حوار: عادل كامل
تزخر قوى الفنان إسماعيل الشيخلي، على العكس من قوى نوري الراوي، باحتفالية خاصة ثمة بشر يتجمهرون ضمن احتفال متعدد الأبعاد يكاد يكون إيذانا بميلاد أمر مجهول. إلا أن تلك التجمعات البشرية تنقلنا إلى صميم القرية العراقية التي يسترجعها الفنان عبر ذاكرة متوقدة وبانورامية بما كان للماضي أو للحاضر المستعاد أثر فيه ألا أن فنه برمته يطمح إلى تأسيس عالم جمالي مشحون بالغنائية والحزن الخفي أنه واحد من الفنانين العراقيين الذين تبلورت رؤيتهم الخلاقة عبر كفاح طويل من الزمن إخلاصاً لمفهوم الفن وعلاقته بالناس. وقد تكون أعماله الأولى مجهولة الآن، أي تلك التي صورت الفقر والبؤس. إلا أن تأملاً عميقاً لأعماله الاحتفالية لابد أن يفضي بنا إلى اكتشاف خفايا المسرة المعلنة. وربما هنا تكمن قيمة فنه، أنه واحد من الرواد المؤسسين، وأستاذ عدة أجيال في الوقت نفسه.
سألته: هل أنت فنان واقعي؟
-هذا السؤال غريب. الناقد هو الذي يحدد ذلك.! وبعد صمت وجيز تابع قائلاً:
-طبعاً أنا فنان واقعي. لكن المفهوم نسبي. ما الواقعي وغير الواقعي؟ منذ أعمال.
-الفنان البدائي مروراً بعصر النهضة حتى الآن يقول لك كل فنان، بأنه كان واقعياً، وأنه ينظر إلى الواقع من زاويته الخاصة.
ويصمت قليلاً أيضاً ليضيف:
-وحتى الفنان السوريالي عندما تسأله يقول لك بأنه فنان واقعي. وأعتقد بأنني فنان واقعي.
في فترة الخمسينات، تميزت أعمالك بصلة عميقة بالواقع: هل كان ذلك بسبب تأثيرات فنية محددة؟
-فعلاً، في الخمسينات، أو بالأحرى في الأربعينات، أبان الحرب العالمية الثانية، حدث وهي عند شعوب العالم الثالث التي بدأت تستقل حديثاً، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، فكان لدى جيلنا ذلك التحدي ضد الهيمنة الأجنبية بكل أنواعها، وصار لدينا وعي وطني وقومي. في تلك الفترة بذل الفنان جهداً كبيراً للتعبير عن هويته الوطنية والقومية. لذلك اتسمت الحركة التشكيلية في الخمسينات بنوع من الأصالة الفنية واتخذت خطاً واضحاً نحو الأصالة. ولذلك اتجهنا نحو الموضوعات العراقية لأننا كنا لا نريد أن نقلد الفنان الغربي.
بهذا المعنى اخترت موضوعات الفيضان والبؤس الاجتماعي؟
-أنا وزيد صالح وفائق حسن وجواد سليم ومحمود صبري عبرنا عن موضوعات اجتماعية وسياسية. لم تكن اللوحة جميلة فقط. وإنما جميلة بمضمونها. وهذا تحد السلطة آنذاك.
هل هناك تأثيرات لمدارس فنية محددة؟
-ربما نبهتنا المدرسة المكسيكية لموضوعات سياسية وحتى أعمال بيكاسو كان لها تأثير. بيد أنني لا أعتبر أعمالي مباشرة أو سياسية. أنها ذات طابع اجتماعي.
ماذا تقصد بالطابع الاجتماعي؟
-عندما ينظر الفنان إلى اللوحة، بتجريد تام فأنها تغدو لوحة جمالية مجردة، ولكنه عندما يتخذ الحياة موضوعاً له فأنه يكون فناناً اجتماعياً. الجمال هو المضمون. والمضمون وحده لا يكفي، بل يسقط. الفن منذ البدء وحتى الآن. يرتبط بالعلاقة الجدلية بين الشكل المتقدم والمضمون.
وقال بهدوء:
-أرسم المسيح، العذراء، أو أي شيء أخر… ولكن دون هذا الترابط تسقط اللوحة، اللوحة الناجحة هي التي تمتلك عناصرها. ومهما كانت الموضوعات. اللوحة لغة تخص كل تفاصيل اللوحة وعناصرها. والجمال هنا هو النظرة المتجلية للفنان.
الفنان يخلق أم يكتشف؟
-الكلمتان تعنيان شيئاً واحداً. في لحظة الخلق أو الاكتشاف تتحدد رؤية الفنان ببعد عميق لهاجسه الداخلي وثقافته الروحية. أو اللحظات الفريدة التي تعكس الماضي القديم عنده. أنه الخزين المجتمع عبر سنوات طويلة داخل مخيلته أو متحفه الشخصي، لنصف قرن أو أكثر.. وتفسير السؤال يخص الإبداع.
