نجدة فتحي صفوة
كان سليمان فيضي من الموجهين الاوائل للحركة الوطنية والعاملين من اجل تحقيق مثلها العليا، ولذلك تعد حياته صفحة من صفحات الجهاد الوطني في سبيل تحرير العراق واستقلاله السياسي ونهضته الاجتماعية.
وكان رحمه الله من أبرز المقاومين لطغيان الاتحاديين والمناوئين للاستعمار. عرف بمواقفه الوطنية وخدماته الصحفية والثقافية المبكرة، فقد اسس جريدة (الايقاظ) و(مدرسة تذكار الحرية) قبل مئة عام
وكان معتمداً لـ “الحزب الحر المعتدل” وحزب “الحرية والائتلاف” ثم “الجمعية الاصلاحية في البصرة” وانتهب عضواً في مجلس المبعوثان العثماني، وعاصر تأسيس الحكم الوطني في العراق، ورافق سيرته، وشهد ادواره كافة، وكان الى جانب نشاطه الوطني والثقافي من رجال القانون البارزين واساتذته المعروفين، وقد درس على يده جيل كامل من رجال القانون واعلام السياسة في العراق، وكان في ادوار حياته كلها من عناوين الكفاح ضد الحكم العثماني، ورفض النفوذ البريطاني، وطرازا نادراً من الرجال، مؤمناً بالله، مترفعاً عن الصغائر، لم تبهره المناصب، ولم يفت في كفاحه جاه زائف، ولم يغره مال ولا نشب.
في عام 1949، كنت ملحقاً بالسفارة العراقية في لندن، حين وصلها المرحوم سليمان فيضي للمعالجة، وكان يرافقه نجله صديقي الدكتور عبد الحميد فيضي، وقد اهتمت السفارة العراقية بهذه الشخصية العراقية المحترمة، وكان السفير هو الامير زيد بن الحسين، وقد زار المرحوم في مستشفاه واوصى الموظفين برعاية هذا الضيف الكريم، وتفقده، والاستفسار عن سير معالجته بلا انقطاع، وتلبية ما قد يحتاج اليه. وعاد المرحوم سليمان فيضي الى بغداد بعد استكمال علاجه، او حين لم يعد هنالك مزيد مما يمكن ان ينال منه.
وبعد مغادرة الاستاذ سليمان فيضي لندن بمدة قصيرة نقلت الى عمان فقضيت فيها سنة واحدة، وفي عام 1950 نقلت الى السفارة العراقية في القاهرة، وفي مطلع عام 1951 جاءنا نبأ وفاة المرحوم سليمان فيضي، فتألمنا لهذا النبأ كثيرا، وخاصة السفير المرحوم نجيب الراوي الذي كان من طلابه في كلية الحقوق.
وفي اواخر عام 1953 حضر الدكتور عبد الحميد فيضي الى القاهرة لقضاء اجازة فيها وحمل الي نسخة من مذكرات المرحوم والده، وكان تحمل عنوان: “في غمرة النضال: مذكرات سليمان فيضي”. وقد طبعت بعد وفاته في مطابع شركة التجارة والطباعة المحدودة ببغداد في سنة 1952.
وقد قرأت الكتاب بكثير من الاهتمام بطبيعة الحال، نظرا لمعرفتي الشخصية بمؤلفه، واطلاعي على جوانب من سيرته الوطنية والاصلاحية.
وقد نال الكتاب منذ صدوره اهتماماً كبيراً من المؤرخين، وأصبح مرجعاً رئيسياً لكثير من الكتب والدراسات التاريخية وما يزال، وذلك نظراً لأهمية المعلومات التي تضمنها، حتى أصبح من الكتب التي تدرج في قوائم المصادر الرئيسية لعدد كبير من المؤلفات العربية والاجنبية.
ولد سليمان فيضي بن الشيخ داود القصاب العوادي في الموصل في 26 تموز (بوليو) عام 1885، وكان والده إماماً في مسجد الامام ابراهيم في الموصل. ودخل الاعدادية الاميرية في الموصل عام 1895، ومنها انتقل الى “الاعدادية العسكرية” في بغداد، وكان من زملائه في الدراسة ومن ابناء صفه طه الهاشمي، وعلي جودت، ونوري السعيد، ومولود مخلص. وصادف ان حصل نزاع بين بعض الطلاب في المدرسة، ولما كانت المدرسة عسكرية، فقد ابلغ امر هذا النزاع الى نظارة الحربية في إستانبول، فقررت فصل ثمانية من الطلاب كان سليمان فيضي أحدهم. وقد تقرر إلحاق هؤلاء الطلاب المفصولين بالخدمة الفعلية المسماة (الرجوى).
