الأديب: سالم بخشي المندلاوي
عادة يدّخر السارد أفضل قصصه، ليضعها في نهاية كتابه أو في الربع الأخير منه على الأقل؛ من باب ختامها مسك -هكذا أفعل أنا- غير أن القاص البارع د عبد الحسن خضر عبيد المحياوي، آثر أن يضع قصته القصيرة جدًا في بداية مجموعته، وانتحل عنوانها، عنوانًا لمجموعته القصصية (أرض الميعاد) الصادرة عن دار الآداب للطباعة والنشر والتوزيع، مطبوعات العام 2022.
لم يكتف بذلك، بل وضعها مجددًا في الغلاف الخلفي لكتابه، وكأنه يعلن عن نفسه من خلال هذه القصة، ويكرر هذا الإعلان، ويحيلنا إلى سرد دائري شائق، ينطلق وينتهي ويلتقي في نقطة واحدة، ناهيك عن وضعه صورة مؤثرة في الغلاف الامامي لمجموعته، تتناسب ورحلة البطل نحو أرض الميعاد، والقصة نصّها:
((أعلنَ الإنذار، فشدَ رحاله عبر الأفق الشاحب، وعلى امتداد الزمن الوضيع، ودّع أهله رغم قساوة التوديع، وحين وصل أرض الميعاد، شاهد رأسه مصلوبًا فوق منارة الطغيان، فأرتقى إلى العلياء بابتسامة النصر والخلود)).
بهذا السرد اللغوي المختزل، بثلاثين كلمة تقريبًا، جمع القاص بين بلاغة التعبير السردي، وأفق الشعر الرحب، ليعبر بهما عن أكبر قضية أخلاقية، وسياسية عبر تأريخنا الإسلامي المأزوم. قضية رحلة الامام الحسين (عليه السلام) ومن ثم استشهاده الأليم. استشهاد بطعم النصر والخلود.
في كثير من قصصه التالية، يتلاعب السارد، بلاغيًا، باللغة، ويكسر بعض الكلمات المركزية فيها، ويحيل حروفها -بمهارة- إلى معاني جديدة، ومختلفة، لكنها تدور في فلك ثيمتها البارزة. كما في القصص التالية: (صوفيا ص6، الرحيل ص11، الشبح ص12، الميم الوسيم ص15).
حيث سرد في قصته (الرحيل):
((على ضوء فانوسه القديم، المتقد شوقًا، المتلهف لقاءً، أمسك بقلمه الذهبي المرصع بحروف الرحيل. ففي الراء رحلة حب. وفي الحاء، حزن الفراق. وفي الياء، يأس ملأ عليه حياته القادمة. وفي اللام، لوعة الفقدان.
لقد بدأ نبض قلمه يتصاعد، كما نبضات قلبه الجريح، وبدأت قطرات مداده الأسود تتجمد، وشرايين كلماته تتقطع كما تقطعت آماله.
توقف الهمس، وصمت القلم وودع الحياة مع انطفاء الذبالة في الفانوس القديم…
و.. د.. ا.. ع)).
وفي بقية قصصه الأخرى (القصيرة جدًا) يقدم لنا القاص وبأسلوب تجريبي جميل، شكلا لغويًا جديدًا، يتنازع الصدارة فيه السرد والشعر، للتعبير عن الأفكار والصور والتخيلات، والثيمات المتنوعة التي حركتها.
بعيدًا عن البناء الفني الناجح لقصصه الشائقة، لم يكن التصميم الداخلي للكتاب مناسبًا، وطريقة عرض القصص، للأسباب التالية:
- حجم الخط (10) ناعم جدًا، ربما يتناسب مع الصحف الورقية؛ لتوفير مساحة، وعرض أخبار ومواد صحفية أكثر، لكنه لا يتناسب بالمرة مع كتاب أدبي، بالذات كتابنا الذي نحن بصدده الذي لم يتجاوز خمس وعشرين صفحة، وكلمات القصص فيها محدودة بالعشرات.
- لا بأس إدراج ملاحظة أو إشارة عن القصة في هامش الكتاب، فيما لو ربحت جائزة مثلًا، أو نشرت في جريدة أو مجلة ما. لكن أن تدرج تعليقات القارئين عن القصة في (الفيس بوك) في متن الكتاب، وجدتها غريبة، ولا يمكن تبريرها. وإذا كان الكاتب يقصد منها إعطاء فكرة عن المستوى الفني للقصص عبر هذه التعليقات، فالقارئ لا يستسيغ الأمر ويحب أن يكتشف القصة بنفسه من دون ملاحظات أو وصايا مسبقة.
- رغم أهمية الصورة الموضوعة في الغلاف الأول، وهي مكمل سردي، لأرض الميعاد -كما نوهنا- غير أنها زاحفة وغير واضحة للعين بشكل كبير، وهو خلل طباعي يؤاخذ عليها دار النشر، نرجو أن تتجاوزه في طبعاتها القادمة.
ما سبق، لا يقلل من شأن ما قدمه القاص البارع من قصص ماتعة، والطريق الجديد الذي خطه، بثقة، نحو أرض الميعاد، للأدب الجميل.