د. محمد سعيد الطريحي
السيرة الذاتية
نسبه وولادته:
هو الشيخ احمد بن الشيخ حسون بن الشيخ سعيد بن الشيخ حمود الليثي “الوائلي” النجفي. ولد في النجف الاشرف يوم الجمعة 17 ربيع الاول سنة 1347، وبها تربى ونشا مع شقائق النعمان تطل على ذلك الوادي الافيح.
ابوه:
هو الاستاذ الخطيب الاديب الراحل الشيخ حسون الوائلي (1890 – 1963م) ولد في النجف وتوفي بها، وكان تاجرا للحبوب قضى اكثر حياته في (ابي صخير) وهو موضع من مملكة الحيرة القديمة، ولما تزوج الشيخ محمد علي قسام شقيقة الشيخ حسون اتصل به كثيرا بحكم هذه المصاهرة، واقنعه الشيخ قسام بسلوك طريق الخطابة الحسينية، فاكب الشيخ حسون على دراسة مبادئ العلوم العربية والاسلامية، واستطاع بنباهته وغناء وحسن حالته ان يطور نفسه ويتفرغ للمطالعة لينمي ملكته الخطابية، مستعينا بالشيخ محمد علي قسام، ويلاحظ ان وعيه السياسي بدأ بالظهور باتصاله بآل قسام – الذين كانوا من الد اعداء الاستعمار البريطاني، فحسن عليهم، وساهم كخطيب بأداء واجبه الجهادي في الثورة العراقية الكبرى ضد الانجليز سنة 1920، وكان شاعرا مقلا ايضا له بعض القصائد في رثاء الحسين عليه السلام، وجدة الشيخ حسون كانت من الأسرة العلمية النجفية آل قفطان الذين ينتسبون الى بني سعد.
أمه:
هي الحاجة بيبي بنت الشيخ عواد بن محمد حسين بن الشيخ علي زيني النجفي، وآل زيني أصلهم من جبل عامل (لبنان) كما ذكر الشيخ محمد السماوي في بحثه عنهم والشيخ علي زيني –المذكور– جد والدته هو الجد الأعلى للأسرة النجفية “آل جدي” الذين منهم الشيخ جابر والشيخ حسن آل جدي.
وللوائلي قربى من جهة امه بالشيخ هادي بن شريف القرشي، والشيخ باقر القرشي وكلاهما من الأدباء العلماء، وامهم بنت الحاج ابراهيم جدي شقيقة الحاج جابر جدي.
نشأته ودراسته:
نشأ في النجف على ابيه نشأة فاضلة، كان فيها عزيز الجانب، موفور الكرامة، شديد الاعتداد بشخصيته، قوي الأمل بمستقبله، متفوقا على اقرانه، مع نباهة وذكاء حادين، وللحاضرة النجفية اثر كبير في نبوغه، كونه خريج مدرستها الكبرى، التي هي اقدم مدرسة للأدب العربي، تلك المدرسة التي مشى إليها الموكب من جزيرة العرب إلى الحيرة، ومنها الى الكوفة، ومنها الى النجف، وهي نسيلة الكوفة او بقيتها، وما برحت النجف مورد اعتزاز الوائلي وفخره:
نجفي يا خميلة في الفيافي وربيعاً يهتز وسط محول
وتراباً معتبرا لست أرضى عن حصاه نجم السما ببديل
يا مغاني العلا ويا مهبط الفكر ومحراب نابغات العقول
يا مهادي الوثير يوم قدومي ووساداً ارجوه يوم رحيلي
نام فيه ابي وشيخي واخواني جميعا في ظل حامي الدخيل
وفي السابعة من عمره درس لدى الكتاتيب وحفظ القرآن الكريم، وكان ذلك في مسجد الشيخ علي نواية في سفح جبل الطمّة من محلة العمارة، وكان شيخه آنذاك الشيخ عبد الكريم قفطان، وبعد تعلمه القراءة والكتابة، وقراءة القرآن الكريم، وبعدما صلب عوده واشتد ساعده، بدأ دراسته بشكليها الاكاديمي الرسمي، والحوزوي الذي يعتمد على قدرة الانسان ونبوغه ومقدرته العقلية، فجمع بذلك الفضيلتين، واستفاد من التجربتين، ففي الاولى انهى الدراسة الابتدائية بمدرسة الملك غازي الابتدائية في النجف سنة 1952، ثم دخل متوسطة منتدى النشر، فكلية منتدى النشر، وتخرج منها بتفوق ومن اقرانه في هذه المرحلة السادة: صادق القاموسي، ومحمد حسن آل ياسين، ومحمد رضا المسقطي، واحمد المظفر.
