١-٢
د. توفيق رفيق آلتونجي
كيف أمد بساطي إليك؟ كيف أرخي زمام حصاني؟ كيف اكبت صهيله؟ من أي درب، من أي حارة؟ من أين؟ قولي يا حورية النهر الأبيض؟ من أين؟ أنت المتلفعة بوشاح شعرك الأصفر حينا وبغيوم الثلج الأزلي حينا آخر، متى تغطين قلبي بدفء الشمس الواهنة التي تدور في المدى، خاملة ناعسة دون أن تغيب تائهة، شاردة، وحيدة. أي قلب هو ذاك الذي لا يرضخ لقيودك؟ ما هذه النظرة التي تطرزها ابتسامة ساحرة يا حورية النهر الأبيض؟ وأميرة نهر روخانه أ ساحرة هي حقا؟ أم ساخرة؟ مني أنا المتيم بسحر عينيك والمطعون بسهمي حاجبيك والمكتوي بلهيب شعرك الأصفر؟
الأديب د. زهدي الداوودي
كركوك متحف الشعوب والعقائد، المنطقة الجغرافية أي حدود لواء كركوك مجاورة من ناحية الشرق للحدود الإيرانية التي لم تكن على تخطيطها الحالي قبل مائة من السنين وتغيرت هذه الحدود عدده مرات خاصة ان النزاعات بين الدولتين الإيرانية والعثمانية طويلة وعلينا دراسة التاريخ الإيراني السياسي وصراعاتها خلال فترات زمنية تعود الى على الاقل الى زمن الصفويين التركمان منذ مطلع القرن السادس عشر والزنديين الكرد 1760 – 1794 والقاجاريين الترك الاذريين 1794 حيث استمر حكمهم الى اواسط العقد الثالث من القرن العشرين و من بعدهم تبعهم في الحكم عائلة اخر شاه لايران محمد رضا البهلوي ذو الأصول المازندرانية منتهيا بالثورة الإسلامية عام 1979 هنا علي توضيح امر مهم ثقافي بالدرجة الاولى فقد بقيت لغة الحكم في ايران في معظم الفترات التاريخية التي حكم فيها ايران شعوب غير فارسية ما عدا ايام حكم اليونان، فارسيا وبقيت مراسلات الدولة بالفارسية. وربما لما كان لهذه اللغة من عذوبة لفظية وتاريخ قديم خدمها المثقفون وصقلوها من معظم الامم والفضل الأخير يعود للشاعر الإيراني الكبير الفردوسي وشاهنامته وانعكاساتها على المنطقة حيث جائها العديد من القبائل والعشائر الكردية القاطنة اليوم في ربوعها لعل من أكبرها عشائر الجاف حيث نزحت من أطراف كرمنشاه في ايران نتيجة للصراع الدموي مع الاردلانيين ولا ريب لم تكن هناك حدود فاصلة بين اجزاء كوردستان والتنقل كان سهلا من جهة الى اخرى اليوم ينتشرون تلك العشائر في كركوك والسليمانية وكلار وحلبجة ودربندي خان.
شاهنامه الفردوسي
المجتمع الكركوكي وهنا اقصد كركوك بمعناه الجغرافي الواسع للأراضي الواقعة بين نهر سيروان جنوبا ونهر الزاب الأسفل شمالا. حيث تكون المنطقة برمتها خارطة ثقافية تعددية اثنيا وعقائديا وقوميا. اختلطت الاديان والقوميات بلغاتها ولهجاتها وارثها الثقافي مكونة مجتمعا بمواصفات غنية وتعددية ثقافية قلما نجد مثيلها في المجتمعات الانسانية. كل هذا الثروة الثقافية تنعكس في لغة ثقافية حية تتداولها الناس بمفردات قد لا يفهمها ابناء العراق القادمين من المناطق الاخرى. تلك هي لغة لا تحتوي على مفردات تكتب بحروف الهجاء بل لغة يفها فقط من عاش بين ابناء هذه المنطقة البديعة من الثرى.
