تقويم اضطرابات فرنسا الاخيرة .. هل اليمين المتشدد يرسم آفاقا مرعبة لأوروبا؟

متابعة – التآخي

تابع الإعلام الأوروبي بقلق الاحتجاجات على قتل الشرطة للمراهق “نائل”، في أعمال عنف هي الأسوأ في فرنسا منذ عام 2005، أعادت قضية الهجرة لصلب الاهتمامات، في وقت تزداد فيه قوة اليمين الشعبوي في وأوروبا عموما على وفق عدد من الباحثين.

واجتاحت فرنسا موجة من والاحتجاجات الحاشدة بعد قتل شرطي للمراهق نائل (17 عاما)، برصاصة أطلقها ابان عملية مراقبة مرورية. الاحتجاجات اتخذت شكل هجمات ونهب وتخريب ومناوشات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين. وبرغم وضع الشرطي المعني رهن التحقيق للاشتباه في ارتكاب جريمة قتل، إلا أن ذلك لم يكن كافيا في الأيام الأولى في الأقل لإخماد غضب المحتجين، قبل أن تهدأ الاضطرابات تدريجيا.

وأعادت هذه الاضطرابات إلى الأذهان كابوس أحداث احتجاجات مماثلة حدثت في الماضي، آخرها كان عام 2005 حين اشتعلت فرنسا بكاملها على مدى ثلاثة أسابيع، ما دفع الرئيس الراحل جاك شيراك إلى إعلان حالة الطوارئ، بعد وفاة شابين صعقا في محطة للكهرباء في أثناء اختبائهما من الشرطة.

 

وبهذا الصدد تناولت صحيفة “دي فولكس كرانت” الهولندية (عدد 6 تموز 2023) أسباب الاضطرابات في فرنسا وكتبت “لا يمكن بسهولة تغيير وضع التركز الشديد للفقر والأقليات العرقية في عدد محدود من الضواحي، ومع ذلك، يمكن اتهام الرئيس ماكرون بتخليه وبسرعة عن الاهتمام بمشكلات هذه الأحياء؛ ففي وقت مبكر من عام 2018، وضع جانبا تقريرًا يتضمن مقترحات طموحة لمحاولة حل هذه المعضلة،غير أن الضواحي تذكر بنفسها دائما، فهي غير قابلة للنسيان، كما أظهرت الأسابيع القليلة الماضية”.

و تعشق فرنسا دوما التذكير بانموذجها الجمهوري الديمقراطي: جميع الفرنسيين متساوون، بغض النظر عن لون البشرة أو الدين أو الأصل. لكن الفجوة بين هذا الطموح من جهة وممارسة الحرمان والتمييز والعنصرية من جهة أخرى، بحسب المراقبين، هي بالضبط ما يجعل الانقسامات الاجتماعية في فرنسا أكثر مرارة. ويشعر الشباب في الضواحي بالرفض والاحتقار من قبل جمهورية لا تستطيع أن ترقى إلى مستوى مُثلها العليا، على حد وصفهم. يأتي ذلك في سياق تنامي قوة اليمين المتشدد في فرنسا وعموم أوروبا.

و موجة الاحتجاجات الحاشدة الاخيرة بعد قتل شرطي للمراهق نائل، اتخذت شكل هجمات ونهب وتخريب ومناوشات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين. برغم وضع الشرطي المعني رهن التحقيق.

الحكومة الفرنسية شددت على أن أولويتها ستكون توفير مساعدات عاجلة للمناطق المتضررة من العنف.

وفي دول مجاورة لفرنسا حاولت الأحزاب اليمينية الشعبوية كحزب البديل من أجل ألمانيا استغلال الاضطرابات في فرنسا لرفع شعبيتها.