هنا نتوقف إزاء الفنان: ما هي؟
-توصلت، بعد هذا العمر، أن المسؤولية الفنية ترتبط بضمير الفنان وإخلاصه. كم يستطيع أن يقدم عملاً أصيلاً جيداً فأنه يكون قد جسد رسالته، لأنها تخص تأسيسات الجمال الحقيقي. العمل الجيد هو تراث ويدخل ضمن التراث. والعمل الفني يحمل مضمونه التاريخي بذاته، أما ما عدا ذلك فيزول! أن مهارة الفنان، وإزاء التاريخ اللاحق، يرتبط بوعيه إزاء رسالته الإنسانية الشاملة.
الفنان مرآة للمجتمع – كما قال جواد سليم – أم هو ضمير له؟
-لا أفهم هذا الشيء. الفنان جزء من هذا المجتمع الفنان ينبغي أن يبقى صادقاً.. ويكون تعبيره عميقاً. أنا جزء من هذا المجتمع وأحاول أن أعبر عن ذلك. عندما يرسم الفنان بإصالة يكون قد عبر المجتمع. وعندما يكون الفنان أصيلاً يكون ضميراً له، ومرأة له أيضاً.
حسناً.. من هم أساتذتك؟
— بلا شك، أن أستاذي التقليدي هو فائق حسن. كما تعلمت من جواد سليم لأنه درسني.
نود أن تحدثنا عن بواكير السنوات الأولى لتجاربك الفنية؟
-دائماً أقول وأكرر: أعتقد، وهذا أكيد، أن طفولتي التي قضيتها مع والدي في ((نفط خانة)) كانت جميلة – ويعجبني أن أراها الآن – لأنها منطقة وعرة وفيها سلسلة من الجبال – تلك هي الطفولة – وما زلت أرى الألوان تتغير بسرعة: الأحمر، الأبيض، الأخضر …
لماذا اخترت الرسم بالذات؟
-كان والدي يأتي بالأخشاب، والأقلام الملونة. فكنت أعمل بالخشب وألوانه. تلك هي جذوري الأولى بالرسم. بعدها كنت أحصل على درجة كاملة بالرسم.
-في السنوات القادمة، في الصف الأول والثاني المتوسط، كان أكرم شكري وسعاد سليم. ولم أكن أعرف الرسم. ولكن الحقيقة في عام (39 – 40) فتح فرع الرسم في معهد الفنون الجميلة، وكان هناك اختبار للطلبة الموهوبين. ذهبت إلى ((عبد الغني الجرجفجي)) وقدمت له لوحة منقولة عن فنان إنكليزي بألوان الباستيل، قال: هذا جيد. وأرسلنا إلى معهد الفنون الجميلة. كان حقي الشبلي بانتظاري – مع 12 طالباً أخر – كنا ننتظر، ولم يمر الأستاذ – لكنه كان قد مر من أمامنا ولم نعرفه – وكان هو الأستاذ فائق حسن. بعد الامتحان نجحت أنا وشخص أخر فقط ترك الرسم فيما بعد.
كيف كانت صلتك بجواد سليم؟
-بعد سنتين من دخولي للمعهد، تأسس فرع النحت، وتوثقت علاقتي بجواد سليم، ضمن تدريسه لمادة تاريخ الفن. وصرت صديقاً لجواد قبل فائق حسن.
ماذا تتذكر عن جواد سليم؟
-الذكريات كثيرة جداً: كنت أجلس بالقرب منه ساعات طويلة. كان ينحت في (مطبخ) معهد الفنون. وكنت أتأمله دائماً. قلت الذكريات لا تحصى..
ماذا تعلمت من جواد؟
-لم يعلمني شيئاً مباشراً، كما علمني فائق حسن. لكن تأثير جواد سليم كان عاماً: لآن أفكاره كانت تنتقل بين الفنانين الشباب. أنه علم الجميع أشيئاً لا تحصى..
حسناً.. وماذا علمك فائق حسن؟
-علمني الأصول الأكاديمية في الرسم بلا شك .. ويضيف بأن فائق حسن دخل المرسم ذات يوم (1944) وشاهد لوحاتهم الأكاديمية. فقال صارخاً ((مزقوا أعمالكم)) مضيفاً أرسموا بحرية تامة يومها تفتحت لدى الشيخلي رؤية جديدة. قال فائق حسن لهم ((أنظروا لوحات)) ((رينوار)) و ((سيزا)) و ((كوجان)) و((فان كوخ)) ويعترف إسماعيل الشيخلي: كان لفائق الفضل الأول طبعاً.
