د. ابراهيم خليل
سليمان الصائغ مؤرخ موصلي، ورجل دين مسيحي ولد بالموصل سنة 1886، واتم دراسته اللاهوتية في مدارسها الدينية، ثم اشتغل بالتعليم وادارة المدارس، وعين عضواً في (لجنة فحص المدارس الاجنبية)، ثم أصبح رئيساً لتحرير جريدة الموصل التي صدر عددها الاول في 25 من حزيران 1885م،
وتوقفت عند نشوب الحرب العالمية الاولى، ثم اعاد المحتلون الانكليز اصدارها بعد دخولهم الموصل في تشرين الثاني 1918 وعندما برزت مشكلة الموصل إثر مطالبة الاتراك بها، كان سليمان صائغ عضواً نشيطاً في (جمعية الدفاع الوطني) التي قامت بدور كبير في تأييد عروبة الموصل. أصدر سليمان صايغ مجلة (النجم)، وقد ظهر في صدر صفحتها الاولى انها مجلة شهرية دينية تاريخية اجتماعية.
واهتمت المجلة، منذ صدورها سنة 1928 حتى توقفها سنة 1955، بالدراسات الدينية والثقافية والتاريخية. ويعد صايغ من أبرز الكتاب الرواد الذين اهتموا بالمسرحية التاريخية في العراق، فمن خلالها حرص على تقديم الوقائع التاريخية بأسلوب قصصي مشوق، ويشير الاستاذ الدكتور عمر محمد الطالب في بحثه الموسوم: (سليمان صايغ: ادبه الروائي والمسرحي)، المنشور في مجلة بين النهرين، العدد (19)، 1975، الى ان سليمان صايغ، استخدم التاريخ لأغراض دينية، تربوية وحرص على جذب القارئ وتقديم الحقائق بأسلوب بسيط خال من التعقيد، وكان همه الرئيس (نشر فكرة الاصلاح الاخلاقي والاجتماعي والتربوي).
وقد جاءت كتاباته شبيهة بكتابات الكاتب المصري جرجي زيدان 1861 – 1914، وخاصة في رواياته التاريخية التي استهدفت من ورائها العمل على احياء وعي العرب لماضيهم المجيد. لقد اهتم سليمان صايغ بالتاريخ، وبتاريخ مدينته الموصل بشلك خاص، لذلك ألف كتابه القيم (تاريخ الموصل) والذي صدر في ثلاثة اجزاء.
ويذكر المرحوم الدكتور عبد الجبار الجومرد في كتابه المخطوط (الموصل والتاريخ منذ أقدم العصور حتى اليوم) الورقة: ان الموصل لم تشهد، منذ ان فرغ المؤرخان العمريان محمد امين وياسين ولدي خير الله من كتابة مؤلفاتهما في اواخر القرن التاسع عشر، من اهتم بتدوين اخبارها حتى مطلع القرن العشرين، عندما ظهر سليمان صايغ). وقد بين صايغ اسباب اهتمامه بتاريخ الموصل قائلا: وعلى هذا نجد اليوم تواريخ مسطرة لكل مدينة، اشتهرت بآثارها، واخبار دولها ومشاهير رجالها، الا اننا لسوء الحظ لم نجد للموصل الخضراء تاريخا خاصا بها يوقفنا على قدميها، وينطوي على اخبارها. على الرغم من ان الاقدمين من فحول علماء الموصل عنوا بتدوين تاريخها واستيعاب الطارف والتالد من اخبارها ويضيف الى ذلك رغبته في خدمة وطنه من خلال التاريخ لمدينته.