لم يلتحق سليمان فيضي بالرجوى، وانما يمم وجهه شطر الصحراء، وذهب الى معسكر الامير عبد العزيز الرشيد الذي كان يتمتع بحظوة كبيرة لدى السلطان العثماني. وبعد سفر شاق في الصحراء، تمكن من مقابلة الامير وكان في ذلك الوقت يتهيأ لملاقاة جيش (الامير) عبد العزيز آل سعود. ولبى ابن الرشيد طلبه، وأبرق الى “ألباب العالي” لإعفاء سليمان فيضي من “الرجوى”، فاستجاب “الباب العالي” لطلبه في نيسان (ابريل) 1904.
استقر سليمان فيضي الموصلي منذ ذلك الحين في البصرة حيث درس اللغة العربية على أحد علمائها، اضافة الى دراسته للقانون بمعاونة كبار الحكام انذاك، وكان أحدهم ناجي السويدي، ثم عين عضواً في أحد محاكمها.
وفي مايس (مايو) من عام 1909 تمكن فيضي من الحصول على امتياز اصدار اول جريدة باللغة العربية في البصرة، وسماها (الايقاظ)، واستمرت هذه الجريدة في الصدور حتى تشرين الاول (اكتوبر) 1910، واتسع انتشارها، وأصبح لها مشتركون في الهند وسنغافورة وجدة ومسقط وعدن والبحرين وغيرهما، ولمع اسم سليمان فيضي كصحفي وطني جريء، وأصبح منذ ذلك الوقت ينتسب الى البصرة، وبعد من رجالاتها.
صدرت “الايقاظ” بعد تولي الاتحاديين الحكم في الدولة العثمانية، وشروعهم في سياستهم القومية وتجاهلهم حقوق القوميات الاخرى في الدولة العثمانية، واهمها واكبرها العرب، واخذت (الايقاظ) تعبر عن رغبة ابناء العرب في استعمال اللغة العربية في المدارس والمحاكم وغيرها من المرافق الحكومية في المناطق العربية من الدولة، اضافة الى فتح المزيد من المدارس، ومجانية التعليم وغير ذلك من الاصلاحات.
وافتتح سليمان فيضي نفسه اول مدرسة للتدريس باللغة العربية عام 1908، اضافة الى تدريس التركية والانكليزية والفرنسية.
سافر فيضي الى الآستانة للحصول على شهادة الحقوق، واجتاز الامتحان في حزيران 1911، وعند عودته الى البصرة عزم على مقاومة الاتحاديين وسياستهم العنصرية، وتعاون في ذلك مع السيد طالب النقيب الذي كان على لخلاف مع رجال الحزب الحاكم (الاتحاد والترقي)، كما اخذ يتعاون مع المعارضين الاتراك نكاية بالاتحاديين، وبذلك شجع فيضي في الدعوة لتأسيس فرع لـ “الحزب الحر المعتدل”، وهو اول حزب معارض يؤسس في العراق في عهد الدستور، وقد ترأسه السيد طالب وكان سليمان فيضي معتمداً له.
وافتتح فرع الحزب في 6 آب 1911 بمهرجان كبير حضره الالوف من اهل البصرة بينهم الوالي وكبار الموظفين، وقناصل الدول الاجنبية، نظراً لمكانة السيد طالب السياسية والاجتماعية، وصار اعيان البصرة المنتمون الى حزب “الاتحاد والترقي”، وهو حزب الحكومة – وهو حزب الحكومة – يستقيلون منه وينضمون الى الحزب الجديد.
وبعد ذلك تأسس حزب “الحرية والائتلاف” التركي، واخذ يسعى الى اجتذاب العرب وابناء القوميات غير التركية الاخرى في الدولة العثمانية ليدعم بهم موقفه تجاه خصومه الاتحاديين، وكان من حملة اساليبه لاجتذابهم الدعوة الى “اللامركزية”، اي منح الولايات العثمانية شيئاً من الاستقلال الاداري، او نوعاً من “الحكم الذاتي” (ولم يكن هذا الاصطلاح معروفاً في ذلك الوقت). ولذلك خرج معظم النواب العرب في مجلس المبعوثان من حزب “الاتحاد والترقي” وانضموا الى حزب “الحرية والائتلاف” ايضاً. وبذا تحول فرع الحزب “الحر المعتدل” في نهاية عام 1911 الى حزب “الحرية والائتلاف” في البصرة.