لهجة ابناء كركوك غنية بمفرداتها ورموزها مستوحاة من لغات عدده وحتى ان استخدام اللغة الادبية تعكس تلك المفردات لا ريب ان حتى تلاوة القران الكريم بالطريقة الكركوكية ميزة خاصة بأهل كركوك استمع الى القارئ (نورالدين بقال أوغلو). كذلك الغناء لها ميزة خاصة فالمطرب يغني بجميع اللغات ونرى القوريات وهي أشعار شعبية مثنوية يتغنى بها التوركمان كما يتغنى الكورد بطور غنائي يسمى ب قتار ويسي (كتبت عن الموضوعين في مادة سابقة كهوية ثقافية لابناء المدينة) نرى كذلك انعكاسات تلك اللغة الثقافية في مجمل الموروث الثقافي الديني لابناء المنطقة. حيث نرى ان الدراويش لهم اناشيد خاصة وحتى دق الدف والطبول في المناسبات الدينية وفي الأفراح والإحزان لها صبغة خاصة تنفرد بها الثقافة الدينية التصوفية الكاكئية والبكتاشية والكسنزانية. الملابس الشعبية في المنطقة متداخلة وقد يستخدم ابناء قومية ملابس قومية اخرى دون أي احراج ولا ريب هنا امتدادات تاريخية للملابس الفلكلورية الركوكية ( راجع مادتنا حول ازياء كرميان على الصفحة التاسعة من جريدة التآخي: https://altaakhi.net/2023/08/45283/
لذا نرى شكل العمامة لها معاني ثقافية كثيرة وقد تشير الى مهنة او صنعة الشخص او انتماءه وحتى مكانته الاجتماعية والثقافية.
لا يمكن ان نكتب عن الثقافة الكركوكية دون ان نتطرق الى المطبخ الكركوكي كسمة ثقافية اثرت وبصورة جوهرية على طبيعة أنسأنه وعلى طريقة وأسلوب حياته. الأرضي الزراعة الخصبة في المنطقة وتنوع المحاصيل الزراعية والفواكه والخضروات فيها ميزات مناطقية كثيرة لا تتوفر في مناطق اخرى في العراق. تلك الميزة المناطقية أثرت بصورة مباشرة على انواع الاطباق التي تحضرها السيدة الكركوكية وتعتز بها. لا ريب ان الطبخ قد تحول بمرور الزمن الى لقاء محبة يجمع نسوة المحلة ليتجمعن في حفل بهيج وليطبخن معا خاصة الدولمة والمعجنات (كليجه) في الاعياد والمناسبات. هذه الحالة الاجتماعية ليست منحصرة على المجتمع الكركوكي فحسب لكن هناك ميزة خاصة وطعم خاص بنكهة كركوكية في اسلوب اعداد اطباق ك ” الدولمة الكركوكية” و الباجة والمنبار الكركوكي. رغم ان بعض تلك الأكلات تميزت بها الحاضرة كركوك وبقى بعيدة المنال عن ابناء الريف لوقت طويل ولكننا نشاهد اليوم وبارتفاع الحالة المالية والاقتصادية للناس وسهولة المواصلات ان الفرق والبون الشاسع قد اختفى .
ان تجمع النسوة حول قدر الطبخ وحديثهن الودي عن احول الناس وطبائعهم واخبارهم حالة اجتماعية ومفردة ثقافية مهمة. شاركت النسوة في اغتناء الثقافة الكركوكية التعددية عن طريق تلك اللقاءات الحمية في حل الكثير من النزاعات والتقارب بين الناس وساد روح التسامح. لا ريب ان تلك اللقاءات كانت مسرحا لعديد من الزيجات والتصاهر بين ابناء القوميات المختلفة من ابناء المدينة. هذا النوع من اللقاءات كانت في حمامات العمومية في المدينة أيضا وكانت مسرحا لها ومكانا تلتقي فيه النسوة. اما الرجال فكان الحمام بالنسبة لهم ليس عرسا احتفاليا بل بقت المقاهي البيئة الانسب للحوار الحضاري والنقاش الادبي وتداول الآراء والتجارة والمصاهرة وكانت جماعة كركوك الادبية تلتقي في الكازينو المدورة (النصر) وسط المدينة .
