور اشتری بیانو؟.

     – نعم، عاشور اشتری بیانو

***

النساء، الرجال، الشيب الأطفال، الكل يردّد عاشور اشتری بيانو. كان الخبر ينتشر مثل  إشاعة في قرية، وصار المارةُ مثل النملات الصغيرات التي تلتقي لتتبادل أخبار الطعام، أو لتتبادل التحية كما يظن البعض، لكن هذه المرّة داخل الأزقة الضيقة، تبادل الناس خبر شراء عاشور بيانو يشبه بيانو الحفلات الأسود الفحمي الذي شاهده بعضهم على شاشات التلفزة.

 

 

لَمْ يكن هناك من يعرف أنَّ هذا البيانو كان موجوداً في أحد القصور الرئاسية التي  أفرغت من محتوياتها وأثاثها. وقبل ذلك، كان في منزل عازفة البيانو بياترس أوهانسيان الأرمنية الأصل، التي تكاد تكون أجمل من عزف على آلة البيانو في بغداد.

دخول بيانو إلى الحيّ شَكّل حدثاً عظيماً في محلة الصدرية، بالتحديد في زقاق الكبي الذي يبدأ من شارع الوثبة موازياً لبداية سوق الصدرية حتى الفضوة، وكانت فيها قبة سُمّيت على اسمها في الماضي وأصبحت الآن محلة صغيرة فيها مدرسة ابتدائية في الطرف الشمالي الشرقي من جامع سراج الدين.

يقع منزل عاشور وأهله في هذا الزقاق الذي تتجاور فيه منازل بطراز قديم وهي متحاشكة لا يمكن فرزها عن بعضها بعضاً بسبب هذا التداخل ولا يمكن لأحد معرفة أزقة الحيّ وتفرعاته سوى أهلها الذين اعتادوا السكن فيه منذ عقود خلت من الكثير، ولكن لم تخلُ من القصص التي لا يزالون يتداولونها إلى اليوم.

وعلى الرغم من ترقيم الأزقة، فلم يبقَ من مسمياتها القديمة إلا ( الأتون)، و( العوينة) التي تتوسطها ساحة كبيرة لركن السيّارات وهي تابعة لأمانة بغداد التي شُيّدت في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، وكانت فيما مضى ساحةً للعب كرة القدم كان اسم  المسؤول عنها ( ياسين الجميلي)، وكان يُنظم مباريات الفرق الشعبية.

وقبل أن تتحوّل الساحة إلى ما هي عليه، كانت فيما مضى سوقاً شعبياً. دخل إليها في أحد الأيام صباح إبن نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي، فقام الصبية برميه بقشور البطيخ الأحمر والطماطم، فتوعد وهدّد وشتم أهل السوق.

وبالفعل، بعد عشرة أيام قامت قوات حكومية بهدم السوق والدور المحيطة به، ما اضطرّ أهلها إلى أن يسكنوا في صرائف قرب ( بستان واوي). كان أغلب سكان المنطقة من الديانة المسيحيّة فيما مضى، وأكثرهم انتقلوا إلى منطقة ( المربعة) ومناطق أخرى، وسكن مكانهم الكورد، ومن ثم سكنت المنطقة أسر عربية وتغيّر سكانها من جيل إلى

جيل، لكن ظلّت بيئة الصدرية صغيرة، وظل الناس فيها يعرفون بعضهم بعضاً.  صورة الأمس لا تزال حاضرة في المحلّة، على الرغم من التغيّرات التي طرأت عليها وسكانها الذين تغيَّروا أصبح كل من يدخل ( الصدرية) اليوم يجد زحاماً وباعةً من كل صنف. ورغم ذلك، فإنها لا تزال تتميز بالحيوية والرواج ،نفسهما، مع اختلاف من عاصروها وحفظوا ذكرياتها ولا يزالون يتبادلونها في المقاهي مُستذكرين المقاهي

الخاصة بالرياضيين والفرق الشعبية، من مثل مقهى غازي ( أبو طويرة).

كانت المقاهي مقراً خاصاً لفرق مهمَّة، مثل فريق ( العاصفة) و ( الشباب) و ( أنوار الطليعة)، وكانت المساجد تضمّ أهل المحلّة، بداية من مسجد حسيبة الخضري، وحسينيّة الكبي)، ومسجد ( محمد الألفي)، ومسجد صدر الدين، وحسينيّة الكورد الفيلية، فضلاً عن مسجد سراج الدين.

 

 

 

ويجيء صوت آخر من المقهى ذاته، مذكّراً بأسماء أشهر المدارس البغدادية:

ألا تذكرون مدرسة العوينة الابتدائيّة، والمدرسة الحسينية، ومدرسة الفيلية التي تأسست في العام 1946؟. ألا تتذكرون حمام ( السيد)؟.

يستذكر نعمة الحداد مطاعم الكباب الشهية و دربونة زقاق المعدّات، وصيدليات بغداد القديمة، بدايةً بصيدلية ( الشماع) و ( ماجد باقر)، وانتهاء بـ (عبد الصاحب بهير)، فيتأفف الجمع، ويروح البعضُ ساهبًا في سقف المقهى مُسترجعاً صور ذكرياته مثل شريط سينمائي سریع. لا شيء يبقى على حاله. صحيح أن منازل الصدرية كانت بلا حدائق، لكن ذكرياتها كانت أجمل من أجمل الحدائق”.

وعن مطبعة الإنتصار- خالد البربوتي ببغداد في العام 1990 صدرت الطبعة الاولى لكتاب معنون بـ ( عزيز علي ([1])- أقواله- سيرته- فنّه)، كان قد ورد في بداية صفحات الكتاب تمهيداً كتبه عزيز علي بتاريخ ( 24 / 6 / 1989).