وقد خصص صايغ الاول من كتابه للتاريخ السياسي، اما الجزء الثاني فخصصه للتاريخ الثقافي وكرس الجزء الثالث لنفائس الاثار والمباني العربية – الاسلامية في الجزء الثالث من كتابه، تحدث كثيرا عن معلم مهم من معالم مدينة الموصل، وهو (باشطابيا) اي القلعة الرئيسة، وهي كلمة تركية تتألف من مقطعين (باش اي الرئيسة وطابية اي القلعة). وتقع باشطابيا شمالي شرق المدينة، وموقعها داخل اسوار الموصل. وقد اشار صايغ الى ان بعض المصادر ذكرت ان القلعة كانت خارج الاسوار وهذا غير صحيح فباش طابية او ما يسميه هو (الدير الاعلى او دير ما كوربيل) (يقع داخل الاسوار المندثرة ملاصقا لها بذيل برجها الاعلى باشطابيا). ونقل صايغ عن المؤرخين والبلدانيين العرب والرحالة الاجانب انطباعاتهم عن القلعة، فالعمري في كتابه مسالك الابصار قال ان الدير الاعلى بالموصل يقع في اعلى جبل مطل على دجلة، دير، يضرب به المثل في رقة الهواء وحسن المستشرق وظهرت تحته عدة عيون كبريتية.. والى جانب هذا الدير مشهد عمر بن الحمق الخزاعي الصحابي. ووصف المقدسي الدير الاعلى قائلا: والدير الاعلى في اعلى نقطة من البلدة فوق دجلة.
وذكر ابن خلكان عن الحسين بن نصير الحمداني انه توفي في الموصل سنة 949م ودفن في المسجد الذي بناه لنفسه في الدير الاعلى، ولا أثر اليوم لهذا المسجد. وزار الرحالة البريطاني (اينسوورث) الموصل سنة 1837 وكتب يقول: ان الموصل من المدن القليلة التي حفظت اسوارها من الخراب، ومنها باشطابيا وهي بناية عظيمة. اما الرحالة البريطاني الاخر (بارج) فكتب عن زيارته للقلعة سنة 1850 دير علايتا اي الدير الاعلى المخصص بمار (القديس) كوربيل: يقع في الشمال الشرقي من مدينة الموصل ملاصقا تماما لسور المدينة. لقد كان لقلعة باشطابيا دور مهم في الدفاع عن الموصل ابان حصار نادر شاه لها سنة 1743، وبعد انتهاء الحصار جدد الحاج حسين باشا الجليلي ما خرب من القلعة نتيجة تساقط قنابل الغزاة: وفي يوم الاحتفال بانتهاء التجديد انشد عبد الجمال حسن قصيدة جاء في مطلعها:
في هيكل الدير قم وانظر تر عجبا من الاشعة كالمصباح مقبوساً
ويذكر صايغ ان كنيسة الطاهرة، هي هيكل الدير الاعلى، فقد كان هذا الدير يشغل بقعة واسعة الارجاء وفي وسطه هيكله المعروف اليوم بكنيسة الطاهرة، وكان الدير الاعلى ملاصقا للسور على يسار الصاعد الى باشطابيا. ويشير المؤرخون الى ان المأمون عندما زار الموصل في طريقه الى الشام حوالي سنة 830 م (حل في الدير الاعلى اقام فيه اياما لطيبه ونزهته) وقد صادف عيد الشعانين، فجلس المأمون في موضع منه مشرف على دجل والبساتين ويشاهد من مدخل الدير والجدير بالذكر العادة الجارية عند اهالي الموصل من المسيحيين، زيارة مذبح الدير الملتصق بجدار السور المطل على دجلة بذيل باشطابيا وايقاد الشموع امامه، ويختم سليمان صايغ حديثه عن باشطابيا قائلاً ان الدير الاعلى ضم مدرسة عرفت بمدرسة ام الفضائل، وكانت اشبه بجامعة لمختلف العلوم المزدهرة ايام الدولة العربية الاسلامية في العصر العباسي، من آداب ولغة وفلسفة وطب. وقد شهد بشهرة المدرسة ابو عثمان الخالدي الموصلي بقصيدة استذكر فيها دور الرهبان في استلهام حكمة وطب ابقراط ولحن اسحق الموصلي ونحو المبرد واشعار الطرماح.
لقد واجهت (القلعة الرئيسة) هذه، الكثير من التخريب، لعوامل مختلفة، كما ادخلت عليها بعض الترميمات، ولأستاذنا الكبير، شيخ المؤرخين الموصلين سعيد الديوه جي بحث مهم عن اسوار الموصل وعن التخريبات والترميمات التي لحقت بها منذ اول تأسيسها. ونرى اليوم انها بحاجة في ترميم واصلاح لتظل شاهدة على ان الموصل عصية على كل غاز ومعتد اثيم..
من كتاب (شخصيات موصلية) للدكتور ابراهيم خليل