ولما تأسست كلية الفقه سنة 1958 انتسب اليها، وتخرج سنة 1962 بحصوله على بكالوريوس في اللغة العربية والعلوم الاسلامية، ثم أكمل الماجستير في نفس الاختصاص في معهد الدراسات العليا التابع لجامعة بغداد، وكانت رسالته بعنوان (احكام السجون) ثم غادر الى جمهورية مصر العربية، حيث درس في كلية دار العلوم – جامعة القاهرة، ونال درجة الدكتوراه سنة 1978 عن اطروحته الموسومة “استغلال الأجير وموقف الاسلام منه”.
وخلال وجوده في القاهرة لإعداد اطروحة الدكتوراه درس الاقتصاد في معهد الدراسات العليا التابع لجامعة الدول العربية، ومن اساتذته في هذا الاختصاص كان الدكتور علي لطفي – رئيس الوزراء المصري فيما بعد – يعلق عليه الآمال الكبيرة.
وفي مصر حظي الوائلي باهتمام الفئات المثقفة من العلماء والادباء، لسعة ثقافته وخلقه السامي واجتماعياتهن ومن بين الاعلام الذين استأثر باهتمامهم الدكاترة والاساتذة: احمد الحوفي، وعبد الحكيم بلبع، وتمام حسان، ومصطفى زيد، ومحمد علي السايس، وعبد العظيم معاني، وبدوي طبانه، وعلي الخفيف، وغيرهم.
ولمصر في ذاكرة – الوائلي – أيام لا تنسى من الجهاد العلمي، واللقاءات الادبية المثمرة، وما يتبع ذلك من تبادل في الخبرات وتلاقح في الافكار، وعلى حد تعبيره فإن مصر هي لسان الضاد المعبر، ومنبعها الثر، ووجه العرب المشرق.
عصر الوائلي:
من العوامل المؤثرة في صياغة شخصية الوائلي، هو عامل المجتمع الذي عاصره فالوائلي ابن النجف الاشرف، نشأ في محيطه تربية وتعليما، والنجف من أعرق البيئات الثقافية الاسلامية قدماً، يقول الدكتور على جواد الطاهر:
والنجف مدينة العلم الديني المنقطع النظير، ثم الأدب والشعر، وهي فيهما نادرة من النوادر واعجوبة من الاعاجيب، يعني اهلها بقول الشاعر وسماعه والحديث عنه عنايتهم بالمسائل اليومية من اكل وشرب، انهم ادباء كما يتنفس المرء الهواء.. ولا تسل بعد ذلك – عن الكتب والمكتبات، والاسر العريقة في العلم والادب والشعر ومجالسها الخاصة والعامة، وما يتلى من شعر في الافراح والاحزان، وفي مأتم الحسين بن علي وما يتفاخر به الشعراء ويسمر به الناس..
إن الشعر في النجف حياة، وهو لدى ابنائها ولا أسهل منه او أيسر، او انه فيها كالماء والهواء استسهالا واستعظاما، جدا وهزلاً، وهو مجد كما هو مرتزق، وعلامة فارقة لا تكاد تضاهيها فيه بلدة اخرى في العالم العربي..
ومن خواص النجف التي تذكر بالإكبار انها سايرت التطورات الدينية الادبية في العالم العربي، بصدر رحب وافق واسع فهي مع محافظتها على اصالة الفكر الاسلامي لم تتزمت فترفض المعاصرة، وانما اخذت من وسائلها واسبابها ما رأته الضرورة النافع حتى “ان الكتب الحديثة ما تكاد تدخل العراق حتى تتجه رأساً الى النجف فتتلقفها الايدي هي وكتابات اكثر حداثة كشعر شوقي وحافظ وايليا ابي ماضي، وفيهما ما يناقض الفكر النجفي المناقضة كلها، وهو رد فعل يتبناه الذين ضاقوا بالقديم وبلغ بهم الضيق الطرف الاقصى من رد فعل مطبوعات الاستانة، والهلال، والمقتطف، وشيلي شميل والريحاني.. ومجلات وجرائد مما يعد حراما وكفرا والحاداً..