ووجد اليمين الشعبوي في عدد من البلدان الأوروبية في أعمال العنف التي رافقت مقتل “نائل” مناسبة لتأكيد قناعته بفشل انموذج المجتمع المتعدد الثقافات في أوروبا. وبهذا الصدد قال القيادي في حزب “البديل من أجل ألمانيا” ديرك نوكيمان (في الخامس من تموز 2023) “إنها مسألة وقت فقط حتى يحدث انفجار مماثل لما حدث في فرنسا بسبب الإحباط والكراهية والعنف وبالتالي زعزعة بلدنا”. وقال ألكسندر فولف زميله في الحزب “حقيقة أن هذا يهددنا في ألمانيا”، وأشار إلى أعمال الشغب عشية رأس السنة الجديدة في هامبورغ، وأعمال الشغب العشائرية مؤخرًا في مدينة إيسن وكاستروب روكسيل واستطرد فولف موضحا “الائتلاف بين الاشتراكيين والخضر في هامبورغ والائتلاف الحكومي الاتحادي يغلقون أعينهم ويغلفون أنفسهم في عالم من الأخبار المزيفة الذي يدور بشأن النوع الاجتماعي وهوس المناخ ومحاربة اليمين المتشدد”، على حد قولها.

ويرى المراقبون أن الأحداث الفرنسية استعملت ايضا من قبل دول لا ترحب بالمهاجرين عادة، وفي هذا السياق كتبت صحيفة “ترود” البلغارية (5 تموز) “ليست فرنسا وحدها هي التي تحترق، ولكن أيضًا سياسة التعددية الثقافية التي جرى فرضها لسنوات عديدة التي أدت إلى هذا التطور برغم الجهود العبثية لإدماج المهاجرين، وكذلك جهود إدماج الجيلين الثاني والثالث بنجاح في الثقافة الوطنية، يحاول الرئيس إيمانويل ماكرون مرة أخرى دفن رأسه في الرمال في انتظار مرور العاصفة”، بحسب تعبير الصحيفة.

الوضع دفع بمكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى التعبير عن قلقه بشأن الوضع في فرنسا وحث باريس على معالجة التمييز العنصري. وقالت المتحدثة رافينا شامدساني “هذه فرصة للبلاد لتعالج بجدية المشكلات العميقة المتعلقة بالعنصرية والتمييز العنصري في إنفاذ القانون”.

من جهته الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعد “بحلول جوهرية ” بقوله في اجتماع (الرابع من تموز) مع 241 من رؤساء بلديات المدن المتضررة من الاضطرابات التي شلت البلاد، إنه لم يعد هناك مجال لتكرار ممارسات تكرست منذ عقود، مشددا على أن الأولوية هي “إعادة النظام والهدوء والوفاق، ومن ثم العمل على معالجة الأسباب الجذرية” لهذه الاحتجاجات العنيفة، غير أن ماكرون لم يقدم أي تصور شامل لحل هذه المعضلة من جذورها، بحسب المحللين.

وهذا ما ذهبت إليه صحيفة “دي بريسه” النمساوية الناطقة بالألمانية (السادس من تموز) “هذه الاحتجاجات لا يمكن اختزالها في الطابع العرقي أو الإيديولوجي، إنها تعبيرات عن الغضب، والإحباط، والعزلة، والفوضى والطاقة الإجرامية، وهي تقوي كثيرا من الفرنسيين في تحيزاتهم ومخاوفهم التي تستفيد منها الأحزاب المتطرفة ومثل كل أسلافه، من الواضح أن ليس لدى ماكرون حل لإنهاء العنف في الشوارع؛ في الوقت الحالي يحاول إعطاء الانطباع بأنه لم يفقد السيطرة، لهذا ينزلق إلى دور القائد الصارم. ولكن إذا تجاوز الحدود الديمقراطية، على سبيل المثال من خلال فرض الحظر على الإنترنت، فإنه يغامر بدخول منطقة خطرة: فهو سيضفي الشرعية على الأساليب الاستبدادية للأحزاب المتطرفة”.

