الناقد: علي حسن الفواز
ثمة ما يجعل الكثير من النقاد يقفون عند تجربة القاص جليل القيسي بنوع من التأمل العميق بحثا عن عوالمه الغامضة واسراره التي تصطنع لها شفرات خاصة وامكنة أكثر توهجا بالإنسان الحالم والمتمرد، وهذا ما يمنح تجربة القيسي اغواء، ليس باتجاه الكشف عن الخصائص السردية والبنيات الحكاية في كتاباته حسب بقدر ما يفضي الى (كشوفات) اخرى للزمن السياسي وارهاصاته واسئلته باعتبار ان القيسي جعل من هذا الزمن اطارا لكشف جوهر القمع والاقصاء الذي يواجهه الانسان بحثا عن حريته ووجوده.
المكونات السردية في تجربة القيسي تملك خصوصية بنائية واسلوبية لا تعمد الى التوظيف الحكائي الافقي القائم على اساس انثيالات الفكرة وتراكم الاحداث، وانما ينزاح الى تفكيك هذه البنيات وتوزيعها عبر تركيبات تتصاعد كرؤى متعددة واصوات متعددة في داخل النص القصصي على اشكال رؤى واصوات داخلية وخارجية، حتى تبدو وكأن تركيبها البولو فوني هو الجوهر الباث لحيواته وافكاره والصانع الماهر لأمكنته الموغلة في جغرافيا الزمن السياسي والزمن الحكواتي.
وحين مات جليل القيسي ساحر آرانجا!! انكشفت تلك الحكايات عن نبوءة كان يرسلها عبر قصصه، حاملا معها توجساته القلقة من ان مدنه وسجونه الموغلة بعيدا هي حاضرة في كل زمان سياسي لا يؤمن بالإنسان وحريته واحلامه، وان زليخا القديمة هي ذاتها الجديدة التي ترتكب خطيئة الجسد والغواية والقميص، وان العزيز القديم هو ذاته الذي يصنع السجون والطرد والاخصاء للإنسان.
لقد حفظت لنا قصص جليل القيسي وطوال سنوات نمطا من الكتابة المتوترة، العميقة في توصيفها والمحرضة على التمرد ابطاله من المغامرين الباحثين عن معنى الوجود والحرية نتلمس وجودهم في ابطال الاساطير والروايات التراجيدية، اذ هم يحملون رؤاهم العالية لكنهم مكسورون بالقسوة والقمع والانسحاق.
مات جليل القيسي الساحر والحكواتي الغائر في غواية الامكنة، والعالق على حيطان آرانجا كأنه احدى ايقوناتها هو لم يبارحها منذ ان جاء ابوه (المغامر) الى اغواءات هذه المدينة المشتعلة والغامضة اختلط بذاكرتها وبلبلة لغاتها وانوثة نسائها.
تشكلت طفولة جليل القيسي وسط هذه البانوراما المدينية المدهشة، كبر عند سفوحها دون (اوهام ضالة) كل ما فيها كان يؤجج روحه بالأسئلة ! ويفتح ذاكرته الغضة على عالم محدود في (عرفة) تلك المدينة الضيقة والانيقة والملتبسة لكنه بالمقابل كان يتسع لحيوات ضاجة ولغات تفور بها تلك المدينة والتي بدأت تتسلل من شقوق الامكنة والهويات المخلوطة فيها تتشابك عند يومياته وذاكرته دون خدوش او عطالة في المعنى او الافصاح، انها في حوار صاخب ابدا.
لم تفارق القيسي لعبة الكشف عن اسرار الامكنة واللغة والحيوات الغائرة للمغامرين في هذه المدينة، كان مهووسا بتأمل هذا الضجيج والتشابك بأصواته ولغاته، ربما ادرك انه في زمن معرفي لا يتكرر، تسلل بحرفنة الطفولة وشغبها الى ما تحت جلد هذا الزمن، مارس سحرية الحاوي والمهرج والحالم بحثا عن سرانية المدينة الكبيرة (ارانجا ) المفتوحة على الاخرين والتي لم تطرد احدا من مغامريها.
لقد اصبحت آرانجا مدينته الكونية التي اخذته بعيدا الى كونية المعرفة والسحر، لم يشأ ان يتركها دون ان يصيبه الحنين!! اذ عاد اليها عجولا شغوفا حينما خذلت (هوليود) احلامه في ان يصبح نجما سينمائيا على طريقة الساحر الاخر (كلارك كيبل) اذ كان مأخوذا بهذا العالم الغريب والمليء بالدهشة!!