لا ريب قارئي الكريم ستجد في حديثي طابعا تراثيا لان العديد من تلك المظاهر قد اختفى من المجتمع الكركوكي بعد الحرب العالمية الثانية وتأسيس الدولة العراقية.
اما من الناحية الثقافية الجغرافية فقد كانت لانتشار الفكر القومي ابان الحرب العالمية الثانية وبعد تأسيس الدولة العراقية وبين جميع القوميات الأثر الأعظم في تفرقة صف المجتمع الكركوكي. ان انتشار تلك الافكار القومية السلبية اثرت بصورة خاصة على السلم الاجتماعي الذي ساد خلال دهور في هذه المنطقة. بات كل قومية تحاول ان تنطوي تحت راية قومية ثقافية معينة وكان لهؤلاء القلة ممن لا يعرفون أصول انتماءاتهم الأصلية الدور الأعظم في انتشار الفكر القومي السلبي. ان انتشار تلك الافكار ولد مجتمع جديد متقوقع على نفسه باحث عن عيوب الاخرين مفتخرين بما لديهم من ثقافة وربما حالة سياسية واقتصادية. كثيرا من باقي المناطق الثقافية في العرق.
يجب ان لا ننسى بان اللغة الثقافية لاهل المنطقة قد تختلف من مكان الى اخر حتى اننا نرى سواد لغة ثقافية معينة في فترات زمنية والتحدث بها دون الانتماء اليها. هذا الاخير اثر على الخارطة اللغوية الثقافية لابناء المنطقة حين أرادوا الانطواء تحت راية قومية والانفصال من القوميات الاخرى. فمئلا اذا كانوا يتحدثون التوركمانية في البيت كلغة ثقافية واكتشفوا بانهم من عشائر كوردية الاصول تراجعوا فورا من انتمائهم الثقافي واختاروا الانتماء القومي. هذا النوع من السلوك انتشر بعد اعلان بيان الحادي عشر من اذار ومنح كوردستان الحكم الذاتي عام 1970. يجب ان لا ننسى ان كل ذلك ولدت وشكل خاطة ثقافية لغوية جديدة لابناء المنطقة باكملها. كان من الطريف ان نجد عائلات انضوت تحت راية التوركمان رغم ان أصولهم العرقية كانت من عشائر عربية او كوردية وحتى مسيحية والعكس صحيح. بقى ان نعلم ان مسيحيي المنطقة بقوا محافظين على تركيبهم الثقافي والديني وليس اللغوي. حيث ان مسيحيي كركوك كانوا يتحدثون باللغة الثقافية التوركمانية للمدينة خاصة هؤلاء اللذين نزحوا الى المنطقة ابان الحرب العالمية الاولى وما بعد قادمين من الأناضول في الحقبة التاريخية اضطهاد الدولة لهم. نرى ان هناك حادثة تاريخية في مدينة كركوك يمكن اعتبارها الحدث المفجر للانقسامات التي حصلت في المنطقة بأكملها بين المسيحيين والتوركمان بصورة خاصة في نزاع حصل في سوق القلعة بين تجار من التوركمان وعناصر من الجيش الليفي التي اسسها جيش الانتداب البريطاني وكان معظمهم من المسيحيين. الحادثة الثانية التي أثرت تأثيرا بالغا على العلاقات الكوردية-التوركمانية تعود الى حادثة مفادها ان هناك محاولة لاغتيال زعيم الأمة الكوردية البارزاني الخالد خلال زيارته للمدينة واتهام عناصر من التوركمان بتلك المحاولة وانعكاساتها السيئة ابان الاحتفالات بمرور عام على ثورة تموز والحوادث المؤسفة التي لاحقتها. تلك الحادثتين اثرتا كثيرا على الوئام الاجتماعي للمدينة وانعكست على كل المنطقة حيث ريف وقرى كرميان (الموضوع عالجته في مادة سأنشرها لاحقا).