وأثار مقتل نائل برصاص الشرطة موجة من ردود الفعل في فرنسا وأوروبا، عبر طرح جملة من الأسئلة القديمة الجديدة المرتبطة بعجز الدولة الفرنسية عن إصلاح هذه المؤسسة الخارجة تقريبا عن الرقابة والمرتبطة بنقابات قوية، إذ ان فرنسا بلد يتعرض بشكل دوري لإعصار الاحتجاجات ترافقها عادة دعوات قوية لقمعها، في ظل تنامي التيار اليميني الشعبوي، في حين تواجه مؤسسة الشرطة سلسلة من الاتهامات بتفشي العنصرية في صفوفها واتباع نهج تمييزي قائم على التصنيف العرقي سواء في عقيدتها أو أساليب التجنيد والتدريب.

وحذرت عدد من الأصوات من غض القوى السياسية الطرف عن معالجة هذه المعضلة، داعية إلى أخذ العبرة من الولايات المتحدة وبريطانيا التي شهد فيها أجهزة الشرطة لإصلاحات متتالية بعد تجاوزات مماثلة. وبعد أزمة “السترات الصفر” التي شهدت بدورها احتجاجات عنيفة وقمعا كبيرا من الشرطة، تجددت الانتقادات لعقيدة الشرطة الفرنسية؛ كما يُعزى ارتفاع عمليات إطلاق النار المميتة برصاص الشرطة في السنوات الأخيرة إلى إصلاح قانون عام 2017، الذي وسع الظروف التي يمكن فيها للشرطي استعمال سلاحه الناري.

وبهذا الصدد كتبت صحيفة “إن.إير.سي” الهولنديةمعلقة “إن حقيقة أن الأشخاص ذوي البشرة الداكنة في الأحياء الهامشية يواجهون عمليات تفتيش تعسفية ووحشية في كثير من الأحيان من قبل الشرطة وبشكل متكرر أكثر من أي مكان آخر، ويشعرون أيضًا بالتهميش بسبب أشكال أخرى من التمييز، يجعل الوضع لا يطاق بالنسبة للكثيرين”. وتستمد الشرطة قوتها من النقابات التي تتمتع بنفوذ واسع تجعل رجال الشرطة يدينون لها بالولاء من أجل الترقية الوظيفية، كما أن الحكومات المتعاقبة تحسب لها ألف حساب، ما يزيد من مخاوف انفلات هذا الجهاز من المراقبة وبالنتيجة فقدان السيطرة عليه.وجميع وزراء الداخلية الذين حاولوا إصلاح جهاز الشرطة أدوا ثمن محاولتهم غاليا، وآخرهم كان كريستوف كاستانير الذي قدم مشروع إصلاح يمنع استعمال الخنق في أثناء اعتقال الأشخاص وكذلك إصلاح هيئة مراقبة الشرطة “إي.جي.بي.إن” التي يُعتقد على نطاق واسع أنها لا تتمتع بالاستقلالية الكافية وأن تحقيقاتها تطبعها المحاباة تجاه الشرطة.

مشروع كاستانير وُوجه برفض نقابات الشرطة وبعدها جرى تعيين الوزير الحالي جيرالد دارمانان خلفا له.

ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية “أ.ف.ب” (السادس من تموز) أن البحرية الفرنسية فتحت تحقيقا في مزاعم عن مشاركة جنود خارج الخدمة من مشاة البحرية في قمع “مثيري الشغب” في مدينة لوريان التي تضم قاعدة عسكرية كبيرة، وذلك نقلا عن وزارة الدفاع الفرنسية. من جهتها، نشرت صحيفة “لو تيليغرام” المحلية صورا لأفراد ملثمين من “مجموعات مناهضي الشغب” كما تسمى وهم يقومون بصد مرتكبي أعمال الاحتجاج وضربهم في المدينة؛ كما أوردت الوكالة نقلا عن صحيفة “ويست فرانس” شهادة شاب يبلغ من العمر 25 عاما قال فيها إنه عضو في القوات المسلحة وتدخل لدعم الشرطة مع نحو 30 من زملائه حتى “لا يتركوا البلد يحترق”. ونقلت “لو تيليغرام” نهاية الأسبوع عن ضابط شرطة لم تذكر اسمه قوله إن ضباط الشرطة سمحوا في البداية لمجموعات “مناهضي الشغب” بالتدخل “لأن ذلك كان يساعدنا”، قبل أن يدركوا “أنهم كانوا يقومون بذلك بقوة قليلا”.