–أي مفهوم تقدمه لمغزى الجماعات الفنية آنذاك؟
أعتقد أن الأمر يرتبط بجانب اجتماعي أولاً. بعد جماعة أصدقاء الفن حدث الفراغ الفني حتى عام (1950) بعد هذا التاريخ تشكلت جماعة الرواد بشكلها الفني. وخاصة في معرضها الأول. في المعرض الثالث لجماعة الرواد، عندما كان جواد قد عاد من لندن، بدأت تتبلور لديه أفكار حول البحث عن التراث العراقي. فأسس جماعة بغداد للفن الحديث. هنا حدثت مفارقة: كانت جماعته تبحث حول التراث العراقي القديم والعربي والإسلامي. أما جماعة الرواد فاتجهت نحو الطبيعة والواقع الاجتماعي.
في فنك محاولة لاسترجاع الطفولة الأولى؟
-نعم. هذا صحيح. ولها جذورها. لأن الفضاء لدى هو الأساس. أنا أحب أن أرسم الأشياء في الخارج. لأنني أحب الفضاء في الطبيعة..
سؤال تقليدي جداً. من يرد بذهنك من الفنانين؟
-سؤال تقليدي جداً. لا أحد! هل أنا بحاجة للكذب كلا. لا أريد أن أكذب..
مازلت تحلم بشيء ما …؟
-نعم. أحلم أن أنجز مشاريع لأعمال منجزة كصور مصغرة (سكيجات) أنا لا أحلم ألا بأربع ساعات من الفراغ لعملي الفني يومياً بسبب عملي الوظيفي.
كيف تعرف الأسلوب الفني؟
-يتكون الأسلوب من مجموعة عناصر فنية. ويتكون الأسلوب بمرور الزمن، وضمن الممارسة اليومية. بدءاً بالموضوع والمضامين وانتهاء بطريقة التنفيذ. فمن الخط، واللون، الإنسان، التوزيع (التكوين) يتكون الفنان، وهذا ما يطلق عليه بالأسلوب الفني..
هل أنت راض عن أسلوبك؟
-جداً وأنا راض عن نفسي وأضاف أشعر بهذا الرضا عندما كان ثمة من يقيم أعمالي. أنهم يقولون لي: أنك إسماعيل الشيخلي.
كيف تقيم واقع الحركة التشكيلية الآن؟
-كنت متفائلاً دائماً. كان جيل الخمسينات قد وضع الأسس الجيدة بعد ذلك جاء جيل جديد. وتفاؤلي ما زال مستمراً.. ولكن الآن أشعر بشيء أخر.. وليس لدي إضافة!!
لماذا أحببت الفن؟
-هو ذا السؤال الذي لا أعرف الإجابة عليه. عليكم أنتم النقاد أن تجيبوا عليه وأضاف بسرعة: لا يوجد أحب من الحياة.. والفن جزء من ذلك.
وأضاف بعد قليل من الصمت:
-أنا أحب رسم المرأة الشعبية. أنها تدهشني ولهذا تكررت في أعمالي. لآن لها نكهة خاصة ربما. ولكنها ذات امتياز فريد. أحياناً أسأل نفسي وأنا في باريس: ماذا أرسم هنا؟ لكنني لا أعرف ماذا أرسم. ألا أنني حالما أرسم أعود إلى المرأة العراقية.
أعمالك تتميز بالغزارة اللونية.. أي تفسير لهذا الأمر؟
-أنه يرتبط بالبيئة … أنه ضوء الشرق: الألوان الغزيرة وقد يبدو اللون الترابي هو السائد، ولكن الألوان الحادة هي الشائعة …
عندما تحدثنا عن الأسلوب، قلت إنه هو الشخصية ولكن ألا ترى بأن هناك تكراراً في أعمالك؟
-الفارق بين التكرار اللوحة الواحدة والأسلوب فارق كبير. الأسلوب هو شخصية الفنان. والتكرار لا يعني التكرار هنا أتساءل ما هو التكرار وما هو الأسلوب: الأسلوب هو الشخصية. أما التكرار فهو خارج هذا الإطار الأسلوب يأتي عبر الزمن من خلال الأصالة. ولكن تكرار الموضوع أمر خارج مفهوم الأسلوب..
النقد التشكيلي لدينا كيف تقيمه؟
-سؤال تقليدي الفنانون، عامة، يعتقدون بأن الحركة النقدية لا توازي الحركة الفنية. لذلك انتبهنا للأمر في السنوات الأخيرة، وباقتراح من دائرة الفنون التشكيلية حصل توجه للاهتمام بالنقد وإصدار كتب نقدية مترجمة أو مؤلفة عن فنانينا ..
إزاء تجاربك الفنية، كيف تعامل النقد؟
-في البداية لم أنصف من قبل النقاد. الآن، الأمر أختلف وقلت قبل قليل: الآن بدأ النقاد يتحدثون عن شخصيتي الفنية وأنا سعيد بهذا الموقف..
عن مجلة فنون 1984