على كل حال نشأ الوائلي في هذا العصر الذي يعتبر قمة في نضج وسعة المدرسة العلمية النجفية في مختلف ابعاد المعرفة، ومثل هذا الجو لابد ان يفعل فعله في شخصية الوائلي، فقيها كان او شاعراً او خطيباً، ويعمل على صقله وتهذيبه، وبالتالي تكوينه بالشكل اللائق، ولاشك ان للاستعداد الفطري لديه اثر في توجهه وحرصه على الانتهال من هذا الغدير الذي يحمل سمات المعلم الثاني بالوجود الامام امير المؤمنين عليه السلام، ومن قدس روحانية مرقده السامي الرابض كالابد على الذكوات البيضاء من الغري الاغر، ومن فيض نفحاته وبركاته ان عايش الوائلي واقرانه هذه الاجواء الرائعة التي قد لا يجود الدهر بمثلها، وعاصروها وتفاعلوا معها فكراً وعقلا وروحاً، واستطاعوا ان يعطوا، ويؤثروا في الاوساط العلمية والاجتماعية.
ومن المفيد هنا الاشارة ايضا الى ان كلا من الدراسة الحوزوية، ومناهج المنبر الحسيني في هذا العصر كانت تتسم في جو شديد من المنافسة تتميز به مدرسة النجف العلمية في اصالتها وعمقها، وما يلاقيه طالب العلم من صراع في سبيل تحقيق ذاته، وإثبات وجوده، ولا دور في مدرسة النجف إلا للموهوبين الذين يمن الله تعلى عليهم باستعداد خلقي بالإضافة الى جد في السعي والتحصيل، وحلقات تتبارى فيها الكفاءات من اساتذة لا معين يحرص كل منهم على انتاج مميز يساجل به الاخرين مما يعرفه من طلاب العلم في الأسر العلمية في النجف، وكذلك بجيل مميز من الخطباء حقق نقلة في المنبر الحسيني من مجرد كونه محركا عاطفيا يعتمد على اثارة الشجون والحزن لمأساة الطف، الى مرحلة حفلت بالسرد التاريخي وربط الحوادث بعظات وعبر وشيء من العقائد والاحكام توضع في اطار ادبي، ومنهج من مفرداته النصوص الادبية بقسميها الشعر والنثر وسير الصالحين والعظماء، وكانت المرحلة بالنسبة للوائلي حافزاً له على استثمارها وبناء الاسس عليها منطلقا الى ما هو اوسع واشمل، ومعتمداً في ذلك على امكاناته العلمية لتحقيق ذلك وفق قنوات منهجية وعلمية، ونجح الوائلي في ذلك نجاحاً عريضا، وسرعان ما امتد صيته الى الملايين من ابناء الطائفة في العالم العربي والمهجر وبالطبع فليس من السهل نجاح مثل هذا الاسلوب الذي عرف به الوائلي، لأن مستمعي المنبر يختلفون في وضعهم الثقافي، ويتنوعون من امى الى جامعي، فلست تملك قدراً جامعاً يرضي اذواق هؤلاء مالم تتنوع المعلومات، ويتم اختيار منهج لبق يوازن بين حاجات هؤلاء في انسجام وربط ذكي، وذلك ما وفق فيه الوائلي الى حدٍ كبير مع ما تميز به حضوره من جرأة ادبية عالية ولباقة نادرة وبديهة حادة، فطفق شعاع مجالسه الثرة يخطف ابصار المعجبين، واخذ سحر بيانه يستولي على الباب المؤمنين، وطار صيته في كل المرابع والنوادي واشتهر امره في الحواضر والبوادي وبذلك تسنم عرش امارة الخطابة الحسينية بحق وحقيقة، فهو اليوم امير المنبر الحسيني بلا منازع، ولا يجادل في ذلك إلا معاند او جاهل،
وذلك من الله لطف وتدبير بل هو فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده، فبورك للوائلي امارته في رحاب سيد الشهداء ابي عبد الله الحسين بن علي عليه السلام