جليل القيسي نسيج من (الابداعات) المتعددة، يكتب بطريقة استثنائية وصاخبة، لكنه يفكر بصمت وفرادة غريبة رافقته الى سنواته المتأخرة!! اكتشف مبكرا مع مجموعة من اصدقائه (الارانجيين) صلاحية اخرى للكتابة تحوز على شروط السحرية والعبث والتمرد و(التبلبل) في اللغات الاخرى التي تضج بها المدينة دون حساسيات او عقد عصابية أو لغوية .
لذا كانت (جماعة كركوك) صناعة استثنائية في هذه الكتابة وفي الزمن الثقافي ذاته مثلما كانت كشفا عن تشكيل ملامح غريبة لاصطناع (لعائلة الثقافية) تلك التي تملك جينالوجيا غرائبية!! تجذبه اليها بنوع من المراودة، تتمثل حوار ابنائها والفتهم وحميميتهم بإغواء غريب، لكنها تمنحهم صلاحية التمرد والخروج بقسوة على مألوفات المقايسة والادلجة التي كانت تضج بها حياتنا الثقافية العراقية في الستينيات.
واعتقد ان هذه المرجعيات المضادة هي التي جعلت النص القصصي الذي يكتبه جليل القيسي نافرا وغير مألوف، و ربما يملك جنوحا للتمرد على عن يوميات الكتابة السردية والواقعية باتجاه الكتابة المغامرة النافرة والتي تهجس بقسوة التحولات الاجتماعية والسياسية وانكسار الحلم الرومانسي، اذ هي تشيء بواقع كابوسي ونكوصي، وابطال مستلبين مطرودين يبحثون عن احلامهم وحرياتهم، وامكنة يشوبها القلق والموت، وكأنه بصناعته لهذه الامكنة الطاردة يحافظ سرا على مكانه (الآرانجي) الحميم والحالم ولاشك ان هذه التحولات السردوية اجترح لها القاص خصائص وتقنيات جمالية واسلوبية وربما رؤى غائرة لا يمكن تحديدها في اطار ما تعارف عليه النقاد في قراءة مرحلة الستينيات المحتشدة بالتجريب والمغامرة، لان القيسي ورغم تمثله لبعض شروط هذه (الوصفية النقدية) الاّ انه تميز بكتابة النص القصصي المفتوح الذي يقارب في سرديته المركبة الكثير من خصائص ( خطاب الشعرية) بوصفها روح الشعر/ الكتابة الذي يؤجج نصه بقوة الروح والفكرة واللغة وربما كانت هذه الفكرة هي ذاتها التي قال عنها الناقد د. شجاع العاني بان القاص جليل القيسي يكتب (القصة الثقافية) اذ انه (لم يعد يتناول في قصصه تجارب واقعية ولا شخصيات انسانية من الواقع باستثناء شخصية غاليا، وانما صار يلجأ الى استثمار ثقافته الادبية والفنية والتاريخية مادة اساسية في قصة تقوم على نصوص الاخرين وقد وظف القيسي في قصته الكثير من مطالعاته وزيّن متنه القصصي بأقوال من الاغريق والفيلسوف الالماني شوبنهاور والفيلسوف الصيني كونفوشيوس وعرّج ثانية الى الفلاسفة الالمان، فقد اورد مقولة لنيتشه/الحياة امرأة/ ثم تتدفق كلمات للشاعر الاسباني رافائيل البرتي، والاثير دوستوفسكي يذكر اسمه فهو ضيف حميم على كتابات القيسي ولا ينسى الشاعر الانكليزي شيللي ان السيطرة مثل الوباء الجارف تلوث كل ما يلمسه).
ان محمولات البنية القصصية التي يعمد القيسي الى توظيفها تنحو باتجاه تمثل كتابة هذه البنية على اساس انها فكرة جوهرية عند الانسان /البطل، اذ ان ابطاله واعون جدا لأزماتهم العميقة ازاء الوجود والذات، قلقهم قلق فلسفي، لهم اسئلتهم ولهم تغريباتهم، وكذلك هي بنية نصية/ سردية تفترض نمطا من التدوين المركب الذي يجعل من البنية السردية بنية باطنة تحمل في مكنونها الكثير من الشفرات والدلالات، ولعل هذا الانتقالات هي التي جعلت كتابات القيسي مع بعض مجايليه مؤشر على التحول الكبير في السردية العراقية ودخولها مرحلة التجريب الميتا واقعي.
