د. هادي حسن عليوي
محمد السيد حسن الصدر من عائلة دينية معروفة عرفت بالتقوى وحب المواطنين والعديد منهم مراجع اساسية، وقد ولد السيد محمد في مدينة الكاظمية ببغداد العام 1883 ثم انتقل مع والده الى سامراء والنجف حيث درس الفقه والمنطق والفلسفة تربى منذ نعومة اظفاره على القيم الاسلامية الحميدة من حسن اخلاق ومعاملة طيبة وصلة رحم فقد كان محبوبا مهيبا محترما وقورا جليلا.
عرف عنه تمسكه بالروح الوطنية العالية فوقف بصلابة ضد الظلم والتعسف العثماني، وعندما احتلت بريطانيا العراق جاهر بمعاداة الاحتلال، واصبحت الكاظمية بؤرة للمقاومة العنيدة ضد المحتلين، انتقدته المس بيل السكرتيرة الشرقية لدائرة الاعتماد البريطاني في بغداد في تقاريرها ووصفته بانه (ذو تقاسيم شريرة وشخصية مغمورة) واتهمته بمنافسة الامير فيصل وسعيه لان يكون الرجل الاول في العراق، ووصفه تقرير بريطاني بانه انسان لا يوثق به وكل هذه الآراء تسجل للسيد الصدر لا عليه فالمعروف عن البريطانيين انهم وصفوا هكذا كل من وقف ضد سياستهم واطماعهم الاستعمارية.
لقد كان الصدر في طليعة الوطنيين العراقيين الذين انخرطوا وقادوا المقاومة الوطنية ضد المحتلين وفي شباط 1919 انتمى الى جمعية حرس الاستقلال التي اسسها الوطني المعروف علي بازركان، وهناك مصادر تشير الى ان السيد محمد الصدر هو الذي اسس هذه الجمعية وكان من ابرز رجالها نشاطا، ولعب السيد الصدر دورا بارزا في ثورة العشرين وخشيت السلطات البريطانية في العراق من اعتقاله لان ذلك يسبب ثورة عارمة ضدها لكن الثورة تفجرت شاء البريطانيون أم ابوا فطاردته القوات البريطانية فلجأ الى ديالى حيث قام بدور قيادي بارز في مقاتلة المحتلين البريطانيين بقطع خط سكة الحديد بين العراق وايران لإيقاف ارسال الامدادات البريطانية للعراق لمواجهة الثوار، ونسف ذات مرة مع الثوار قطارا بريطانيا محملا بالسلاح والذخيرة وتشير المصادر الى انه كان دائما ما يتقدم الثوار ولا يهاب الموت حاملا بندقيته وتصدى اكثر من مرة للطائرات البريطانية وكان لسان حاله يقول: (لنا الصدر دون العالمين او القبر) وقد روى اهالي ديالى قصصا عديدة عن شجاعته ورباطة جأشه حتى قيل ان الرصاص لم يعد يؤثر في جسمه، وان بإمكانه اسقاط الطائرات بإيماءة من عمامته لورعه وتدينه وحب الناس له، وقد اسهم في رفع معنويات الثوار وسكان المناطق القريبة الذين التحقوا بالثورة.. بعد جهاده في ديالى غادر السيد محمد الصدر الى سامراء التي عاش فيها بعض سنوات صباه وقد اعترفت المصادر البريطانية بان نشاط السيد الصدر في سامراء ابان الثورة سبب الكثير من المتاعب لبريطانيا، وهذه شهادة اخرى تؤكد عمق وطنيته وبعد فشل الثورة جرى اعتقال ونفي قادة الثورة وكانت إيران المكان الذي نفى اليه السيد محمد الصدر.
نشاطه السياسي بعد تأسيس الدولة العراقية
بعد قيام الحياة النيابية في العراق منذ العام 1925 وعودة المنفيين الى العراق اختير السيد محمد الصدر عينا دائميا في مجلس الاعيان ورئيسا لهذا المجلس اكثر فتراته، وفي اوائل كانون الثاني العام 1948 عمت العراق التظاهرات والاضرابات عندما نشرت نصوص الاتفاقية العراقية البريطانية التي اعتبرها العراقيون اجحافا بحقوق العراق، ولم تتوقف الاضرابات الا باستقالة صالح جبر في مساء يوم 27 كانون الثاني 1948 فانطلقت في بغداد تظاهرات وتردد اسم السيد محمد الصدر كمرشح لتشكيل الوزارة الجديدة فهتفت الجماهير بحياته واعلنت عن تأييدها له، لكن سرعان ما تكهرب هذا الجو ثانية عندما علمت الجماهير بان الصدر اعتذر عن قبول الترشيح بعدم ملائمة الظروف للاضطلاع بهذه المهمة، ولما شاع ان السيد ارشد العمري هو المرشح الوحيد لرئاسة هذه الوزارة رفضت الاحزاب التعاون معه، وعقدت اجتماعا مشتركا لمعالجة الموقف وصدر بيان عن ذلك الاجتماع اكد فيه على اسناد الوزارة الى اشخاص يطمئن اليهم الشعب، وان تستجاب رغبات الشعب العراقي في الاستقلال والحرية السياسية.