وفي اواخر عام 1912 تأسست في مصر جمعية علنية اسمها (جمعية اللامركزية) وقد اسسها مجموعة من الشباب العربي السوريين الموجودين في مصر (منهم رفيق العظم ومحمد رشيد رضا واسكندر عمون ومحب الدين الخطيب ونايف تللو وسليم عبد الهادي) فكان ذلك ايذانا بانتقال حركة الوعي العربي الى مرحلة جديدة اسفرت عن نتائج اجتماعية وسياسية مهمة. وكانت بيروت وبغداد والبصرة أكثر المدن العربية قومية، كما انعقد في باريس المؤتمر العربي الاول الذي كان له صدى كبير في العاصمة العثمانية وفي البلاد العربية.
في بيروت حزب سمي “الجمعية العمومية الاصلاحية”، بزعامة نفر من اعيان بيروت الوطنيين، وكان من اهدافها الرئيسية المطالبة بالإدارة اللامركزية في البلاد العربية. وكان السيد طالب النقيب زعيم البصرة قد تجاوب مع احداث بيروت تجاوباً قوياً، فقطع علاقته بالائتلافيين، وجعل حزبه مرتبطا بجمعية اللامركزية المصرية على غرار جمعية بيروت، وألف حزباً جديداً يحمل اسم حزب بيروت، وهو “الجمعية الاصلاحية في البصرة” وكان افتتاحه في 28 شباط (فبراير) سنة 1913.
وكان سليمان فيضي خلال تأسيس حزب “الحرية والائتلاف” ثم تأسيس “جمعية البصرة الاصلاحية” اقرب اعوان السيد طالب ومستشاريه، واكثرهم تمتعاً بثقته، وكان السيد طالب رئيساً لهذه الاحزاب، وسليمان فيضي معتمداً لها، وقد حرر مقالات صافية في جريدة (الدستور) مبشراً بمبادئ الجمعية الاصلاحية، وقد نجحت جهوده بحيث تمكنت الجمعية من الفوز بخمسة مقاعد في مجلس المبعوثان، وانضمت الى “الكتلة العربية البرلمانية” التي جمعت المناوئين للاتحاديين من المبعوثين (النواب) العرب، واصبحت دار سليمان فيضي في الآستانة معقلا لأحرار العرب ومنتدى لهم، وحين اعتقل عزيز علي المصري كانت الاجتماعات للتداول في كيفية انقاذه تعقد في دار سليمان فيضي وحين طاردت سلطات الاتحاديين نوري السعيد وعبد الله الدملوجي اختفيا بداره الى ان تمكن من تدبير وسيلة لسفرهما الى البصرة والالتجاء الى دار السيد طالب النقيب. وقد قامت هذه الاحزاب بدور هام في اسناد حركة اللامركزية، واستقلال العرب حتى غدت البصرة معقلا لأحرار العرب يلجؤون اليها من بطش الاتحاديين.
وفي الوثائق البريطانية التي تعود لسنة 1920 تقرير عن الشخصيات العراقية، جاء فيه عن سليمان فيضي انه “وطني متشدد، ومعارض للعناصر المعتدلة”. وكان خلال تلك الفترة قد ترأس سراً حزب “العهد العراقي” بعد وفاة الشيخ سعيد النقشبندي وحتى قيام ثورة العشرين.
عارض سليمان فيضي معاهدة سنة 1930 التي عقدها نوري السعيد مع بريطانية، مما حمل وزارة نوري السعيد آنذاك الى ابعاده الى مدينة “عنه” حيث بقي اربعة أشهر، ولقي الكثير من نكران الجميل، حتى عودة الملك فيصل الاول من الاستشفاء في اوروبا، فلما عاد أمر بإطلاق سراحه.
انتخب سليمان فيضي نائباً عن البصرة في المجلس النيابي العراقي عام 1935 واحتفظ بمقعده حتى حل المجلس بعد سقوط وزارة ياسين الهاشمي على أثر انقلاب بكر صدقي، وبعد ذلك اعتزل السياسة واستقر في البصرة نهائياً، وانصرف الى الاعمال الخيرية والثقافية وممارسة المحاماة ما سمح له وقته وحالته الصحية.
وقد خلف المرحوم سليمان فيضي أحد عشر مؤلفاً في القانون والرحلات والادب، اضافة الى عشرات البحوث والمقالات والخطب في المناسبات الرسمية والوطنية والثقافية، وهي منشورة في الصحف وفي محاضر مجلس المبعوثان العثماني والمجلس النيابي العراقي.