 في الكتاب العديد من العناوين لأغانيه وتعليقاته عليها، ومنها بعنوان فرعي ( المقال- المونولوج- أبعاده- مراميه- ومفهومه في العراق) ورد فيها:

– ” مونو- لوج، كما يعلم الكثيرون، مصطلح يوناني لاتيني، مركّب من كلمتين ( مونو) تعني ( واحد) ( فرد) و ( لوج) – لوجوس تعنى ( الكلام) وتركيبهما مع بعضهما يعنيان ( المقال الفردي- الخطاب). والمونولوج هذا هو كأي مقال وكأي خطاب يجوز ان يكون نثرا ويجوز ان يكون شعرا ويصح ان يلقى القاء، كما يصح ان يُلحّن تلحينا، حسب متطلبات الحال، ومقتضيات المقام شريطة ان يستهدف غاية معينة مفيده، كما لا بد له كأي عرض يراد له النجاح، أن يخرج اخراجا مبتكرا مقبولا. فإن لم يلتزم المقال المونولوج بهذه الشروط الرئيسة، فقد قيمته الموضوعية وأصبح لغواوخلطا. لم يكن هذا اللون من الغناء معروفا في اوساطنا الشعبية ولا مألوفا حتى برز في اذاعة بغداد منذ تأسيسها في الاشهر الأولى من سنة ۱۹۳۷ شاعر شعبي من طراز جديد اخذ يزاول نظم وتلحين وإنشاد اشعار شعبية تختلف وزنا ولحنا ومعنى عن أزجالنا الشعبية المحدودة المعنى، والمرمى المتداولة وقتذاك، وسرعان ما تجاوبت ازجاله وأقواله مع مشاعر الناس بمختلف اعمارهم ومداركهم، شيوخا و شبانا رجالا ونساء المتعلمين منهم والأميين. كان ذلك الشاعر هو انا ( عزيز علي).

وإذ كان لابد لهذا اللون الجديد من الغناء ان يطلق عليه اسم في برامج الاذاعة فقد اسميته ( مونو لوج) باعتبار ان هذا المصطلح كان متعارفاً عليه في لبنان. ولقد اختلف مفهوم المونولوج في قطر العراق عن مفهومه في الاقطار العربية الأخرى، فمفهومه هناك انه مجرد تهريج وإضحاك وتسلية، في حين تجد الجمهور العراقي يرى أن اقوال عزيز علي الملحنة المرنمة تكاد تكون في مستوى المقالات الورقية وفي عدّاد الخطب المنبرية، ان لم تكن ابعد من هذه وتلك في النفوس اثرا، لانها جاءت ملحنة مرنمة بمصاحبة الموسيقى .

بينما رأى بعض الادباء والشعراء مع تقديرهم لأصالة نظمها، وتثمينهم الدعوة الخيرّة فيها وإعجابهم بإسلوب عرضها أنّ بِها عيباً، وعيبها انها صيغت باللغة العامية الدارجة. ولولا ذلك لكان مقامها بنظرهم، مقام القريض .

ووجهة نظري بهذا الشأن هي اني ما دُمت اخاطب الناس، كلّ الناس، قرويهم ومدنيهم أميهم ومتعلمهم، فليس لي إلا أن أخاطبهم باللغة التي يتكلمون بها ويتفاهمون. جدير ذكره إن مقالاتي المُلحنة قد غلب عليها طابع النقد. فقد لا يجد سامعها او قارؤها مدحا ولاشتما وتبريراً لذلك أقول: ان لكل انسان في هذه الحياة سبيل يقوده إليه معدنه، وتربيته وثقافته، ووسطه وبيئته الى جانب عوامل ومؤثرات أخرى خارجية كثيرة. وإني لأعتبر الأقوال والأفعال الحسنة التي تصدر عن ذي المعدن الطاهر إنما هي تحصيل حاصل، لابد لها أن تكون حسنة. أما ذو المعدن الردىء فعذره معه إذ لا يجب أن نتوقع من أقواله ومِن أفعاله ما هو اكثر من قابلية معدنه، فليس بمقدور معدن الرصاص مثلاً أن يعمل عمل معدن الفولاذ أو البلاتين. ولا يدفعني إلى النقد سوى مشاهدتي مواطن الخطأ والزلل في في الأقوال والأفعال غير الانسانية التي تصدر عن مَن يدّعي الإنسانية. فأنا لم أنفك، منذ ميلاد إذاعة بغداد في اوائل ۱۹۳۷ أستعرض بأقوالي الملحنة مشاكل حياتنا الاجتماعية، واذكي بها الروح المعنوية في المواطنين الأخيار. وقد يزعم البعض أن هناك نقدا بناءً ونقداً غير بناء، وهذا غير صحيح، فمفهوم النقد هو الإشارة إلى مواطن الخطأ في الأشياء وهو أمر جدير بالتقدير والاحترام. اما النقد غير البناء فلا يعني سوى الشتم والقذف ولا يصح أن يُسمى الشتم والقذف نقداً بأي حال على الاطلاق”.

[1] – أكمل الدراسة الابتدائية عام 1924، وأشتهر بغناء ( المونولوج). مارس التمثيل على المسرح في الخامسة عشر من عمره، وكان أحد ممثلي أول فرقة مسرحية عراقية عام 1927 التي كان أسمها الفرقة التمثيلية الوطنية، كان ناقدا فنياً من 1937 حتى 1939، وناقدا سياسيا بعد هذه المرحلة، ساند ثورة مايس 1941، واعتقل وسجن بسببها. في 1968 اناطت به وزارة الثقافة والاعلام في العراق تأسيس مدرسة الأطفال الموسيقية، واشرف عليها سنتين. توفي 1998.

قد يعجبك ايضا