تكليف الصدر بتشكيل الوزارة
يبدو ان تأليف وزارة جديدة في ذلك الوضع العصيب لم يكن اقل اهمية في نظر الشعب من سقوط الوزارة السابقة ، فأهمية شخص الرئيس الجديد غاية الشعب لذلك كلف السيد محمد الصدر لإنقاذ الموقف فاشترط دخول الشخصيات التي يرتضيه سلوكها معه امثال: محمد مهدي كبة ومحمد رضا الشبيبي وحمدي الباجه جي وجميل المدفعي وجلال بابان وصادق البصام وحكمت سليمان ونصرت الفارسي وكان عبد العزيز القصاب رئيس مجلس النواب الوسيط بين الوصي على العرش (الامير عبد الاله) والسيد محمد الصدر ، وقد قبل الوصي جميع شروطه وهكذا تشكلت الوزارة في 29 / 1 / 1948.
تحقيق المطالب الوطنية
حاولت بعض الكتب التاريخية ان تقلل من اهمية الدور السياسي للسيد محمد الصدر وتظهره بالضعف والبساطة وتتجاهل الخطوات التي أقدم عليها خلال فترة حكمه القصيرة، وتشير بشكل او باخر عدم اتخاذه الاجراءات والقرارات لتنفيذ المطالب الوطنية لكن الواقع والحقائق التاريخية والوثائق تؤكد تحقيقه لكل تلك المطالب التي جاءت في بيان الاحزاب الوطنية قبيل تشكيله الوزارة وهي:
1 ـ جمع معلومات حول ما حدث خلال المظاهرات التي حصلت بين تاريخي 5 / 1 / 1948 و30 / 1 / 1948 وكيفية إطلاق النار على المتظاهرين وتعيين مسؤولين على ذلك.
2 ـ التحقيق عن صدور الاوامر بشأن إطلاق النار والجهة التي اصدرتها وكذلك التحقيق ايضا عما إذا كانت القوات التي صدرت لها تلك الاوامر قد اتخذت الحيطة الكافية في تنفيذها او تجاوزها حدودها.
3 ـ التثبت من عدد القتلى والجرحى خلال تلك التظاهرات وبسببها..
4- الغاء معاهدة بورتسموث.
تحقيق المطالب الوطنية الأخرى
لم تتوقف حكومة محمد الصدر عند حدود تلك الانجازات الكبيرة بل واصلت الطريق لإنجاز مهامها الوطنية، فأعادت النظر في القرارات التي اتخذتها الحكومة المستقيلة فيما يتعلق بتعطيل الصحف وسوق اصحابها الى المحاكم واعتقال عدد من الطالبات والطلاب وبعض الشباب فيتحقق بذلك المطلب الرابع من مطالب الشعب الرئيسة وهي احترام الحريات الدستورية وافساح المجال للنشاط الحزبي فوافق مجلس الوزراء على السماح للصحف والمجلات المعطلة باستئناف عملها وعلى تسريح الموقوفين كافة وعلى رفع الرقابة المفروضة على المراسلات والاشخاص، وعلى استئناف الدراسة في المدارس الحكومية والاهلية، اما فيما يتعلق بمشكلة الغذاء فقد طلبت الحكومة من مجلس الطعام الدولي تمويل العراق بثلاثين الف طن من الحنطة واخذت تبحث عن مصادر تموينية اخرى.
تحقيق مطالب الشعب
وهكذا يكون محمد الصدر قد حقق مطاليب الشعب كافة واتبع سياسة واضحة في سبيل تحقيقها وهي تجربة فريدة في تاريخ العراق المعاصر، لان وزارته الوحيدة التي عملت من اجل تحقيق ما يريده ابناء الامة ونفذت رغباتهم بسرعة. ان الاتجاه الذي سار عليه رئيس الوزراء لم يكن ينسجم مع واقع السياسة العراقية آنذاك، الذي اريد له ان يخضع لنمط معين ثابت يضمن مصالح بريطانيا ويتجاهل ارادة الامة، وعلى هذا فان سياسة الصدر كانت تمثل خروجا على هذا النمط، مما قد يتسبب في ارباك اسس السياسة العراقية ويدخلها في واقع جديد لا يريده البلاط الملكي وترفضه بريطانيا،
في 15 حزيران انتهت الانتخابات وشعر رئيس الوزراء انه أنهي مهماته التي ارادها الشعب في قائمة المطالب التي اعلنتها الاحزاب السياسية قبيل حكمه فقدم استقالته في 16 حزيران 1948 اي في اليوم التالي لانتهاء الانتخابات النيابية وبهذا يكون السيد الصدر قد حقق جميع الالتزامات التي اخذها على عاتقه عند تشكيل وزارته التي لم يدم عمرها أكثر من ستة اشهر، فترك الوزارة وعاد مرة اخرى الى مجلس الاعيان وظل عفيفا نزيها حكيما في قراراته دؤوبا في علمه حتى وفاته في 3 نيسان العام 1956.