هذا التطور المقلق يؤكد أن الأمور لم تتحسن في فرنسا، بل تزداد سوءا بعد كل موجة احتجاجات جديدة. موقع صحيفة “راينشه بوست” الألمانية كتب (الثاني من تموز) معلقا “إنها صور تشبه صور الحرب الأهلية: سيارات محروقة، نوافذ محطمة، متاجر منهوبة ومتظاهرين ورجال شرطة مصابين”، واستطردت الصحيفة قائلة، إن الاضطرابات التي حدثت في الأيام القليلة الماضية لا علاقة لها باحتجاجات سياسية، بحسب الصحيفة “إنها تعبير عن مجتمع محطم جزئياً ووحشي، لا زال يوصف بشكل معتدل للغاية بالاندماج الفاشل، فعندما ينتفض القاصرون، الذين تقل أعمارهم عن 13 عامًا أحيانًا، ضد “البلد العظيم (فرنسا)” فإن العديد من الأشياء تنكسر لدرجة أن المرء يكاد يفقد الأمل في التحسن في البلد المجاور. لم يتغير شيء في ضواحي المدن الكبرى لمدة طويلة”.

ويعيش المجتمع الفرنسي انقسامات عميقة في وقت تشهد فيه أفكار اليمين المتطرف انتشارا متزايدا في مشهد سياسي وإعلامي تطغى عليه الشعبوية؛وتكرست هذه المعضلة في حملتي تبرعات الأولى قاربت حصيلتها مليون ونصف المليون يورو لصالح عائلة الشرطي الذي قتل نائل، ما أثار جدلا واسعا بل وحرجا في جزء من الرأي العام. الحملة أشرف عليها الإعلامي اليميني المتطرف جان مسيحة (مصري الأصل) الذي كان من كبار داعمي المرشح إريك زمور (جزائري الأصل) في الانتخابات الرئاسية لعام 2022. ففي وقت انتقدت فيه شخصيات يسارية، بعضها من اليسار المتشدد، الحملة ووصفتها بالمخزية، دافع عنها اليمين المتطرف وعدها دعما للشرطة التي تواجه أوضاعا صعبة في ضواحي المدن الفرنسية، على وفق وصفه. وبهذا الصدد دعا زعيم الحزب الاشتراكي أوليفيه فور منصة “غو فند مي” التي تروج للحملة، بوقفها عادا أنها توسع الهوة في المجتمع الفرنسي، لأنها تدعم رجل شرطة يخضع للتحقيق، أما حصيلة التبرعات التي حصلت عليها عائلة نائل لحد الآن فلم تتجاوز 352 ألف يورو.

فرنسا بدأت تتحول تدريجيا إلى “رجل أوروبا المريض”، بحسب تعبير بعض المعلقين، فلقد هدأت بالكاد الاحتجاجات ضد إصلاح نظام التقاعد، وقبلها خرج أصحاب “السترات الصفر” إلى الشوارع كل يوم سبت للتعبير عن استيائهم الشديد عن ظروفهم المعيشية؛ وها هو الشباب المنحدر من أصول مهاجرة يضع الأصبع على جرع عميق آخر يزداد حدة كل يوم. صحيفة “أوغسبورغه ألغماينه” الألمانية كتبت “هذه الأزمة الجديدة تبدو مخيفة ويائسة أكثر من سابقاتها،أسباب التصعيد الحالي معقدة ومتنوعة، تجد جذورها في التاريخ الاستعماري الفرنسي وصولا إلى هجرة اليد العاملة في الستينات من القرن الماضي، حيث تم إنشاء مجمعات وظيفية في ضواحي المدن تدهورت بمرور الوقت وأصبحت أماكن للإقصاء والتهميش ونقص التعليم والآفاق، أضف إلى ذلك عنف الشرطة المفرط، لا سيما في البؤر الاجتماعية الساخنة، التي غالباً ما تتميز بالاتجار بالمخدرات والجريمة”، على حد وصف الصحيفة.

قد يعجبك ايضا