وهذا ما تجلى في اغلب كتاباته بدءا من مجموعتيه (صهيل المارة حول العالم) و(زليخا البعد يقترب) وصولا الى مجوعته الاخيرة (مملكة الانعكاسات الضوئية)
ان خصوصية (البنية القصصية) على المستوى السردي والتوصيفي رغم جوهريتها، فهي عند القيسي تؤشر لانزياح فني وبنائي يستثمر فيه تقنية التجريب (الروائي) الخاصة بالوظيفة الصوتية، وتقنية ما وراء السرد، اذ يجد في التقنية الاولى مجالا لتركيب مجموعة من الاصوات في اتجاه واحد يتمحور حول جوهر (بطله) ورغم ان هذه التقنية تبدو ثقيلة في القصة الواقعية، لكن القيسي يضفي عليها نوعا من الانثيالات الوصفية والسحرية بما يجعل النص القصصي قابلا للتمركز على فكرة تتجوهر فيها مجموعة افكار ثانوية لها تعقيدات ذهنية ووجودية ونفسية وكأنها تكشف لنا عن الطابع والمزاج النفسي الذي يعيشه القاص الذي لا يملك في اغلب قصصه الاّ ان يفلسف علاقاته بالآخرين والسلطة والمكان.
كما انه يحاول في التقنية الثانية ان يجرب تقنية اكثر تعقيدا في مجال تعدد مستويات السرد داخل المتن القصصي وهو ما وراء السرد، حيث تتشكل ملامح بناء الشخصيات على اساس تركيب مستويات متعددة، يبرز فيها ضمير المتكلم مع ضمير المروي له، وهذان الصوتان يتداخلان ليس في صنع زمنين متضادين، اذ ان الزمن هو زمن فلسفي اكثر منه وجودي، وانما في صنع مستويات بنائية متداخلة ومتراكبة، ففي قصة (انجيلكو) تبدو هذه التقنية واضحة يتداخل فيها مستوى القص السردي العادي مع مستوىالسرد الثانوي الذي يقوله بطل الرواية (في القصة) وطبعا هذا المستوى (لا يحقق للسرد القصصي معادله الموضوعي الاّ حين يوجد القاص نظام عال للسرد تضمحل فيه المسافات بين الماضي والحاضر) واعتقد ان القاص جليل القيسي قد تمكن من تخليق مركزية (سردوية) مقابل وجود مجالات سردية ثانوية، لا زمن مستقل لها، لكن احداثها تصب في المجال الموضوعي للبطل/ المركز.
ان خاصية القصة الثقافية التي يكتبها القيسي كانت لازمة لأغلب قصصه الاخيرة، وكأنه يحاول من خلالها بيان قدرته الفائقة والتعويضية على مقاربة حيوات (استعاراته) لتكون فعلا اشباعيا تتوازن فيه وحدته القاسية وغربته الداخلية مع العالم الصاخب والضاج بالموت والحروب والقمع والهجران!! انه صانع الفات بامتياز اصوات ابطاله (الاستعلائيين) والمتمردين تملأ النص يدعوهم بإفراط لمشاركته لعبته القاسية في الوحدة.
ان الساحر والحكواتي جليل القيسي صنع موته مقابل عزلته!!! الموت الفيزيقي لم يكن يعنيه شيئا، فهو يمارس نسيان العالم والامكنة كل ليلة ويستحضر (ارانجا) وطقوس (الارانجيين) يبادلهم احلامه ووحدته ومراثيه، يكتب عن زمنه (الغائب) بنوع من التورية المعرفية، اذ لا نجد ثمة فراغا في تدوين يوميات هذا الزمن، ولا نجد ترهلا في طقوسه او حتى في نسيجه اللغوي/ البنائي، انه يكتب بحرفنة غريبة، الواقع بين يديه يفقد تدفقه العابر، يتحول الى واقع اخر له اسراره وغرائبه وطقوسه، وكأنه يقول تلك هي صناعة الساحر والحكواتي، اذ يلملم وقائع الاخرين وربما واقعه الخارجي المكشوف والمباح عند جعبة الساحر الذي يتلبسه ليخرج منها طيورا وطقوسا ونصوصا غريبة لا يفك شفراتها الاّ من يدرك سرانية العالم الداخلي للارانجين القدامى.
مات هذا الساحر بصمت مريع، اراد ان يلحق صديقيه القديمين مؤيد الراوي وجان دامو، وليترك لنا أثرا غائرا لكنه قاسي!! من الاسرار والصحائف الطلسمية التي تحتاج الى قراءة اركولوجية وقراءة ذهنية، وقراءة نقدية تكشف بمجملها عن حيوية النص الذي كتبه جليل القيسي، كونه شاهدا على زمن الهجرات وزمن التحولات وزمن انهيار الاسرار وانكشافها على فضائح الجسد والروح والمدن.
مات جليل القيسي في لحظة الموات التاريخي مات وكأن موته احتجاج على عالم يفقد توازنه ويرحل في زورقه السكران الى لجة غائرة.